بات العنف سمة ملازمة لمشاهد الانتخابات داخل معظم كل البلدان، وإن كانت مصر لاتشكل استثناءً عاماً من تلك الوضعية، إلا أن العنف الانتخابي فيها لا يقارن بغيرها، لكونه الأدنى على الأقل في جانبه الدموي، ورغم ذلك، أصبح العنف الانتخابي مؤثرا فى تشكيل وهوية البرلمان. ودوماً مايدور الحديث عن مسار واحد للعنف السياسي، ذلك الموجه من السلطة إلى معارضيها من الأحزاب السياسية وقوى المجتمع المدني المشاركة بالانتخابات، إلا أن الواقع يشير إلى مسارات أخرى لهذا العنف، كامنة ليس في علاقات الأحزاب بعضها البعض، بل حتى داخل الحزب الواحد، لا تقل خطورة، إلا أن التسليط الإعلامي الداخلي والخارجي عليها شبه محدود. ولذا يكاد يكون من الصعب حصر نطاق العنف السياسي، في تلك المواجهات بين الحزب الوطني بوصفه حزب الحكومة المهيمنة على مؤسسات الدولة، على غيره من بقية أطياف المنظومة الحزبية، إنما بات ظاهرة أكثر اتساعاً، تعبر عن نفسها بشكل متواصل داخل البيئة المصرية، ومع كل مشهد انتخابي. لذا يحظى مشهد انتخابات مجلس الشعب دون غيره، مثل الرئاسية أو مجلس الشورى، بقدر أعلى من العنف السياسي، يرجع ليس لثقله داخل آلية صنع القرار فحسب، وإنما أيضاً لكثرة عدد المتنافسين بالمشهد الحالي. إذ قدر عددهم بقرابة 6200 مرشح، يتنافسون في 222 دائرة انتخابية، لانتخاب 444 نائبا( بالإضافة إلى 10 نواب يعينهم الرئيس بموجب مرسوم جمهوري ). فهذه الزيادة الكبيرة، ترجع بالأساس لزيادة عدد الأحزاب المشاركة بالانتخابات، بالإضافة للمستقلين، وتخصيص 64 مقعداً للنساء لأول مرة. في حين كان عدد المتنافسين في انتخابات عام 2005، قرابة 5177 مرشحاً، وقبلها انتخابات عام 2000 بقرابة 3957 مرشحاً. إذ إن حدة التنافس، سواء داخل الحزب الواحد، والتي عاني منها الحزب الوطني بشكل ملموس، أو بين الأحزاب بعد انهيار تحالف الأحزاب الأربعة:"الوفد، التجمع، الناصري، والجبهة الديمقراطية الذي كان ينوي مقاطعة الانتخابات"، وقرار الإخوان المشاركة، فرض نفسه بقوة على الدوائر الانتخابية، مما صعد من وتيرة الاحتكاك، التي تفضي دوماً ببروز العديد من أشكال العنف الانتخابي. يكاد يكون من الصعب فصل ظاهرة العنف السياسي، خلال المشاهد الانتخابية، عن مثيلاتها الأكثر ديمومة داخل المجتمع المصري، والتي تعبر عن نفسها بشكل يومي من احتكاك شرائح المجتمع مع بعضها البعض، بشكل أفرز أشكالا لم يعهدها المجتمع من قبل، حيث طالت ألسنته جميع مناحي الحياة. وهو الأمر الذي يعطي للعنف خلال تلك المشاهد الانتخابية سماته الثقافية-الاجتماعية.. إضافة لبعدها السياسي. فالمشهد الانتخابي رغم خصوصيته، إلا أنه بالنهاية نتاج طبيعي للظواهر الاجتماعية والثقافية السائدة بالمجتمع. وبهذا لم تعد للبرنامج السياسي للمرشح أو حتى حضوره الشعبي، " الكاريزما " الثقل الكبير لتأمين النجاح في الانتخابات، والحصول على المقعد البرلماني، إنما صاحبها إلحاح حيازة مقومات التعبئة الجماهيرية بشكليها، الإيجابي والسلبي في آن واحد. ومن هذه الثانية يكمن شيوع مؤشرات الاحتكاك مع الآخر، التي يمكن إدراجها في ظاهرة العنف الانتخابي. وهي مؤشرات متدرجة في الحدة، تبدأ بما هو معنوي - شخصي، وتنتهي بالعنف المادي - الدموي. وهي مؤشرات تعرف على بعضها الجميع، من خلال الدراما السينمائية، كان أكثرها سخرية فيلم " خالتي فرنسا ". ففي مشهد مثير، فتحت الحملات الانتخابية أبوابها على مشهد دموي، فقبل إفطار رمضاني يوم 17 أغسطس الماضي، وقع احتكاك بين عائلتي حمام، وحويلة بحي المناخ في بور سعيد، بسبب الدعاية الانتخابية لأحد المرشحين، كانت نتيجته وفاة أحد أبناء العائلة الثانية، وتدمير منازل خمسة من العائلة الأولى، وتكسير 8 محال تجارية وقرابة 18 مصاباً. وتلك الدائرة، هي إحدى الدوائر الساخنة بالمحافظة، فهي التي تم فيهااغتيال النائب السابق عبد المنعم عتمان على سلم منزله، وهى