ندوة كتاب "بيتر بوركي" : روايات الناس أصدق من الجنرالات! محيط - شيماء عيسى جانب من الندوة القاهرة : طلب معلم التاريخ المصري "محمد علي صفر" من التلاميذ أن يضعوا كتبهم جانبا لمدة قصيرة ، ليلقي عليهم محاضرة كتبها شخصيا وعنوانها "أحمد عرابي المفترى عليه" ؛ فقد كانت كتب التاريخ في العصر الملكي تتجاهل هذا البطل الشعبي كونه تحدى القصر والإنجليز، ومن هنا أدرك التلاميذ الفرق بين التاريخ الرسمي والتاريخ الحقيقي!. هكذا استهل المفكر الإجتماعي السيد يسين حديثه حول الكتابة التاريخية، في ندوة عقدت بكلية الآداب جامعة القاهرة مساء أمس بمناسبة صدور الترجمة العربية لكتاب بيتر بوركي أستاذ التاريخ الثقافي بجامعة كمبريدج بعنوان "نظرات جديدة على الكتابة التاريخية" ، ترجمة الدكتور قاسم عبده قاسم أستاذ تاريخ العصور الوسطى. يركز "بوركي" بكتابه الذي صدرت نسخته العربية عن المركز القومي للترجمة ، على الدراسات العالمية التي روت التاريخ من أسفل وليس من أعلى؛ روايات الناس "صانعو الأحداث الحقيقيين" والفئات النوعية المختلفة ( مثل جنود معركة أو نساء او غيرهم ) وليس التاريخ كما يرويه القادة والحكام والجنرالات. شارك بالندوة عدد من أبرز أساتذة التاريخ المصريين من بينهم الدكتور خالد فهمي أستاذ التاريخ الحديث بالجامعة الأمريكيةبالقاهرة، والدكتور عماد أبوغازي الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة وأستاذ الوثائق بجامعة القاهرة ، بينما أدارها الدكتور محمد عفيفي رئيس قسم التاريخ بجامعة القاهرة . بيتر بوركي أستاذ التاريخ بجامعة كمبريدج رواية التاريخ يقول مؤلف الكتاب : التاريخ التقليدي يركز على الجانب السياسي وينظر للأحداث من جانب القادة دائما حكاما ورؤساء وغيرهم، ولكن التاريخ الجديد يهتم بالمقهورين والبشر عموما، وبينما كان يعتمد في الماضي على الوثيقة كمصدر وحيد لرواية التاريخ، أصبح المؤرخون يتخذون من الروايات الشفهية للناس والأعمال الأدبية والفنية. كان المؤرخ قديما يؤكد أن كلامه هو الصدق فيما يروى من احداث، لكن المؤرخ المعاصر يؤكد أنه ينقل وجهة نظر فليس هناك حقيقة في رواية احداث التاريخ خاصة كلما اتجهنا بها للقدم، وأصبح حكي التاريخ ليس قاصرا على المشتغلين به وإنما دخل فيه عدد كبير من الناس العاديين وعلماء الإجتماع والمثقفين . ومن هنا فقد سقطت أيضا نظرية "السرديات المغلقة" أو القصة المكتملة للحدث التاريخي؛ إذ دائما يستجد ما يستدعي فتح نقاش حول الأحداث من وجهات نظر جديدة . يؤكد يسين في كلمته أن كثيرا من مفكري "ما بعد الحداثة" في العصر الحالي يقللون من شأن التاريخ وسرده، معطين القيمة كلها للحاضر وحده أو ما دار في الماضي وله تأثير مباشر في الأحداث الجارية، وهو قول خاطيء بالطبع فمعرفة التاريخ أساسية للإندماج الواعي في الحاضر. لوحة السفيران للفنان هانز هولبين الشرق والغرب في كلمته أكد الدكتور خالد فهمي أن الشرق جزء أساسي من هوية الغرب لا يمكن حذفه، وهو ما أشار إليه المفكر الراحل إدوارد سعيد سابقا، مؤكدا أن الخط الذي يفصل الشرق عن الغرب