ضيف غير مرغوب فيه؛ سواء جاء في موعده أو ظهر مبكرًا، أو كان لطيفًا فتأخر قليلًا، إنه الشعر الأبيض.. نادرون هم من وصولوا لمرحلة الأربعينيات، ولم تظهر لديهم شعرة بيضاء واحدة، يشعرون بلا شك أنهم مميزون، ومازلوا أصغر سنا ممن بلغوا نفس أعمارهم وزارهم الشعر الأبيض؛ سواء بكثافة أو على استحياء، حتى وإن لم يعلنوا فرحتهم بهذا الأمر، فالأكيد أن هناك نوعًا من الفخر الشخصي الذي ينتابهم من وقت لآخر. والحقيقة أن هؤلاء - دون غيرهم - يصدمون حين تفاجئهم شعرة بيضاء في منتصف الرأس أو في إحدى السالفتين، وكأن تأخر المشيب هو الأصل، أو أنهم مازالوا في العشرين من عمرهم، بل قد يصل الأمر بالبعض أن يتساءل عن سبب هذا الظهور المفاجئ الذي قد يرجع سببه إلى صدمة نفسية أو زعل شديد. لم يصل بي الحال إلى تلك الدرجة، لكن ظهور الشعرة البيضاء الأولى بعد أن تخطيت الأربعين لم يكن أمرًا سهلًا، لم أستسلم للوضع الجديد بسهولة، وبدأت أبحث عن الأسباب، وكأن الأمر لم يكن متوقعًا، وما بين المعلومات العلمية التي تتحدث عن صبغة الميلانين الموجودة في الجسم، والتي تعطي الشعر لونه الأسود، ويخف إنتاجها مع تقدم العمر فيتحول إلى اللون الرمادي، ومن بعده الأبيض، إلى التأكيد العلمي أيضًا على أثر الضغوط النفسية على ظهور بعض الشعيرات البيضاء.. لم تشف تلك المعلومات قلقي من ازدياد الوضع سوءًا كل يوم، وبرغم أن الحال استمر أكثر من عام حتى ظهرت الشعرة الثانية، إلا إن الإحباط كان قد تمكن مني، وأخذت أسأل أصحاب الخبرة ممن سبقوني في هذا الدرب كيف أتعامل مع هذا الضيف الجديد الذي بات "صاحب بيت"، وقريبًا سيصبح هو الأغلبية والباقي أقلية. النصائح تضاربت بين نزع شعرة أو اثنتين لن يضر شيئًا، أو صبغ الشعيرات القليلة سيكون مجديًا، لكن أغلب النصائح ذهبت إلى قص الشعرة البيضاء - خاصة إن العدد مازال قليلًا - فيمكن مداراته بهذا الأسلوب، بعيدًا عن نزع الشعر الذي قد يحفز فروة الرأس لمزيد من الشعر الأبيض، وكذلك تأخيرًا لاستخدام الصبغة التي سألجأ إليها يومًا لا محالة.. بالفعل أقدمت على هذه الخطوة مرتين أو ثلاث؛ حتى وجدت أني أقص عددًا أكبر من الشعر وبدأ يهيأ لي أني سأظل أفعل هذا شعرة وراء أخرى، حتى لن يتبقى لي سوى شعرة سوداء واحدة، وحينها سأفعل كما فعل الرجل في النكتة القديمة، حين ذهب الزبون إلى الحلاق وليس لديه في رأسه سوى شعرتين اثنين، وطلب منه أن يفرق له شعره من النصف، وحين اقترب المشط من شعر الرجل سقطت شعرة، ولم يتبق إلا واحدة، فطلب منه الزبون بكل ثقة: "أنكش لي الباقي بقى".