يطرح الموقف الراهن في مصر أسئلة كثيرة عن السيناريو القادم، بعد أحداث التحرير ومحمد محمود ومجلس الوزراء الأخيرة، التي أظهرت تصاعدًا في مستويات العنف من جانب الدولة، وغموض وتخبط في القرارات، التي تظهر وبوضوح أن الأفق السياسي للدولة محدود ومتضارب.. في ظل تلك الأحداث، هناك عدد من السيناريوهات مستقبلية، يحللها الدكتور شريف يونس المؤرخ والمترجم وأستاذ التاريخ بجامعة حلون، في حوار شامل مع "بوابة الأهرام". يري يونس في الحوار أن السيناريوهات الإيرانية والتركية والباكستانية كلها مستبعدة، ويتحدث يونس حول إمكانية إقامة ديكتاتورية عسكرية وتبعاتها، ويحلل العلاقة بين الجيش والإخوان المسلمون، ورهانات المجلس العسكري في المرحلة المقبلة، وأسباب صعود السلفيين والإخوان ومدى قدرتهم علي مواجهة التحديات السياسية الراهنة.. وفيما يلى نص الحوار: * كيف ترى سيناريو العنف المتصاعد الآن؟ - لا أجد فى العنف المتصاعد غير تخبط دامى.. لقد قام المجلس العسكري على مدى شهور الثورة بشحن الجنود ضد الثورة، ويبدو أنه نجح إلى حد كبير بدليل كمية العنف الوحشى المنفلت وغير المسئول. كما أن الغرض متضارب.. فتكريس الديكتاتورية الصريحة يتطلب درجة أعلى بكثير من العنف، ولو كان الغرض الوصول إلى هذه الدرجة العالية بالتدريج، فإن التدريج ضد المجلس لأنه يتلوث فى كل خطوة ويخسر قطاعات متزايدة من الجمهور، بل من أجهزة الحكم والمساعدين. ولا تبقى سوى ديكتاتورية عارية من كل ورقة توت، والبرلمان نفسه لو انعقد سيتحول إلى قاعة محاكمة لأداء المجلس، برغم أنف الإخوان والسلفيين، وأبسط ما يمكن أن يحدث استقالات جماعية منه بدت بوادرها بالفعل. * هناك سيناريوهات متعددة تطرح الآن لما يمكن أن يحدث في مصر، بعضها يطرح النموذج التركي أو الإيراني وحتي الباكستاني كحالة محتملة لما يمكن أن يحدث.. هل مصر قريبة بأي حال من أي من تلك النماذج؟ - هناك دائمًا فكرة البحث عن نموذج مشابه لما يجري، لكن ما يحدث في الواقع هو أنه في كل مرة كان النموذج يتغير وينتج الواقع نموذجًا جديدًا، بالنسبة للنموذج الإيراني، الذي يطرحه البعض هناك ثلاثة شروط مبدئية لتطبيقه في مصر، أولها أن يتفكك الجيش تمامًا، وهو أمر غير وارد، ثانيًا أن يكون هناك مشروع إسلامي متماسك وهذا غير حاصل، وثالثًا أن يكون لديك بترول وموارد غير موجودة لدينا لتنفق على هذا المشروع - الفاشل بطبيعته - لتضمن استقرار البلد اقتصاديًا إذا عزلت دوليًا.. في المقابل مصر بلد مكشوف إستراتيجيًا يأتي نصف رغيفه من الخارج ولدينا ميزانية مهتزة، كما أن اعتمادنا التكنولوجي علي الخارج كبير جدًا، وتطبيق النموذج الإيراني يحتاج إلي بناء كوادر وخبرات خارجية غير موجودة ، لذلك هو أكثر السيناريوهات المستبعدة. بالنسبة للنموذج التركي الأمر مختلف أيضًا، فالنموذج التركي بني على تعاون بين قوي مدنية وبين الجيش، إذ كان البرلمان والجيش متعاونين، ثم تسيد الجيش وأصبح قوله في السياسة مقبولًا باعتبار أن العمل كان مشتركًا، في مصر الجيش لم يشارك في الثورة وكل ما يمكن أن يقال عن مشاركته هو أنه لم يضرب الناس في التحرير، إذن لا يمكنه أن يؤسس الدولة وفقًا لفكرة الثورة علي غرار النموذج