"سجل برأس الصفحة الأولى أنا لا أكره الناس ولا أسطو على أحد ولكني إذا ما جعت آكل لحم مغتصبي" بهذه الكلمات سجل الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، الذي تحل اليوم 9 أغسطس ذكرى رحيله، اسمه كواحد من المقاتلين من أجل القضية الفلسطينية بجوار غسان كنفاني وناجي العلي وغيرهما. ولكن "شاعر المقاومة" كما أطلق عليه في السنوات الأولى لظهوره اتخذ موقفًا مغايرًا بعد ذلك عرضه لانتقادات واسعة سواء بين أبناء الشعب الفلسطيني، من بينهم ناجي العلي نفسه الذي انتقد مواقفه السياسية في أحد كاريكاتيراته اللاذعة، أو بين العرب عمومًا، حين خرج في أشعاره من حيز القضية الفلسطينية إلى رؤية إنسانية واسعة، يرى كثير من النقاد أنها نقلة مهمة في شعر درويش، وخطوة نحو النضج. هذه النقلة في شعر درويش تدفع للوهلة الأولى للتصور بأن علاقته بالكيان الصهيوني كانت جيدة، أو أنه يحظى بتأييد داخل الكيان الصهيوني سواء من خلال آلته الإعلامية، أو على الصعيد السياسي، غير أن الوضع يبدو عكس ذلك. "لتوقفوا الحديث عن خطوات الأنبياء وحرب بلعام وقبر راحيل. إنه القرن الحادي والعشرون. مطلوب ثورة ثقافية بين السياسيين في إسرائيل؛ حتى يفهموا أنه لا يمكن مطالبة الشباب هناك بانتظار حرب قادمة. العولمة تؤثر على الصبية، والشباب يريدون السفر والحياة وبناء حياة خارج الجيش. إن كان ثمة يأس أيضًا بين الإسرائيليين، فهو علامة طيبة. ربما يؤدي اليأس لضغط شعبي على القيادة لكي تخلق وضعَا جديدَا". هكذا صرح محمود درويش في حوار له نشر عام 2007، وهي التصريحات التي عرضته لهجوم شديد ممن رفضوا ما وصفوه بحديث درويش باسم الشعب الفلسطيني. علاقة سلطات الاحتلال بمحمود درويش تبدو علاقة ملتبسة، متقلبة، تحكمها أمور معقدة. في 1988 شن عضو الكنيست اليميني المتطرف إسحق شامير هجومًا ضاريًا على درويش داخل الكنيست، قارئًا أمام الأعضاء قصيدته "عابرون في كلمات عابرة" التي يقول فيها: ". . . فاخرجوا من أرضنا من برنا.. من بحرنا من قمحنا، من ملحنا من جرحنا من كل شيء واخرجوا من مفردات الذاكرة أيها المارون بين الكلمات العابرة" وقال شامير آنذاك إن محمود درويش واحد من المحرضين للشعب الفلسطيني على التمرد ضد سياسات الكيان، واصفًا إياه بالشاعر "المشبوه". وعزز من موقف شامير أمام أعضاء الكنيست أن القصيدة خرجت بعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي اندلعت في عام 1987. مواقف الحكومات المتعاقبة من محمود درويش قد تبدو محيرة عند النظر إليها دون التعمق في تفاصيل المجتمع الإسرائيلي. في عام 2000 اقترح وزير التعليم آنذاك تدريس قصائد محمود درويش في المدارس الإسرائيلية، بيد أن قراره قوبل باعتراض من رئيس الحكومة آنذاك إيهود باراك، الذي برر رفضه بأنه "الوجدان الإسرائيلي غير مهيأ لقبول هذه الخطوة". رد فعل إيهود باراك، المنتمي لحزب العمل ذي الخلفية العلمانية اليسارية الذي يدعم خيار إقامة دولتين بعد تسوية سياسية، قد يبدو مفاجئًا، بخاصة أن القوى اليسارية في فلسطينالمحتلة تدعم التقارب العربي الإسرائيلي. ولكن الوضع في فلسطينالمحتلة تحكمه اعتبارات أخرى؛ فالضغوط التي تمارسها أحزاب اليمين المتطرف، وعلى رأسها حزبا: "البيت اليهودي"، و"إسرائيل بيتنا" تضع الأحزاب اليسارية في