عن المعونة الأمريكية وإمكانية التخلي عنها، والنمط الاقتصادي الأفضل لمصر خلال الفترة المقبلة، وإحياء حلم حلم السوق العربية المشتركة، وموضوعات اقتصادية غاية فى الأهمية تشغل بال المصريين، دار حوارنا مع الدكتور أحمد محروس الدرش أستاذ الاقتصاد ووزير "التخطيط والتعاون الدولي" الأسبق. على النحو التالى: * كشف تقرير لوحدة أبحاث الكونجرس أن حصول مصر على المعونة مشروط بشهادة من وزارة الخارجية الأمريكية بأنها ملتزمة تجاه معاهدة السلام، وتأخذ خطوات لتدمير الأنفاق الحدودية بجانب عدم حكمها من قبل متطرفين، فهل ترى أن المعونة أصبحت ستاراً للضغط على مصر؟ ** من السذاجة الاعتقاد بأن المعونات الدولية من دولة لأخرى، ليس وراءها أهداف أو أغراض، فكل دولة حتى مصر لديها برنامج مساعدات فنية لدول إفريقيا بدأ منذ فترة ليست طويلة، ولاشك أننا تربطنا علاقات تاريخية وسياسية واقتصادية بإفريقيا، خصوصًا دول النيل ومنابع النيل، مما يقتضي الحفاظ على علاقات قوية.. * تاريخ المعونة الأمريكية طويل.. فهل تضعنا على تطور مراحلها عبر الرؤساء السابقين لمصر ومدى الاستفادة التي تحققت منها خلال تلك الفترات؟ ** مصر بدأت برامج المعونة منذ أيام حكم الرئيس السابق جمال عبد الناصر، حيث كان هناك القانون الأمريكًي رقم 480 الذى يتيح للرئيس الأمريكي أن يستخدم فائض الحاصلات الزراعية في مساعدة الدول النامي،ة وكانت ميزة ذلك القانون أن السلع الإستراتيجية كانت تباع مقابل العملات المحلية للدول المتلقية، وقد استفادت مصر آنذاك من البرنامج باعتباره أتاح لها الحصول على المعونات بالجنيه المصري، الأمر الذي لم يمثل ضغطًا على مواردها المحدودة من العملات الأجنبية. كانت تشارك مصر في نفس الموقف بلادأخرى كباكستان وحتى إسرائيل، وكانت الحكومة الأمريكية طبقا للاتفاقية تستخدم هذه الموارد للانفاق على أنشطة سفارتها في الدول المتلقية لتلك المعونات، ومنذ ثورة يوليو استفادت مصر من تلك المعونات وتطورت وتعاظمت في الفترة الممتدة ما بين 1975 و2000، حيث بلغت خلالها حوالي 25 مليار دولار غطت قطاعات كثيرة من الاقتصاد المصري. * لكن البعض يشكك في وجود أهداف خفية وراء تلك المعونات وأنها تحقق صالح الدول المانحة بكثير من الأحوال ولا تصب بصالح المتلقين .. فما رأيك؟ ** لاشك أن مصر استفادت منها وإذا كان البعض يعارض ويشكك في فاعلية تلك المساعدات بعملية التنمية الاقتصادية في مصر شاهد علي ذلك، ومن ناحية أخرى لاشك أنها خدمت أيضا أغراض وأهداف السياسة الخارجية للولايات المتحدةالأمريكية آنذاك، حيث أتاح لها القانون 480 إمكانية التخلص من فوائض الحاصلات الزراعية التي كانت تنتجها ودعم القطاع الزراعي الذي لايزال ينال القدر الأكبر من اهتمام الحكومة الفيدرالية إذن المعونات عادة ما تكون مبنية على منافع مشتركة ، أما ما يتعلق بالمشروطية ونوعها فتتوقف على الدولة المتلقية التي عليها أن تقيم في حالة وجود شرط معين الأضرار والمنافع التي ستعود عليها من الالتزام بذلك الشرط، كما يجب أن تقرر في ضوء مصلحتها الوطنية ما إذا مفيدًا لها أم لا، ويكون القرار النهائي بناءً على ذلك التقييم سواء بالمواففة أم الرفض. * وهل يمكن لمصر الاستغناء عن المعونة الأمريكية في مرحلة ما بعد ثورة 25 يناير؟ ** عندما توليت منصب وزير التخطيط ووزير الدولة للتعاون الدولي بحكومة الدكتور عاطف عبيد، توليت ملفين مهمين أحدهما يخص التعاون الدولي، ورأيت أننا يجب أن نعمل برنامجا زمنيا للاستغناء عن المعونة الخارجية كلية، والحق أن التحرك بذلك الملف كان قبل حتى عهدي بالوزارة، حيث تم الاتفاق بين الدولتين مصر وأمريكا على تخفيض حجم المعونة الاقتصادية بنسبة معينة سنويًا إلى أن وصلت للمستوى الحالي الذي يمكن الاستغناء عنه دون ضرر كبير يقع على الاقتصاد القومي. * البعض يرى أن أموال المساعدات والمنح التي تلقتها مصر ضاعت علي أوجه غير تنموية كعيين مستشارين وإقامة الحفلات؟ ** القول بأن المعونة الأمريكية قد استخدمت بصورة مثلى وأنها كلها استلمتها سلطات مصرية واستفاد منها مصريون بعيدا عن الحقيقة، فالدولة المانحة أحياناً تقترح الاستعانة بمعونات فنية مدفوعة الثمن، ولاشك أن قدر من المعونة استخدم لاستجلاب "معونات فنية" في هيئة مستشارين لايحضرني المبالغ التي تم إنفاقها عليهم، لكنها نسبة لا بأس بها، وعلى الدولة المتلقية استخدام تلك المعونات الفنية بأحسن شروط وبما يعود عليها بأكبر قدر من المنافع، لأنها مهمة فيما يتعلق بنقل الخبرة والتكنولوجا بين الدول. * وهل تم استخدام تلك المعونات الفنية بصورة مثالية في مصر؟ ** في بعض الحالات تم استخدامها بصورة جديدة، وفي حالات كثيرة لم يتم الاستفادة الكبيرة من تلك المعونات أو بمعنى آخر كانت المبالغ المدفوعة مقابل تلك المساعدات الفنية مرتفعة إلى حد ما. * يحمل بعض الاقتصاديين المؤسسات الدولية كصندوق النقد والبنك الدولي فشل العديد من خطط التنمية في مصر وانحراف كثير من برامجها باعتبارهما مؤسستان مسيستان ويخدمان أهداف الدول الكبرى.. ما رأيك؟ ** في تجربتي كانت علاقتنا مع المؤسستين الدوليتين هي الاستماع لما يقترحونه من مناهج للتعامل مع مشاكل التنمية الاقتصادية وقبول ما اعتقدنا أنه في صالح الاقتصاد القومي، وكنا بكثير من الأحيان نرفض الانصياع لمشروطيتهما والتي أسوأها ما يعرف ب "المشروطية المتبادية" أي الانصياع لشروط المؤسستين معاً في أي تعامل مع أحدهما، ولاشك أن "صندوق النقد" و"البنك الدولي" متأثرين بحد كبير بسياسات القوى الكبرى وعلى الأخص بسياسات الولاياتالمتحدة بصفتها أكبر مساهم برأسمالهما. * تشهد الساحة الاقتصادية بمصر حالة من الجدل حول النمط الاقتصادي الأفضل خلال الفترة المقبلة فالبعض يطالب باقتصاد حر والبعض الآخر يطالب بالاشتراكية وفريق ثالث يطالب باقتصاد حر موجه من قبل الدولة.. ما رأيك؟ ** نعم للاقتصاد الحر المنضبط الذي تكون فيه للدولة دور في الرقابة والتنظيم ومنع الاحتكار وتشجيع المنافسة بما يمكن من الانتفاع بمزايا المنافسة الحرة في إدارة الموارد الاقتصادية بالبلاد، فأنا لا أعتقد أن الاقتصاد الحر بالمعنى المطلق وبكل شروطه منصوح به، كما أن الاقتصاد الحر لا يعني عدم وجود الدولة وغياب دورها الرقابي والتنظيمي حتى في أعتى الدول الرأسمالية التي تنتهجه، وأنا أذكر في اوائل الستينيات أن الرئيس الأمريكي جون كيندى أصدر أمرًا جمهورياً لمنتجي الحديد والصلب بالولاياتالمتحدة يأمرهم بالرجوع عن الزيادات السعرية في منتجاتهم خوفًا من آثار