التركي وإذا أرادوا أن يعيدوا النظام القديم – الذي انتهى أساسًا- فهو نظام بوليسي لا مجال فيه للقوي المدنية بعكس النموذج التركي. أما إذا كان هناك نموذج يحاول الجيش والأمريكان تطبيقه فهو النموذج الباكستاني الذي يعتمد علي جيش إسلامي يبقي جيش الدولة، وتتولى القوى الإسلامية فيه إرهاب الشارع ونعيش في دولة إرهاب معمم، وهذا يحتاج إلي قدر من الثقة بين الطرفين الإسلامي والعسكري، وهي ثقة مفقودة في حالتنا، لأن النظام الحالي يعتمد نفس أساليب النظام القديم، ما يجعل ثقة أى جانب سياسي فيه مستحيلة فى غياب أى شفافية. * إذا كانت كل تلك السيناريوهات مستبعدة، حتى التى يتعاون فيها العسكر مع الإسلاميين، ما الذي يراهن عليه المجلس العسكرى من وجهة نظرك الآن، فى ظل عدم وجود سيناريو واضح يضمن بقاءه في السلطة ؟. - مازال الأمر الحاكم للمجال السياسي العام هو الفراغ السياسي، وهذا يعني أن لديك قوى قادمة من أسفل غير مستوعبة في مؤسسات الدولة، والاستقرار السياسي يتطلب أمرين، أن يكون لديك نشاط سياسي كبير ومستوعب داخل المؤسسات، كما يحدث في الدول الديمقراطية أو أن تكون لديك مشاركة ضعيفة ومؤسسات قوية، والأمر في الحالة المصرية هو العكس، فنحن لدينا مستوى عال من النشاط السياسي غير مستوعب في مؤسسات هي ضعيفة ومترهلة. الحل في تلك الحالة إما سلطوي يأتي بتقليل مستوى النشاط السياسي ليلائم المؤسسات العرجاء وتصفي من يخرج عليها، والحل الثاني هو أن نبني مؤسسات جديدة قادرة على استيعاب هذا النشاط، والصراع بين المفهومين هو الحاكم للموقف. * وماذا بعد تقليل النشاط السياسي؟. - يعاد تأسيس الديكتاتورية من جديد، باستعمال الحل السلطوي وإعادة إحياء النظام القديم، وهذا الحل ممكن على المستوى التكتيكي، لكنه فاشل على المستوى الإستراتيجي، نظام مبارك كان منهارا من داخله أصلًا، وقد كشفت الانتخابات الأخيرة عن مدى ضعفه وضعف الحزب الوطني، الذي لم يحصل على شيء تقريبًا، ومن نجح منهم دخل عبر قنوات أخرى، فقوى النظام القديم لا يمكن تأهيلها إلا من خلال نظام مختلف، الحزب الوطنى نفسه ضرب نفسه في انتخابات 2010، وكان بمثابة جثة حكمت 10 سنوات زيادة عن صلاحيتها، عبر مجموعة من المجرمين كونوا عصابة داخل وزارة الداخلية نفسها. * كيف تقيم تفكير المجلس في الثورة، هل يعتقدون أن ما حدث كان ثورة.. هل تصرفاتهم توحي أنهم فهموها على هذا النحو؟ - أعتقد أن المجلس لديه أفكاره الخاصة فيما يتعلق بما حدث، وهي في معظمها أفكار عمر سليمان، فهم لا يجيدون التخطيط لتلك الأمور، هم يعتقدون أنها انتفاضة مطالب ومطلبها الأساسي كان خلع مبارك وقد كان، والآن أمهلونا بعض الوقت لتحقيق باقي المطالب.. أرى أنهم يعتقدون أنها مجرد حركة مطلبية، وأن هذا الشعب يريد من يوفر له المأكل والمشرب وفقط، هذه فكرة أصيلة لديهم وهم لم يعترفوا بالثورة سوى اعتراف صوري ويراهنون على أن الكتلة الصامتة أو حزب الكنبة كافية. لكن النقطة المفصلية هنا هي أن هناك القوى الأخرى غير حزب الكنبة، وهي قوى نشطة وليست خاملة وستمارس ضغوطا كثيرة، فالمسألة ليست بالعدد، لا يمكن مقارنة كتلة هائلة خاملة بكتلة أصغر لكنها نشطة عبر مسألة العدد. * هل تعتقد أن لدى الجيش ميول إسلامية بالفعل، أم أن تحالفه مع الإسلاميين والإخوان تحديدًا لا يعدو كونه خطوة تكتيكية لحماية مصالحه؟ - الجيش يعتبر التيارات الإسلامية اللاعب الأول في الساحة المدنية الآن، وبالتالي يلعب معهم لعبة تكتيكية، لكنه غير موال على الإطلاق للإخوان أو فصيل إسلامي آخر، ولا أتصور أن الجيش يتعامل معهم على أنهم حلفاؤه، لكن النقطة هي أن بينهم علاقة قوى يجب أن تؤخذ في الاعتبار، وهذه خطة رسمت في عهد مبارك ونفذت قبل التنحي، حين اجتمع عمر سليمان بالإخوان وتفاوض معهم، ولو كان لدى الإخوان ثقة في نظام مبارك لكانوا انسحبوا من الميدان. * لكن لماذا يتحالف الإخوان تاريخيًا دائمًا مع السلطة ؟ - مشكلة الإخوان مشكلة داخلية بالأساس، ولها مشاكل عميقة خاصة بالتيار الإسلامي، لا أحد ينكر أنه منذ الثمانينيات وحتى الآن حاول الإخوان تطوير خطابهم بالاستعانة ببعض المفكرين من خارجهم للقبول بتعدد الأحزاب، والديمقراطية وقدر ما من الإنفتاح على الحريات ودور ما للمرأة في الحياة السياسية، لكنهم لايزالوا في منتصف الطريق بين الديمقراطية والديكتاتورية، فهم غير متسقين مع أنفسهم وليسوا علي استعداد حقيقي للقبول بالديمقراطية، التي تؤسس على حق الفرد لا حق المجتمع، الديمقراطية التي لا تعطي الحق للأغلبية للتحكم في الأقلية، فكرتهم لاتزال في منطقة ديكتاتورية الأغلبية، لذلك فالسلفيون الذين يرفضون الديمقراطية هم أكثر اتساقًا منهم. طريقة العمل تلك تحولك الإخوان إلي أشبه بقوي طائفية مثل الكنيسة، تدافع عن مصالحها أولًا، وتخشي من مشكلاتها الداخلية أكثر من أي شيء آخر وهذا يجعلهم أميل للديكتاتورية والتحالف مع العسكر، لكن رغم ذلك فتحول الإخوان والإسلاميين إلي قوة قمع وإقامة ديكتاتورية دينية أمر صعب لأنه يستلزم كسر الجيش وإزاحة العسكر. * من المسئول عن عدم تمرير تلك الصفقة التي تمنح العسكر امتيازات مؤقتة مقبولة لاتضعهم فوق الدولة وتضمن في الوقت نفسه إتمام عملية التحول الديمقراطي؟. - كل الأطراف مسئولة، حالة الفراغ السياسي مسئولة، والجيش بأطماعه غير الواقعية بأنه يستطيع أن يحسم "الجيم" بطريقة أو بأخرى، المشاكل الداخلية الخاصة بالإخوان وورطتهم مع السلفيين داخلهم، والقوى الديمقراطية مسئولة لأنها لم تبلور نفسها تنظيميًا بشكل جيد ولازالت تعتمد على النفير العام، الذي يستدعي الشعب في الظروف الحرجة للنزول إلى الميدان وهو ما يجعل السيطرة على كيفية حشد الناس أمر صعب، القوى الديمقراطية غير قادرة على توجيه جمهورها، وهذا يلعب دورا مهما فى إبقاء الفراغ السياسي. * كيف يمكن تفسير النجاح الذي حققه التيار السلفي الذي يدخل الساحة السياسية لأول مرة تقريبًا، بينما أخفق تيار عريق له تاريخ طويل مثل اليسار؟. - السلفيون هم الفراغ السياسي مجسدًا، هم مجموع القوى والجماهير، التي لا توجه لها، هم سلب المجال السياسي، الثورة بالنسبة للسلفيين شيء هبط عليهم من أعلى، لا هم شاركوا فيها ولا حاربوا ضدها، وبهذا المعني خارج السياسة وما يتبقي لهم من مشاركة هو الوعي الطائفي، شعارهم اليوم هو ما يوازي شعار الإسلام هو الحل، لكن بطريقة أكثر عدوانية، حديث عن الجزية ودولة إسلامية وتطبيق الحدود والمايوهات. برنامج