واهٍ للغاية، لأن تاريخ الغرب هو مزيج من تفاعلات مع العالم والشرق بالتحديد، وليس كما يصور مؤرخو الغرب. أشار الدكتور خالد إلى لوحة شهيرة رسمها الفنان الهولندي هانز هولبين، وتحتل مكان الصدارة في المتحف البريطاني، واللوحة تعد على نطاق واسع تعبير عن بداية نهوض الغرب؛ فهي تظهر سفيرين: السفير الفرنسي في بريطانيا على اليمين عام 1533، وصديقه السفير المبعوث لمدينة البندقية، وتبدو عليهما مظاهر القوة والثراء، وفي المسافة بينهما يوجد كتب ومصغر كرة أرضية وأدوات هندسية منها ما يقاس به الزمن، دلالة على مستوى تقدم العلوم . لكن السفيرين تقف خلفهما رموز عربية منها ستارة من نسيج مشهور في مدينة الموصل العراقية، وهناك سجادة تركية مرصوص عليها الأدوات العلمية، ولهذا فتأمل اللوحة يؤكد أن الشرق جزء من هوية الغرب مهما حاول إقصاءه. أعرب فهمي عن إعجابه بفصلين من الكتاب يتناولان دراستي كل من "روي بوتر" حول "تاريخ الجسد" ، و" جان سكوت" حول "تاريخ المرأة" ، وفي الدراسة الثانية المؤرخة لا تروي عن تاريخ المرأة وإنما تروي التاريخ كما تراه المرأة وهذا هو الفرق، وقد ركزت مثلا على تأثير الثورة الصناعية على المرأة ، مؤكدة أن التاريخ كتب بطريقة أيدولوجية ومسيسة ولابد من مراجعة أحداث كثيرة فيه. أما مؤلف دراسة تاريخ الجسد فهو مؤرخ عظيم له نحو 100 كتاب ورحل عن نحو 55 عاما فقط ، وله دراسة شهيرة حول تاريخ الطب أيضا ويرويه من خلال المرضى، وقد اعتمد عليه المتحدث في كتابه حول تاريخ الطب والقانون في مصر الحديثة . تظهر بدراسة الجسد أنه لا يتكون من مجرد أعضاء وإنما أيضا أمزجة وأخلاط، والجسم مسألة ثقافية وليست بيولوجية فقط؛ فمثلا نجد أن اللورد كرومر كان يرى في كتاباته أن الجسد الشرقي وخاصة المخ متخلف عن نظيره الغربي، مبررا لذلك الفكر الإستعماري العنصري الذي يقول بأن شعوب الشرق بحاجة لمن "يحكمهم ويرعاهم دوما"! جانب من الحضور تراجع مصر الكتاب برأي الدكتور عماد أبوغازي يجعل قارئه يقارن مباشرة هذا التطور في الدراسات التاريخية وحالها في مصر الذي يعد "بائسا" ، وطريقة تدريس التاريخ لا تتغير منذ القدم، ولازلنا ننظر للتاريخ من أعلى وبالتالي يتخرج من الجامعات حفظة لتواريخ وسير شخصيات ، وليس باحثون حقيقيون في علم التاريخ. مضيفا أن نظرية "الكتاب المقرر" أفسدت العملية التعليمية في الجامعة تماما، ومن بين ذلك أقسام التاريخ بالطبع، فالأستاذ عادة يروج لكتابه مهما عفا عليه الزمان وليس لما يجدر دراسته حقا في هذه المادة. ولازلنا نركز على تاريخ أوروبا وأمريكا ولا نركز على تاريخ أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، ومازلنا نشعر بموضوعية الكتب التاريخية التي نحملها بين أيدينا، رغم أن العلم الحديث يؤكد أن هذه الفكرة وهم ، فموضوعية الباحث هي أن يعترف بإنحيازه وذاتيه لا أن يدعي أن يقول الحقيقة . كما أن الشعوب العربية عامة ينظرون للوثائق بإحترام زائد ويعطونها مصداقية، رغم أن الوثيقة والأرشيف كلاهما نتاج سلطة الدولة أو المجتمع ويدون فيهما القرارات وما يرد فيهما ليس