نفسها التي شهدت ظاهرة توظيف المال لخدمة الانتخابات واستمالة العائلات الكبيرة وكسب أصواتهم.. كما فعل مرشحون سابقون أمثال: عبد الوهاب قوطة، الراحل سيد متولي، حسن عمار، عصفور وعتمان. وقد أعاد هذا المشهد للذاكرة مأساة الحادث، الذي تعرض له الإعلامي فهمي عمر في انتخابات عام 1995، حينما قتل نجله وابن شقيقه، أثناء المرور على اللجان بدائرة نجع حمادي بدم بارد، ودفعوا ثمن فاتورة الصراع بين العرب وقبيلة الهوارة، لمجرد أنهم ينتسبون للقبيلة. ونفس المشهد تكرر مرة أخرى، ولكن بالمنصورة، حيث لقي شاب مصرعه، بعدما أصيب بطلق ناري وقفز في مياه النيل هربا من معركة انتخابية بالأسلحة النارية، بين نائب حالي بمجلس الشعب عن الحزب الوطني، ومنافس علي نفس المقعد. وفى الشرقية شهدت لجنة القطاوية التابعة لدائرة مركز أبو حماد، مصادمات عنيفة من جانب أنصار السيد حزين مرشح الإخوان، مما أدى إلى مقتل شخصين وإصابة 10 آخرين، ولم تخل انتخابات الشورى هناك أيضا من العنف، حيث لقي شخص مصرعه من أنصار بركات الطحاوى، عندما أقدم على قتله أنصار محمد ضياء إسماعيل. وهي الظاهرة، التي بدأت في الانتشار وتحديداً في الصعيد، بسبب التماس الحادث بين القبيلة والثأر. رغم محدودية العنف الدموي حتى الآن، إلا أن شيوع عمليات القتل يمكن أن يحوله لظاهرة خطيرة. وبجانبه، هناك شيوع أكثر لمظاهر العنف الأقل حدة، باستخدام آليات التعبئة الجماهيرية غير المشروعة في أغلب الأحيان. ففي السابق كان المرشح يعتمد على أنصاره ومؤيديه، لتأمين عمليات الحشد والتعبئة لمواجهة المنافسين وإظهار قوته، كان ذلك في معارك انتخابية يسيطر عليها التنافس الشريف قدر الإمكان، والاحتكام للناخب بوصفه صاحب كلمة الفصل بتلك المعارك. ولكن مع زيادة أعداد الكتلة الصامتة، والعزوف العام عن المشاركة السياسية، بدأ المرشحون يعتمدون على مايمكن توصيفهم ب" مفاتيح الدائرة "، وهم أولئك القادرون على عمليات، ليس الحشد والتعبئة لصالحه فحسب، وإنما أيضاً إرهاب المنافسين له. وهو ما أحدث تحولا ثقافيا من مفهوم تأمين الحملة الانتخابية من مقار وشعارات وخيم انتخابية، إلى عنف وإرهاب للآخرين شملت اللفظي منه والمادي، تهديداً وإيقاعاً فعلياً للأذى الجسدي. لذا بدأت الصحف تنشر عن الأسعار، التي يتقاضها هؤلاء في كل دائرة، وهي التي تقل في الدائرة الهادئة، بينما ترتفع في الدوائر الساخنة حيث المنافسة والعنف أكثر شدة، وهي الدوائر التي وصفت بدوائر الدم والنار. المثير للسخرية أن بعض هؤلاء برر الزيادة الكبيرة في الأسعار، ليس بحرارة المنافسة الانتخابية، وإنما بالحالة الاقتصادية وحالة الانفلات غير المسبوقة في الأسعار. وتبدأ مجالات هذا العنف، بالتشهير الشخصي أو العائلي بالمنافس عبر الشائعات، ثم تمر بمرحلة تدمير وإزالة مظاهر الدعاية الانتخابية، انتهاءً بالعنف المباشر له ولأنصاره.. فالاشتباك بالأيدي الذي شهده العديد من مقار الحزب الوطني، خلال منافسات المجمع الانتخابي لحسم قائمة الحزب الانتخابية، شهد أعنف منها حزب التجمع في بعض مقاره الانتخابية، تحديداً في سوهاج. إذ قرر الحزب مقاطعة الانتخابات بتلك المحافظة، بعد الاشتباك الذي حدث بين أنصار المشاركة في الانتخابات والمقاطعة، وصلت للتعدي بالضرب على بعضهم البعض، بعدما وافق 14 عضواً على مقاطعة الانتخابات، بينما رفض 13 آخرون المقاطعة في جلسة 21 أغسطس الماضي. وبينهما العنف اللفظي الذي شهدته جماعة الإخوان، على أرضية قرارها المشاركة بخوض الانتخابات على 30 % فقط من مقاعد مجلس الشعب، وتشكيك البعض من نسبة التأييد، التي أعلنت لتبرير تلك المشاركة. لذا كان من الطبيعي، الربط بين آلية وصول العديد من أعضاء مجلس الشعب لمقاعدهم البرلمانية، وسلوكهم الفعلي داخل المجلس. وهو الربط الذي بلغ مداه في المجلس المنتهية ولايته، لذا بات التساؤل: هل تفرز ظاهرة العنف مشهدا مماثلا في المجلس الجديد؟!