لم تكن قضايا التنمية حاضرة فى بؤرة الاهتمام العام مثلما هى اليوم. فمن قضايا المعيشة اليومية ومستويات الأسعار، إلى الرؤى والخطط والبرامج التنموية والمشروعات الملائمة فى إطارها، إلى القروض وأعبائها وفعاليتها، إلى نماذج التنمية المثلى، وتجارب دول، كسرت طوق الفقر والاستتباع، وهزت موازين القوة والثروة الدولية. لا شك فى أن هذه القضايا، أو بعضها، تشغل المواطنين، وصناع القرار فى مصر، وفى مختلف دول العالم، وخاصة دول العالم النامى، التى نشأت التنمية، كحقل مستقل بعد الحرب العالمية الثانية، مرتبطة ببحث مستقبلها، وسبل النهوض باقتصاداتها. ولم يعد الاهتمام بقضايا التنمية، حكرا على الدول النامية، أو ذات الدخل المنخفض، والمتوسط فحسب، فسياسات التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، والدور الاقتصادى للدولة، وقضايا التوظيف والتوزيع الأمثل للموارد، وأنماط التبادل الاقتصادى، وتداعيات العولمة على اقتصادات الدول والفئات الاجتماعية المختلفة بداخلها، أصبحت جميعها أسئلة ملحة فى معظم دول العالم، خاصة منذ الأزمة المالية العالمية التى ضربت النموذج الاقتصادى الليبرالى، ولا يزال العالم يعيش آثارها، وتبعاتها، على مدى العقد الأخير. ولا تنحصر رؤى وقضايا التنمية فى بعدها الاقتصادى فحسب، فقد تطور فكر التنمية من التركيز على الأبعاد الاقتصادية المباشرة إلى مفاهيم أكثر شمولية تهتم، إلى جانب ذلك، بجودة حياة الإنسان والأبعاد الاجتماعية والسياسية والبيئية، وهو ما واكبه ظهور مفاهيم ومؤشرات للتنمية ذات أبعاد مركبة، مثل التنمية الإنسانية المستدامة. وعلى الصعيد العملى، نرى قضايا التنمية حاضرة بقوة كعنصر أو بعد فاعل، فى إطار العديد من القضايا الحيوية والمجالات المتنوعة. فالأمن على سبيل المثال، له جذر تنموى واضح، وهناك توافق حول ضرورة محاربة الفقر والتهميش لتجفيف منابع العنف والإرهاب، فى إطار انتهاج مقاربة أمنية متكاملة. وقضايا السياسة تخترقها التنمية على مختلف المستويات، بداية بتشكيل انحيازات وبرامج الفواعل السياسية، وصعود وخفوت نجم تيارات وقوى سياسية بعينها، وإسباغ - أو نزع - الشرعية عن أنظمة حاكمة، مرورا بعلاقة الديمقراطية بالتنمية تأثيرا وتأثرا، وانتهاء إلى أنماط التفاعل والتبادل مع قوى خارجية خاصة، فى ظل الصعود التنموى لقوى جديدة، انتمت تقليديا لدول الجنوب، وما يشكله ذلك من تحد لهيكل وآليات عمل السياسة الدولية، فضلا عن كونه فرصة محتملة لتعاون بشروط أفضل، ونموذج لغيرها من الدول الصاعدة. على هذه الخلفية، يتناول هذا العدد من مجلة الديمقراطية مفاهيم وقضايا متنوعة مرتبطة بالتنمية فى أصولها، ومعانيها، وتطورها، وتجلياتها على المستويات الوطنية والدولية. وتتناول دراسة العدد، قضية العدالة الاجتماعية وتطورها فى مفاهيم، وخطاب ورؤى التنمية المختلفة. ويفرد ملف العدد لبحث مجموعة من القضايا ذات الصلة بالتنمية فى مصر والعالم. وتقدم المقالات تشريحا للأبعاد النظرية لمفاهيم التنمية، فتعرض وتحلل دورة حياة الأفكار، والنظريات الكبرى فى التنمية، وعلاقتها بالتحولات السياسية والاقتصادية العالمية، والسياقات فى الدول النامية، وكيف تأثرت وتعدلت تلك الأفكار والتوجهات، بفعل تداعيات تنفيذها فى الواقع، محاولة علاج قصور بدا فى تطبيقاتها، وانحيازاتها فى بعض الأحيان، بينما أخفقت فى ذلك وظلت حبيسة «حكم الخبراء» والمؤسسات الدولية فى أحيان أخرى كثيرة. أيضا، من القضايا المحورية التى يثيرها الملف؛ إمكانيات ومتطلبات اتباع تنمية مستقلة ومستدامة، وتطور خطاب وممارسات المؤسسات المالية الدولية على صعيد التنمية، وسؤال الديمقراطية وعلاقته بالتنمية، وهل الديمقراطية شرط ضرورى لحدوث التنمية، أم أن هناك نماذج للاستبداد الكفء، ودور الدولة فى التنمية، وما إذا كان الصعود الاقتصادى لعدد من دول الجنوب يمثل دافعا إيجابيا لتنمية. الجنوب بوجه عام، سواء من خلال اتباع نفس النموذج، أو تطوير أنماط أكثر إيجابية للتفاعل الاقتصادى، عبر محور الجنوب-الجنوب. فى نفس الإطار، يلقى قسم «قضايا مصرية» الضوء على عدة قضايا متصلة بالتنمية فى سياقها المصرى، فيتناول أحدها منظومة التعليم، تلك المسألة الجوهرية التى تقع فى القلب من أهداف التنمية والنهوض بالبشر، انطلاقا من تقويم مبادرة إصلاح التعليم الأخيرة. كما تعرض مقالات القسم الخبرة التراكمية لسياسات الهيكلة بالتقشف، والنخب الاجتماعية فى مصر وإستراتيجيات تشكلها، فضلا عن موقع مصر على خريطة القوى الناعمة، وسبل تعزيزه، من خلال مقاربة شاملة تضم بين عناصرها التعليم، والثقافة، والاقتصاد، وجودة الحكم، وقوة العلاقات الدبلوماسية. مجلة الديمقراطية - عدد اكتوبر 2017