موضوعيا بالضرورة . من جهته أكد مدير الندوة أن دول المغرب العربي هي بارقة الأمل الوحيدة في عالمنا في مجال الدراسات التاريخية، وخاصة دولتا تونس والمغرب، ولكن مصر تراجعت كثيرا في دراسات التاريخ. كما أكد أن التاريخ انفتح على العلوم الإجتماعية ولم يعد علم الماضي وإنما أصبح يهتم بالحاضر والمستقبل. الدكتور قاسم عبده مترجم الكتاب أهمية الكتاب في كلمته أكد مترجم الكتاب الدكتور قاسم عبده أن الأحداث التاريخية لا تكتب وإنما تحدث وتقرأ مرات عدة وفي كل مرة يكون الكاتب لديه غايات جديدة . انتقد المترجم المؤلف الإنجليزي الذي يراه منحازا للدراسات الغربية،وقال أن الكتاب موضوعه هام للغاية وخاصة أنه يركز على القراءة السفلية للتاريخ وليس العلوية، معتبرا أن هناك فكرا تاريخيا جادا لدى شعوب آسيا وأفريقيا ولكن ليس هناك ضوء يسلط عليه . كما اكد أن "بضاعتنا التاريخية كعرب أصبحت غير مرغوبة على مستوى العالم" ، وأن الفكر التاريخي الذي يقدم عبر الأفلام الوثائقية والروائية والآداب والفنون يحظى بمصداقية أعلى وإقبال حول العالم ، والغرب عموما يحترم هذه الروايات الحرة ولنا مثال في ذلك أفلام البي بي سي ومشاهدتها العالية. اعترض المترجم على تصنيف التاريخ ؛ تاريخ النساء وتاريخ الرجال، لأن كليهما يلعب دورا هاما في التاريخ . كذلك انتقد الدكتور قاسم وجود فصل عن الجسد اليهودي وتطور الدراسات التي تحدثت عنه، وهي نقطة يلاحظها في معظم الكتابات الغربية أنها تقحم اليهود إقحاما وكان لا داعي لوجودها . الدكتور خالد فهمي أستاذ التاريخ بالجامعة الأمريكية مداخلات في مداخلته قال الدكتور جمال عبدالمقصود أن الأفلام والمسلسلات والروايات التي تتعرض للتاريخ لا تنتمي للعلم ولكن للفن وبالتالي لا ينبغي التعويل عليها من جانب أي مؤرخ، لأن بها ذاتية عالية من جانب الكاتب، ولكن يمكن أن يستفاد منها كمصادر تنمي الدراسة. ورأى أن المؤرخ يمكن أن يكون موضوعيا حينما يستطيع إثبات ما يقوله بالأدلة الدامغة . بينما قال الدكتور نبيل الطوخي أستاذ التاريخ أن الأستاذ الجامعي يجب أن يحصل على راتب كريم يعينه على البحث والتميز أسوة بالدول المتقدمة ، كما دعا إلى تأسيس مركز مصري للدراسات الشفهية، يجمع أقوال شهود العيان على الأحداث الهامة، ويكون ذلك مصدرا للتأريخ في المستقبل. وفي النهاية تساءل الدكتور خالد فهمي لماذا استطاعت الهند تطوير نفسها في الكتابة التاريخية؟ وأجاب بأن أحد الأسباب هو ما شاهده هناك من ديمقراطية حقيقية وكذلك كسر حاجز اللغة وربما ساعد على ذلك فترة بقاء الإستعمار الطويلة، وقد أنشأت الهند مؤسسات ومدارس ابحاث نجحت في تطوير البحث العلمي . وفي مصر الأمن يقتل البحث العلمي برأي المحاضر، وليس أمامك كباحث فرصة للإطلاع على أهم الوثائق، ورغم أن لدينا دار الوثائق القومية وهي كنز كبير في المنطقة كلها ولكن يصعب الإستفادة منها بسبب الأمن أيضا . كما أن المكتبات لدينا سواء العامة أو الجامعية أو مكتبات الأقاليم تحتاج لدعم قوي، حتى تكون مكتبات للقراءة والمقابلات مع المثقفين وليس مكتبات للإحتفالات .