موقف حرج، بخاصة أن الأولى تكسب شعبية كبيرة لدى أصحاب التوجه اليميني من اليهود. لذلك تبدو أية خطوة في طريق الاقتراب من العرب مقبولة، إلا درويش. هذه الملف فتح مرة أخرى العام الجاري بعد أن شنت صحف إسرائيلية هجومًا عنيفًا ضد القوى اليسارية مشيرة إلى تواصلها مع عدد من القوى المناهضة للاحتلال الإسرائيلي حول العالم. وفي السياق نفسه شن نفتالي بينيت، وزير التعليم، هجومًا شديدًا على بنيامين نتانياهو رئيس الوزراء لسماحه بتدريس أشعار محمود درويش في المدارس الإسرائيلية، مع أن هذا الهجوم على نتانياهو يبدو غريبًا بخاصة لانتمائه لحزب الليكود اليميني. في 2005 أثار رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق ضجة كبيرة بعد أن أعلن إعجابه بشعر محمود درويش، بخاصة ديوانه "لماذا تركت الحصان وحيدًا". وقال شارون وقتها إنه يحسد الفلسطينيين بسبب علاقتهم الوجدانية بالأرض. ولم تمنع جرائم شارون ضد العرب الصحافة الإسرائيلية، وبخاصة اليمينية، من انتقاده بشكل لاذع. الحكومة الحالية تبدو سياستها تجاه محمود درويش واضحة، بخاصة مع المواقف المتكررة لوزيرة الثقافة ميري ريغيف التي أعلنت مرارًا وتكرارًا عداءها ل"شاعر الأعداء" كما تصفه. في يوليو 2016 هز زلزال إسرائيل بعد أن أذاع أحد البرامج على إذاعة جيش الاحتلال قصيدة "سجل أنا عربي"، الأمر الذي تسبب في ردود أفعال غاضبة في الرأي العام الإسرائيلي. ميري ريغيف وصفت الإذاعة الإسرائيلية بأنها "فقدت صوابها" مشيرة إلى أنه "غير مسموح بنشر كتابات درويش بأي شكل". بعدها بشهرين غادرت ريغيف حفل توزيع جوائز "أوفير للإنتاج السينمائي"، التي تعد الجائزة السينمائية الكبرى في إسرائيل؛ وذلك اعتراضًا على تقديم مغني الراب الفلسطيني تامر نفار قصيدة "بطاقة هوية" المعروفة باسم "سجل أنا عربي". ورأت ريغيف أن درويش يدعو الشعب الفلسطيني ل"أكل لحم اليهود"؛ لقوله: "وأني إذا ما جعت آكل لحم مغتصبي". وبعدها استمرت حملة ريغيف ضد درويش، ممثلًا في حفلات نفار، حين هاجمت بلدية حيفا التي أعلنت عن إقامة حفلة لنفار، فيما أعلن نفار إصراره على تقديم أغاني درويش. وكانت بلدية حيفا قد تعرضت لانتقادات شرسة، بلغت حد التهديدات، من قبل اليمين المتطرف الذي رفض تقديم أشعار محمود درويش. وأشارت "المصدر" إلى أن بعض أعضاء حزب الليكود (حزب رئيس الحكومة نتانياهو)، هددوا بأنه لو أقامت البلدية الحفل فإنهم سوف "يفجرونه"، بحسب تعبير الصحيفة، وهو الأمر الذي ترجح الصحيفة أنه دعا البلدية لإعلان احتمالية الإلغاء. في يونيو من العام الجاري أثارت ريغيف الجدل مجددًا بعد أن افتعلت أزمة في حفل تسليم جائزة "إيمي" الموسيقية التي فازت بها المطربة الفلسطينية ميرا عوض. وكان على ميرا أن تختار أغنية لتقدمها في الحفل، فاختارت "فكر بغيرك" لمحمود درويش، الأمر الذي أثار غضب وزيرة الثقافة التي جددت رفضها لتقديم أشعار "شاعر الأعداء" قائلة: "غناء عربي أهلًا وسهلًا، أما درويش فلا". كل هذه المحاولات لإسكات صوت درويش تبدو غير ذات جدوى مع رغبة الجيل الجديد في التعرف إلى الثقافة العربية، الأمر الذي تمثل في ترجمة أشعار محمود درويش للعبرية. وتشير تقارير إسرائيلية إلى أن كتب درويش تحقق مبيعات عالية رغم رغبة الحكومة في إخفاء كتاباته بأي طريقة ممكنة.