السلفيين المتمحور حول النساء والأقليات الدينية بائس سياسيًا إلي أقصي حد، هو خطاب شهواني مقلوب يتمحور حول النساء، الحياة الاجتماعية لديهم تدور حول الشهوة وغير المؤمنين بالإسلام وهذا خطاب بائس وضيق الأفق وطائفى يعبر عن المستوى المنحط لدى قطاعات كبيرة، بسبب الديكتاتورية الطويلة التى عشنا تحت حكمها وضعف النشاط السياسي، لذلك كان السلفيون أكثر قبولًا لدخول الفلول بينهم. * هناك انتقادات كثيرة وجهت للسلفيين ومخاوف عبرت عنها وسائل الإعلام المختلفة، وإن ركزت علي أسئلة الخمر والبكيني، لكن في نفس الوقت هناك مخاوف لدي الإسلاميين وقطاع واسع من الناس الذين يوجهون نفس أسئلة الخمر والبيكيني لليبراليين بطريقة معكوسة، وهي مخاوف لم يبذل أي جهد لتبديدها أو توضيحها وعلي رأسها ما يمكن أن نسميه بمسألة خصخصة الدين، كيف تري مشكلة الخطاب الليبرالي؟. - مشكلة التيار الديمقراطي مزدوجة، فهو ايضًا يسحب على أرضه الخطاب الديني ليتحول إلى الدفاع عن البكيني والحريات رغم أن الحريات جزء طبيعي وأساسي، لكنه يكشف عن مشكلة هامة وهي افتقار الديمقراطيون الذين يريدون أن يعيشوا في دولة حديثة عصرية تشبه أوروبا، لبرنامج اجتماعي فاعل علي الأرض يحدد دور معين للدين، التمحور حول خوف الإسلاميين من سحب الدين من المجال العام هو فشل من جانب الليبراليين في بناء تصور حقيقي حول الإصلاح الاجتماعي وإعادة توزيع الثروة. *هل ندفع الآن ثمن عدم وجود إعلان لحقوق الثورة المصرية؟ - المشكلة في الثورة - رغم أن ذلك سبب نجاحها أيضًا – هي أنها كانت ثورة غير منظمة، هناك جماعات تجمعت في ائتلافات وشباب لعبوا دورًا في تفجير الحدث سواء في حركة كفاية أو حملة دعم البرادعي، لكن الحدث كان أكبر منهم، فجاء بدون تنظيم، وجزء مكون من تلك الثورة هو عدم التنظيم، وهو ما يعطي أملًا للمجلس العسكري في الفوز باللعبة ربما. انعدام التنظيم يجعل مسألة إصدار إعلان معبر عن الثورة أمرًا صعبًا، لا توجد جهة قادرة علي إصدار إعلان حقوق، هناك وثائق تظهر وتختفي ولكن لا توجد وسيلة تتبني بها القوى السياسية جميعها لوثيقة إعلان حقوق. * البعض يستدعي سيناريو 1954 حين اصطدم العسكر بالإسلاميين وانقلبوا عليهم، وأصبح كثيرون الآن يترقبون مثل ذلك الصدام، كيف ترى إمكانية حدوث صدام من هذا النوع؟. - أعتقد أن هذا هو السيناريو الانتحاري للمجلس العسكري، فالإسلاميين على كل النقد الذي نوجهه لهم هم في النهاية جزء من قوى الثورة، وحاربوا في التحرير وكان لهم دورهم وهذا صحيح، لكي يكرر العسكر سيناريو 54 يحتاج إلى تصفية الثورة وكل احد آخر أولًا، وسيفتح هذا المجال للعنف، سيصبح كل عنف مشروع، وأى حديث في السياسية سيسبقه السلاح، وانتصار العسكر سيكون بداية لسيناريو الإنهيار الاقتصادي والاجتماعي وستدخل البلد في دوامة انهيار. * ما السيناريو الذي ترجحه في الفترة المقبل؟ - سيناريو الثورة مستمرة، وفي أسوأ الإمكانات المطروحة أنه لو تم وحصل فشل للثورة والانتقال الديمقراطي، سيأتي بعد سنتين أو ثلاثة بونابرت جديد ويجمع الناس كلها حوله بمنطق الاستقرار، هذا لن يحدث اليوم أو بعد سنة، ولكن حين "تبري" القوي السياسية في بعضها وتتخلص من مساوئها.