ربما أصاب البعض حينما وصفوه بمُطلق "شرارة الثورة"، وأول من اصطلى بنارها، في حين رآه آخرون "الرئيس المظلوم" الذي استطاعت الهالة التي فرضتها سيرة "ناصر" أن تُسقط ذكراه من التاريخ .. أنه أول رئيس للجمهورية محمد نجيب. ولد محمد نجيب لأب مصرى، وأم سودانية فى 19 فبراير عام 1901 بالخرطوم، ثم التحق بالكتاب لحفظ القرآن الكريم، نشأ الطفل لا يحلم سوى بارتداء "البدلة العسكرية" تماما، مثل والده الضابط الذى شارك فى معارك السودان عام 1898، ولا يكره سوى "الإنجليز". استغل "نجيب" فترة شبابه الأولى فى الدراسة، فالتحق بكلية الحقوق، وفى عام 1927 كان أول ضابط فى الجيش المصري يحصل على درجة الليسانس في القانون، بعد ذلك بعامين حصل على دبلوم الاقتصاد السياسي، وأتقن 5 لغات، هي: الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية والعبرية. وعقب قرار الملك فؤاد بحل البرلمان، وتعطيل الحياة النيابية عام 1929، كان النحاس باشا وريثا للزعامة الشعبية، برئاسة حزب الوفد، بعد وفاة سعد باشا زغلول، وثارت ثائرة الشاب العسكرى، واعتلى أسوار قصر النحاس بالمرج، والتقى الباشا وعرض عليه تدخل الجيش للإطاحة بالملك، لكن النحاس رفض هذا العرض، قائلا: أفضل أن يكون الجيش بعيدا عن السياسة، وأن تكون الأمة هي مصدر السلطات. لم يكن نجيب يعلم آنذاك أن هذه النصيحة ستطيح به من "كرسى الرئاسة" عام 1954، حين أصر على الفصل بين السلطات واحترام الديمقراطية، وأنه سيبقى رهن الاعتقال فى "قصر النحاس" بعد 25 عاما من هذا التاريخ. جاء يوم الرابع من فبراير عام 1942، حيث حاصرت الدبابات الإنجليزية قصر عابدين، لإجبار الملك فاروق على تشكيل النحاس الوزارة أو تنازله عن العرش، فانتفض "نجيب" ضد هذا التعدي السافر من الإنجليز، وقدم استقالته احتجاجا على هذا التحرك، لأنه لم يتمكن من حماية مليكه الذي أقسم له يمين الولاء، ونالت هذه الاستقالة استحسان القصر، وقوبلت بالرفض، وبعد عامين عُين القائم مقام "العقيد" محمد نجيب حاكما عسكريا على سيناء. ومع اندلاع حرب فلسطين عام 1948، كان الأميرالاي "عميد" محمد نجيب يتقدم الصفوف الأولى فى الجيوش العربية، وتولى قيادة اللواء الأول، وأظهر بسالة واستماتة منقطعة النظير في القتال، وأصيب إصابات قاتلة كادت أن تودى بحياته، وعندما وضعت الحرب أوزارها تجرع نجيب ومعه الجيش مرارة الهزيمة. ومع مطلع الخمسينيات نجح البكباشى جمال عبد الناصر فى تشكيل تنظيم سرى عُرف ب"تنظيم الضباط الأحرار" الذي سعى لإصلاح أوضاع الجيش بعد هزيمة فلسطين، وإصلاح الحياة السياسية، وصولا لتحرير البلاد من الاحتلال الإنجليزي، ولكنهم كانوا يبحثون عن دعم قيادة كبيرة داخل الجيش، يحظى باحترام أفراده، وكان نجيب هو "الكنز الثمين" الذين عثروا عليه - بحسب وصف عبد الحكيم عامر- الذى كان يخدم مع اللواء المحبوب، صاحب البسالة والنزاهة، ومحارب الفساد، فوافق عبد الناصر على الفور. وقد نافس "نجيب" حسين سرى عامر مرشح الملك على رئاسة إدارة نادى الضباط، ونجح بدعم "الضباط الأحرار"، هنا انتفض الملك وقرر حل النادى، فكانت الطلقة التى أصابت عرش البلاد، وتحرك الجيش فى ليلة الثالث والعشرين من يوليو عام 1952، وكان فاروق حينها يمضى عطلته الصيفية فى قصر رأس التين، فى حين كانت الدبابات تطوق شوارع القاهرة، ووصل بيان الثورة إلى عاصمة الثغر، وسادت الفرحة والترحاب فى سائر أنحاء مصر، لم يكن الضباط الأحرار أنفسهم