ليست المناهج التعليمية، هى وحدها التي تقدم لنا التاريخ، ولا قرارات الرؤساء ومحاضر الجلسات الرسمية، فالتاريخ الحقيقي يقبع هناك في شخصيات عاشت، وتعيش من لحم ودم، تفرح وتحزن وتتفاعل من الحكومة، أو الرعايا، أو حتى الغزاة. وكل ذلك لاتسجله لنا سوى المصادر غير التقليدية، التى تسجل الحياة اليومية للناس من محاضر شرطة، وخطابات وقصص وحواديت وأغانى ومواويل، تنقل الصورة الحية النابضة، فتفاجأ بطعم ولون ورائحة خاصة جدا، لا يمكن أن تجدها إلا بعد أن تتبع منهج الدكتور خالد فهمي. = لكن من هو خالد فهمي؟. - أنا شخص عادي جدا، ولدت وتربيت في مصر، أسرتي ميسورة الحال، درست في الجامعة الأمريكية، حصلت على بكالوريوس اقتصاد، وحصلت على الماجستير في العلوم السياسية من الجامعة الأمريكية، ورغبت في الحصول على درجة الدكتوراة، فأحببت أن أدرس في أمريكا، وذلك ليس حبا في أمريكا، ولكن لأنني تعودت على نظام الدراسة الأمريكية، ولكن أنا في الأصل، كنت أحب أن أدرس في إنجلترا، وذلك لأسباب أكاديمية، حيث بدأت القراءة في موضوعات معينة، واكتشفت أن الناس، الذين أحب أن أدرس معهم في إنجلترا، وليس في أمريكا، وراسلتهم وتم قبولي من قبل أستاذ منهم، وذلك في جامعة "أكسفورد" في قسم التاريخ، وكان أستاذي متخصصا في تاريخ مصر، وهو"روجرأوين"، وكنت أحب كتاباته التاريخية، ودرست معه 4 سنوات، وحينما انتهيت من الدراسة، عدت إلى مصر، وأخذت أبحث عن وظيفة، ولم أجد، برغم حصولي على الدكتوراة في التاريخ من جامعة أكسفورد. ما النموذج التاريخي الذي تحب أن يحتذي به الشباب حاليا لتحقيق أحلامهم؟ - المشكلة أن طرق تدريس التاريخ في مصر تنفر الناس منه، ولكن أنا أحب التاريخ وأشعر بأنه حواديت مسلية، وأتعلم منها الكثير، ولكن التاريخ الذي درسناه، لاتتخيل أنك تعلمت منه شيئا، فهو كلام فارغ، وحكاية أن تدرس التاريخ كي تجيب عن سؤال: علل لما يأتي أو أكمل الجمل، كلام لايصلح مع التاريخ، فهو مجرد حفظ بدون فهم، والغريب أنه في مصر في سنة 1952، في كتاب التاريخ، الخاص بالصف الثالث الثانوي، كتب طه حسين مقدمة رائعة له، وكان ناظر المعارف وقتها، وقال فيها فيما معناه، إن الكتاب المقرر ليس منهجا، بل هو مجموعة نصوص لعصور مختلفة، وفي موضوعات مختلفة، وبالتالي فهو لم يكن منهجا، ولا يوجد تسلسل زمني بينها، والمقصود أن تستمتع بالنص الذي تقرأ فيه، وتعرف كيف صاغه المؤرخ بأسلوبه، وأضاف إليه رؤيته وحبكته واتجاهه السياسي، فكتب طه حسين مقدمة الكتاب للطالب وخاطبه قائلا: ستدخل الفصل، تجد المدرس يحكي لك رواية معينة في كتاب التاريخ، وتعود إلى المنزل تجد والدك يحكي لك نفس الرواية، ولكن بشكل آخر، وتقرأ نفس الرواية في الصحيفة بشكل ثالث، فيحتار أمرك، وتتساءل: ماالحقيقة؟..فدعني أقول لك إنه لاتوجد حقيقة مجردة، فالنصوص التاريخية، التي نقرأها على أنها حقائق مجردة، هي ليست حقائق بل جزء كبير منها، فن وأدب وسياسة، والمفروض أن تعمل عقلك وتكتشف هذا، والمفروض على الطالب أن يفكر في النص الذي يقرأ فيه وينتقده، ويشكك فيه، بمعنى أن تعليم قراءة التاريخ هي بداية كتابته، فلو أننا في المدارس نقرأ بشكل نقدي، ولا نحفظ وألا تصدق الكلام، الذي تقرأه، على أنه شكل مقدس، فهذا التاريخ بحق، أن تشكك فيما يقال لك، والخطوة التالية أن يكون لك رأي، وبالتالي تكون صانع حدث ولك شأن. هل تشكيكك في النصوص التاريخية هو ماجعلك تذهب للبحث عن دراسة تاريخ مصر من خلال محاضر الشرطة وروشتات الأطباء في المستشفيات؟ -إلى حد كبير، فالكنز الذي يوجد في مصر، واسمه دار الوثائق، حيث توجد بها وثائق من العصر المملوكي حتى الآن، فأنا تعلمت في دار الوثائق وأنا أدرس في أكسفورد، كانت مادتي من دار الوثائق، ومازلت ومنذ 21 عاما لم انقطع عن دار الوثائق، ولا عام، وآتي بتلاميذي إلى هنا، وماوجدته يعكس غنى دار الوثائق، وأن بها سجلات الإدارة المصرية في القرن 19، وهذا أقوى شيء بها، وتلك السجلات بها مكاتبات، من أول الوالي محمد علي وحتى العمد والمشايخ في الريف، وفي تلك المكاتبات نظام قضائي معقد، وفي أول هذا النظام القضائي محاضر البوليس في أقسام الشرطة، وهي ترصد واقع الحياة اليومية في مصر في تلك الحقبة، ووجدت أن كل المؤرخين تطرقوا لمكاتبات الوالي والحكومة، بينما مالم يهتم به أحد، هو الناس العادية وحياتهم اليومية، فركزت على هذا، وكانت رسالتي للدكتوراة عن تاريخ الجيش في أيام محمد علي، ليس التاريخ العسكري، ولكن الحياة اليومية للمجندين العاديين، وهذا مهم لنا الآن، لأن هناك من يروج أن مصر غنية وإمكاناتها جبارة، ولكن المشكلة في المصريين، وأنا في رأيي أن مصر ليست إلا المصريين، وثروتها الحقيقية فيهم. وحينما يقولون لك إن المصريين متخلفون، ولو فهموا سيشعرون بإنجازات الحكومة الرشيدة، فتلك رؤية للشعب على أنه أطفال، ويحتج من يفكر له ولا يسمع لرأيه وكتابه وصحفه، فذلك بالضبط ماكان يفعله الاحتلال الإنجليزي، فالاحتلال لم يكن يهدف للاستيلاء على بلدنا وعلى أملاكنا، بل حينما قرأت خطابات اللورد كرومر، أيام الاحتلال البريطاني لمصر، اكتشفت أنه شخص مؤمن جدا ومتدين ومسيحي للنخاع، ويرى أنه يقوم بفعل خير، ولا يريد الاحتلال، بل جاء ليفهم هذا الشعب المصري، الذي هو في نظره مجرد أطفال ومساكين، وليست لديهم القدرة على أن التفكير لأنفسهم، وهذا هو نفس الفكر الذي ينتهجه الوزراء حاليا. في حين أن التاريخ، الذي أدرسه من محاضر الشرطة يبين أن الناس في مصر، يفهمون جيدا منذ القدم، ولكن هم مغلوب على أمرهم، وأدعو الناس للقراءة في التاريخ الصحيح بدار الوثائق، وعلى الحكومة أن تفتح دار الوثائق للمواطنين المصريين، للاطلاع على التاريخ الحقيقي من خلال رصد اليومية للشعب والناس في الشارع، ليتعرفوا أن الشعب المصر لديه أعلى نسبة ولاء، ولكن يحتاج إلى من يكتشف ذلك ويعيد إليه الثقة في نفسه وفي بلده. هل دار الوثائق هي الوسيلة الوحيدة للتعرف على التاريخ؟ - لا بالطبع فهناك المتاحف، فالمتاحف ليست فقط مخازن للقطع الأثرية، وليس للسياح الأجانب بل للمواطنين، وفي الخارج، المتحف تنظم به أنشطة"محاضرات وأفلام"، ويمكن لمن يريد أن يقابل خطيبته، هناك في المتحف، لأنه ليس مفترضا أن يكون المتحف شيئا ثقيلا ومجرد تماثيل، بل لابد من عمل كافتيريات ودار عرض سينمائي، وتغيير مايعرض بالمتحف كل فترة، وليس شرطا أن يكون المعروض كله تماثيل، بل لابد من عرض مجوهرات ولوحات، فالمتحف مثل المطعم لو لم يقصده الزبائن، فأفضل له أن يغلق، أنا فعلا أحب أن يتم التغيير في طريقة عرض التاريخ المصري، ولكن لا أعلم من أين أبدأ؟. ماذا وجدت في محاضر الشرطة أيام محمد علي؟ - أهم شيء وجدته، أنه كانت هناك إصلاحات قانونية كثيرة، تمت أيام محمد علي وماتلاها، ووجدت الناس استوعبتها سريعا وتقبلتها، ولم نكن شعبا متخلفا بل تقبلنا كل شيء حديث، واستخدم الطب الشرعي في تحقيق جرائم الجنايات، وتقبل الأهالي فكرة تشريح جثث ذويهم، في حالات القتل للوصول إلى القاتل، خاصة حينما يكون القاتل، ابن العمدة في القرية، وبالتالي كل الشهود خائفون فكانت الأم تحمل جثة ابنتها، أو ابنها، إلى المشرحة لإثبات حقها، وبالتالي فكرة أن الشعب المصري كان محافظا، ولم يتقبل الطب الحديث، أو التغيرات الحديثة، هي فكرة بالية، فأنا أركز على التاريخ الاجتماعي للناس العادية، وليس تاريخ القادة، والتاريخ الاجتماعي يحتمل "أن أدرس تاريخ حي شبرا وليس مصر الدولة والسياسة". ماأهم شيء لاحظته في مصر خلال الفترة الأخيرة ويحتاج إلى مقارنة تاريخية لمعرفة أصله؟ - زيادة أحكام الإعدام، وهذا يحتاج لدراسة تاريخية وتقارير، تبين هل زيادة أحكام الإعدام، كما يقول القضاة تفسره زيادة بشاعة الجرائم وزيادة العنف؟..أم أنه كانت هناك أحكام إعدام كثيرة أيضا في حقب تاريخية سابقة؟..نحن نريد أن نعرف هل الجريمة، هي التي زادت أم أن التغطية الإعلامية القوية حاليا، هي التي أظهرتها؟.. فمن قال إنه لم تكن توجد في التاريخ المصري جرائم أكثر بشاعة من الحالية؟!.. من قال إنه لم يكن هناك أب يقتل أبناءه وزوجته وينتحر؟.. كل هذا يحتاج إلى دراسة تاريخية للوقوف على مدى الخطر الذي نحن نواجهه. بعد كل ماحققته.. هل ترى أن التاريخ"بيأكِل عيش"؟ - لا طبعا، التاريخ "مابيأكِلش عيش"، آخرك هتكون مدرس تاريخ في مدرسة، أو أستاذا في جامعة، والتاريخ سيصبح مادة مربحة، حينما يكون التاريخ مادة جاذبة للناس، وللأسف نحن المؤرخين، لا نقدم سلعة تاريخية جيدة، والكتابات التاريخية لدينا معقدة، ولا تخاطب الناس ولا تخاطب الشباب، وهذا شيء خاطئ لأنه أكثر من يقرأون حاليا هم الشباب، ولا يقرأون لإحسان عبد القدوس أو توفيق الحكيم، بل يقرأون لنفس الجيل، فسيظهر قريبا جيل من المؤرخين يخاطبون أنفسهم، ولايخاطبون الناس، فأنا على سبيل المثال، لاأعرف كتابا عن تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي مكتوبا بلغة سهلة، فليس لدي وقت أقرأ 600 صفحة لهيكل!، ولكن للأسف لا توجد مادة تشبع هذا التعطش، وللعلم من يشبع التعطش للتاريخ، هم غير المؤرخين، فالأستاذ صلاح عيسى، وهو ليس مؤرخا، "أنا أعتبره من أهم المؤرخين المصريين"، وظهر ذلك في كتابه عن "ريا وسكينة"، وكتابه "البرنسيسة والأفندي".. ورغم أن الكتاب 600 صفحة، لكن كل صفحة تقرأها ولاتشعر بالملل. كتابك "كل رجال الباشا" وهو يتحدث عن الجيش في مصر في حقبة محمد علي.. فلماذا طرحته بأمريكا؟ - هو أصلا لم يطرح سوى في أمريكا، وكان باللغة الإنجليزية، وهو كتاب أكاديمي، طرح على مستوى الدراسات والجامعات، وحقق انتشارا جيدا بين الجامعات، وكل عروض الكتب في المجلات المتخصصة، وفي مجال البحث الأكاديمي في أمريكا أشادت بالكتاب، وأصبح الكتاب يتم تدريسه في جامعات أمريكا، ولكن لم يطرح على المستوى الشعبي التجاري، لأن مادته لا تجذب الشعب الأمريكي، ولكن حينما يترجم للعربية، يمكن أن يطرح في مصر بشكل تجاري، وسيحقق توزيعا جيدا، لأن مادته تهم الشعب المصرى.