تضخمية مضرة بالاقتصاد القومي، وهذا مثل صارخ على آليات تنظيم الاقتصاد الحر والتدخل في الوقت المناسب لتصحيح المسار، فالاقتصاد الحر لايعني فوضى حيث يتقلص دور الحكومة كمنتج ويتزايد كمراقب ومنطم للاقتصاد، وناديت عندما توليت مسئولية التخطيط والتعاون الدولي التخطيط والتنمية بالمشاركة بين الحكومة والقطاع الخاص بجانب ما سميته عقدا اجتماعيا جديدا يعاد النظر فيه بأدوار الدولة والمجتمع المدني ومختلف طوائف المجتمع. *هل كان ذلك الاقتراح سبباً للصدام المباشر بينك وبين الحكومة والخروج من الوزارة؟ ** لو نظرنا للوراء يمكن تفسير ذلك.. لم تدم مدة خدمتي بهذين الموقعين بسبب مثل هذه الآراء، حيث ناديت بما يسمى بمشاركة القطاع الخاص والمجتمع المدني في رسم الخطة الاقتصادية وتحديد أهدافها والأدوار التي يجب أن تقوم بها الحكومة والقطاع الخاص في عملية التنمية باعتبارهم كلهم شركاء في عملية التنمية الاقتصادية لأنها ليست مسئولية الدولة فقط، بل مسئولية كل طوائف المجتمع وهذا ما سميته بالتخطيط والمشاركة بجانب عقفد مؤتمر قومي لإعادة النظر في دور الدولة بالنظام الاقتصادي الجديد. * ما رأيك في أداء مصر الاقتصادي في فترة ما قبل الثورة؟ ** تقرير وزارة التخطيط عن الربع الأخير من العام المالي المنتهي أكد أن الاقتصاد القومي كان في بداية انطلاقة كبيرة ووصلت معدلات التنمية لقرابة 5.7% وهذا أمر محمود ويعكس فوائد وثمار السياسات الاقتصادية التي اتبعت في الفترة الماضية، وكنا بدأنا نتسارع في معدلات النمو حينما قامت ثورة 25 يناير والتي أثرت أثارًا سلبية بسبب غياب الأمن والاستقرار وهما الشرطان الضروريان لأي نشاط اقتصادي وأي استقدام للاستثمار المباشر. * إذن لماذا لم يشعر المواطن المصري البسيط ومحدودو الدخل الذين يمثلون الشريحة الكبري بالمجتمع بنتائج ذلك النمو؟ ** هذا صحيح، برغم أن من تحقيق الاقتصاد المصري لمعدلات نمو لا بأس بها خصوصا بالمقارنة بما يتم تحقيقه بإقليمنا، لكن ثمار هذا النمو المتسارع لم يصل للطبقات الدنيا من المجتمع ، رغم وجود نظرية يتبناها عدد من الاقتصاديين تسمى "التساقط" وتتلخص في أنه عند تحقيق معدلات نمو مرتفعة، فإن فوائده تتسرب إلى الطبقات الدنيا من المجتمع، وهذا لم يحدث في حالة مصر لأن القطاعات اللي استفادت من هذا النمو المتسارع "محدودة" وممثلة بشريحة قليلة من المستثمرين ، مما أدى لاتساع الهوة بين ذوات الدخل المرتفع والمتدني. * هل كانت تلك الفئة المحدودة من المستثمرين رجال الأعمال المرتبطين بالحزب الوطني الديمقراطي المنحل؟ ** لاشك أن بعض الأفراد الذين كانت لهم علاقات وطيدة بالنطام السابق استفادوا بنسب أكبر بكثير من صغار المستثمرين، وكانت هناك منافع متبادلة بين النظام السياسي وبينهم، لكن هذا لاينفي وجود مستثمرين وطنيين شرفاء أذكر منهم على سبيل المثال محمود العربي صاحب مصانع توشيبا العربي. * في رأيك ما أسباب تغيير مسمى وزارة التخطيط إلى التنمية الاقتصادية في فترة من فترات حكم الرئيس السابق؟ ** التخطيط كوظيفة بالنسبة لبعض الأيديولوجيات أمر غير مقبول ومشبوه ويمثل كلمة غير نظيفة برغم أن أي جهد مجتمعي لابد أن تسبقه خطة ما، فالعملية التخطيطة ضرورية لحسن إدارة الموارد، وربما ظن متخذ القرار أن مجرد تغير اسم الوزارة من تخطيط لتنمية اقتصادية سيقضي على فكرة التخطيط ويحقق التنمية وربما استجابة لأيديولوجيات معينة لاترى التخطيط وظيفة ذات أهمية، أو أنها تعطي انطباعاً بأننا تحولنا من نظام التخطيط المركزي إلى الاقتصاد الحر وبمجرد تغيير مسمى الوزارة من التخطيط للتنمية الاقتصادية ظن هؤلاء أن هذا كفيل بأن نصبح اقتصادًا حرًا. * ما رأيك في أداء الوزيرة فايزة أبو النجا وما ردك على مطالب البعض بإقالتها باعتبارها كانت وزيرة في آخر حكومات مبارك ؟ ** ليس كل من تعاون مع النظام السابق من المفسدين، ولايجب أن نضفي على أي شخص تعامل معه بمعنى أنه أصبح مسئولاً عن قطاع معين في فترة سابقة صفة الفاسد وغير الوطني، فالكثير منهم شرفاء ووطنيون ومخلصون. * في رأيك.. كيف يمكن التعامل مع شركات رجال الأعمال المتهمين بالفساد؟ ** أي وضع كان مبنيًا على فساد وعلاقات غير قانونية يجب تصحيحه عبر أعمال أحكام القانون، وأنا أرى ضرورة وضع قواعد خاصة بملكية بعض القطاعات الإستراتيجية في الاقتصاد المصري بما يضمن عدم السماح بممارسات احتكارية يكون ضحيتها الاقتصاد والمواطن المصري، وعلى رأسها الحديد والأسمنت، وفي رأيي أن المنتفعين من وراء غياب تلك التنظيمات كانوا السبب في تعطيل قانون منع الاحتكار كأحمد عز رئيس لجنة الخطة والموازنة السابق والذي كانت من مصلحته عدم تمريرها. * يتخوف البعض من استمرار نزيف الاحتياطي النقدي لمصر في المستقبل.. ما رأيك؟ ** مصادر الاحتياطي النقدي تتمثل في صادرات وتحويلات العاملين والسياحة والموارد السيادية كقناة السويس، وكلها تأثرت بشكل كبير لاسيما السياحة التي تعتبر أهم القطاعات التي تجذب موارد أجنبية وتمثل نسبة كبيرة من فرص العمل بالقطاع الخدمي لكنها استحوذت بالنصيب الأكبر من التأثير السلبي وبلغت مستويات لم تبلغها من قبل خاصة بعدما تأثرت أيضا بحالة الانكماش العالمي، لذا لابد أن يؤثر ذلك كله بالاحتياطيات الدولية لمصر، وهذا انعكس على معدلات النمو، فحسب تقرير المتابعة الصادر عن وزارة التخطيط للربع الأخير من العام المنتهي فإن معدلات النمو أصبح سالبا بمعنى أننا لم ننمو بل حدث انكماش لحجم الإنتاح القومي ، فهناك مؤشرات تقول إننا حققنا نموًا يبلغ 1.4% خلال الربع الأخير مقابل قبل الثورة 5.7% . * يراهن البعض على الثورات العربية في بعث مشروع السوق العربية المشتركة الذي تأخر لعشرات السنوات.. فهل تؤيد ذلك؟ **هناك أمل كبير في أن يؤدي الربيع العربي وتحرر عدة دول، لإعادة اكتشاف أهمية التكامل الاقتصادي العربي بالمرحلة القادمة فمن العار أننا كنا من أوائل التكتلات الدولية فيما يختص بالأسواق المشتركة وكنا في قرابة الفترة الزمنية التي بدأت فيها فكرة السوق الأوروبية المشتركة والآن أوروبا تمتلك سوقًا أوروبية بل واتحاد أوروبي وتقاربت نظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية ونحن نخطو إن كنا نخطو أصلاً بخطى السلحفاة في تنفيذ أهداف السوق العربية المشتركة، والمنطق يقتضي إذا كنا قد اجتمعنا ورفضنا أنماطا معينة من أنظمة الحكم التي كانت تتسم بالركود بكثير من نواحي الحياة لعل وعسى هذه الحركات أن تعيد بعث فكرة تلك السوق والتكامل الاقتصادي بين الدول العربية.