يتوقعون هذه النتائج، بدأت مطالبهم بتشكيل على باشا ماهر الحكومة، ثم قفز سقف المطالب ليصل إلى تنازل الملك عن العرش لولى عهده، ومغادرة البلاد قبل مساء يوم السادس والعشرين من يوليو، وكان لهم ما أرادوا، لتنجح ثورة 23 يوليو. وخلال رئاسة "نجيب" مجلس قيادة الثورة، صدر قانون الإصلاح الزراعة فى التاسع من سبتمبر عام 1952، وفى الثامن عشر من يونيو عام 1953 تولى نجيب رئاسة الجمهورية بعد إلغاء الملكية، وتخلى عن قيادة الجيش لعبد الحكيم عامر، ومجلس قيادة الثورة لجمال عبد الناصر. ومع بزوغ شهر مارس عام 1954، بدأت أزمة جديدة عرفت ب"أزمة الديمقراطية"، فنجيب كان يريد إقامة حياة ديمقراطية نيابية سليمة، وكتابة دستور جديد للبلاد، بحسب المبدأ السادس من مبادئ الثورة، وأن يعود الجيش إلى ثكناته، بينما "ناصر" ومعه سائر المجلس لا يرى أن الأحزاب السياسية قادرة على تحقيق هذا الأمر. وفى 24 نوفمبر 1954، صدر قرار بعزل "نجيب"، ووضعه تحت الإقامة الجبرية فى قصر"زينب هانم الوكيل" زوجة النحاس باشا، ليظل سجينا طيلة فترة حكم الرئيس جمال عبدالناصر، حتى أفرج عنه الرئيس السادات فى بداية حكمه. مع إفراج السادات عن نجيب، بدأت المسيرة نحو إعادة الاعتبار لهذا الرجل، حيث أراد "نجيب" أن يعيد الاعتبار لنفسه أولا فكانت مذكراته وشهادته عن الحياة السياسية فى مصر، من خلال مؤلفاته الثلاثة "مصير مصر"، و"كلمتى للتاريخ"، و"كنت رئيسا لمصر"، ويقول نجيب عن إطلاق سراحه فى مذكراته "كنت رئيسا لمصر": قال لي السادات "انت حر طليق".. لم أصدق ذلك بسهولة، فالسجين في حاجة لبعض الوقت ليتعود على سجنه، وفي حاجة لبعض الوقت ليعود إلى حريته، وأنا لم أكن سجينا عاديا كنت سجينا يحصون أنفاسه، ويتنصتون على كلماته ويزرعون الميكروفونات والعدسات في حجرة معيشته، وكنت أخشى أن أقترب من أحد حتى لا يختفي، وأتحاشى زيارة الأهل والأصدقاء، حتى لا يتعكر صفو حياتهم، وأبتعد عن الأماكن العامة حتى لا يلتف الناس حولي، فيذهبون وراء الشمس، ولكن بعد فترة وبالتدريج عدت إلى حريتي وعدت إلى الناس وعدت إلى الحياة العامة. وفى عهد الرئيس الأسبق حسنى مبارك، بدأت إعادة الاعتبار لنجيب تظهر فى صورة أشد رسوخا ، ففى 21 إبريل عام 1983، أمر مبارك بتخصيص فيلا في حي القبة بالقاهرة لإقامة محمد نجيب، بعدما صار مهددا بالطرد من قصر زينب الوكيل نتيجة حكم المحكمة لمصلحة ورثتها الذين كانوا يطالبون بالقصر، لكنه كان رافضا مغادرة القصر الذى مكث فيه ثلاثة عقود، ولم يعد لديه أقارب يعيش بينهم، بعد أن مات اثنان من أولاده. رحل محمد نجيب في هدوء عن عمر يناهز 83 عاما فى 28 أغسطس 1984 بمستشفى المعادي العسكري فى القاهرة، وأقيمت له جنازة عسكرية تقدمها رئيس الجمهورية، فى بادرة تقدير لتاريخ الرئيس الأول، وفى عهد مبارك أيضا أطلق اسم محمد نجيب على إحدي محطات الخط الثانى لمترو الأنفاق، وعدد من المنشآت والشوارع والميادن العامة. وعقب ثورة الثلاثين من يونيو، احتفلت مكتبة الإسكندرية بافتتاح موقع إلكتروني لأول رئيس لجمهورية مصر العربية، الرئيس محمد نجيب، وذلك فى عهد الرئيس السابق عدلى منصور، والذى يضم صورا نادرة وخطابات ووثائق تاريخية للرئيس نجيب. واليوم دشن الرئيس عبدالفتاح السيسى قاعدة "محمد نجيب العسكرية" بمنطقة الحمام، غرب الإسكندرية، لتكون أكبر قاعدة عسكرية فى الشرق الأوسط، وتكتب فصلا جديدا فى تاريخ إعادة الاعتبار ل"رئيس مصر المظلوم".