بعد ثلاثة أعوام من غيابه يؤكد الشاعر الفلسطيني محمود درويش حضوره وإصراره علي مواجهة الموت، كمن يتمثل بما أورده شكسبير وهو يتحدث إلي شاعر في واحدة من السنوتاتات التي كتبها وقال فيها: "ستبقي لك، في الشعر حياة أخري مادامت هناك أنفاس وعيون" واليوم تجدد ذكرى درويش بأكثر معنى، فالمسلسل الذي تعرضه الفضائيات العربية منتحلا اسما واحدا من أجمل كتبه في "حضرة الغياب" يراه الكثيرون اعتداء كبيرا على ذكرى شاعر رمز، فيما يصر الآخرون على أن المسلسل هو وسيلة للدفاع عن درويش وتجديد ذاكره لكن الأكيد أنه سيدفع بشعره إلى أجيال جديدة ربما كانت هي ذاتها الأجيال التي صنعت الثورة التي تشهدها عواصم عربية أحبها درويش وعاش فيها بعضا من سنوات عمره تمنح شعره فرصا جديدة لإعادة القراءة والتأويل، فمصر التي شهدت ولادته الأولى كشاعر في بداية السبعينيات وأطلقت شهرته شهدت ثورة جعلت الكثير من شباب الفيسبوك الذين أطلقوا شرارتها الأولى يضعون قصائده علامة على بيان الحال في صفحاتهم الرئيسة على " تويتر " والفيسبوك "، ففي بداية الثورة كتب بعضهم " على هذه الأرض ما يستحق الحياة " وعندما تعقد أمورها وزاد ضبابها كتب آخرون يتمسكون بأمل الإصلاح ويكتبون فقرات منى قصيدته " حالة حصار " هنا، عند مُنْحَدَرات التلال، أمام الغروب وفُوَّهَة الوقت، قُرْبَ بساتينَ مقطوعةِ الظلِ، نفعلُ ما يفعلُ السجناءُ، وما يفعل العاطلون عن العمل: نُرَبِّي الأملْ. قدمت مصر لمحمود درويش الكثير من العطاء الذي انعكس في شعره، فبخلاف الجائزة التي نالها في العام 2007 مثلت الولادة الأولى وعملية التدشين التي بدأت بمقالات غسان كنفاني وبكتاب رجاء النقاش الشهير " شاعر الأرض المحتلة " نقطة الانطلاق في مسيرة مع النجومية لم تتوقف منذ أن بدأ درويش عمله كمحرر في جريدة الأهرام بطلب من الأستاذ محمد حسنين هيكل وهي سنوات ظل درويش يذكرها بكثير من الوجل كلما مر في خاطره أنه توامل وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ في مكتب واحد في الطابق مع المجموعة التي سماها مجموعة الخالدين والتي كانت تضم معه يوسف إدريس وعائشة عبد الرحمن " بنت الشاطىء ولويس عوض وحسين فوزي وصلاح عبد الصبور وأحمد بهاء الدين وإلى جوار القاهرة تبرز تونس كمحطة رئيسية في مسيرته، فبعد اجتياح بيروت في عام 1982 خرج درويش مثل غالبية الفلسطينيين في رحلة شتات جديدة ومن يقرأ نصوص درويش النثرية يلمس فيها الحضور الناعم لهذه المدينة التي تعيش طقسا من طقوس الإشارات والتحولات، ففي كتابه "حضرة الغياب " كتب درويش يودع مدرج قرطاج وهو يغالب دموعه "كيف نشفى من حب تونس " كيف نشفى من حب تونس الذي فينا مجرى النفس لقد رأينا في تونس من الألفة والحنان والسند السمح ما لم نره في أي مكان آخر لذلك نخرج منها كما لم نخرج من أي مكان آخر نقفز من حضنهاإلى موطئ القدم الأول في ساحة الوطن الخلفية بعدما تجلت لنا فيها في البشر والشجر والحجر صور أرواحنا المعلقة كعاملات النحل على أزهار السياج البعيد ترى ما الذي كان سيكتبه محمود درويش الآن وهو يمر في شوارع القاهرة أو تونس، وهو الذي توقع خلافا لشعراء كثيرين أنصاف الشاعر أمل دنقل وأبو القاسم الشابي وهو ما تحقق بفضل الثورة.. وهو أيضا من ناهض الديكتاتور وكتب " خطب الديكتاتور الموزونة " لكن هل كان يتوقع الدم المراق من أجل الحرية في دمشق، المدينة التي أحبها وخاف منها، في أحى الحوارات التي أجريتها معه في دمشق تحدث مطولا عن خوفه من جمهور هذه المدينة الذي يحب الشعر أكثر من الآخرين "هكذا قال، ففي دمشق كانت أمسيات درويش تقتضي ترتيبات أمنية خاصة لحفظ النظام، وفي أحيان كثيرة كانت أمسياته تقام في الاستاد الرياضي خوفا من الزحام وربما لهذا السبب كتب " في الشام مرآة روحي"، والغريب أن بيروت التي منحت لدرويش ولادته الثانية لا تزال على عهدها معه، مدينة عصية على الفهم كما نفهم في نصوصه التي كتبها في "ذاكرة للنسيان" فعلى خلاف آخرين وصل درويش إلى بيروت وهو مكتمل النجومية وأعطته المدينة المناخ الذي يليق بشاعر استثنائي لكنها لا تزال كما تركها حيث (صوت الرصاص هو الذي يدل على بيروت ) فهي تفاحة البحر، نرجسة الرخام، أو "زنبقة الحطام". بعد سنوات من الغياب بقي نص درويش اقوي من حب فلسطين القاسي الذي حذرنا منه، وظلت فلسطين لحظة مؤجلة في ذاكراتنا المثقوبة، ومن مفارقات القدر أن ذكرى غيابه الثالثة تأتي لتعيد إنتاج ذات اللحظة التي ارتبط فيها الفني بالسياسي، فعند ذهابه للحصول على الاعتراف الدولي بفلسطين ذهب الزعيم الراحل ياسر عرفات بخطبة كتبها درويش ووقف أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة وهو يصرخ (جئتكم أحمل بندقية بيد وغصن الزيتون باليد الأخرى " فقرروا، أما قراري ففلسطين مع السلام ) واليوم أيضا يقطع الفلسطينيون الطريق ذاته كأنهم ما زالوا بحاجة إلى لحظة اعتراف. فهو الذي رأى ببصيرته الانقسام الفلسطيني وحذر منه على الرغم من أن شعره كان نقطة الإجماع الفلسطيني الوحيدة.. كما يقول الكاتب صقر أبو فخر، فقد كان عرفات نبي الفلسطينيين المسلح، بينما كان جورج حبس هو نبي الأمل فيما ظل درويش صانع الصورة الأبهى لفلسطين. خلق درويش الشاعر أسطورته وهو لا يزال حيا لكن الموت أضفي علي تلك الأسطورة أبعادا جديدة لم تكن فيها، كما أن الحياة ذاتها لم تبخل علي نصه ب "ولادة متجددة" فمنحته الوسائط التكنولوجية التي سهلت مهمة قراءته وأتاحت نصه للجميع بطريقة مدهشة ،فاليوم يستطيع أي قارئ للشعر في أي مكان في العالم أن يضغط علي "فارة الكمبيوتر" ليجد عشرات المواقع التي تعيد نشر أعمال صاحب ال "جدارية" بما في ذلك مقالاته النادرة التي نشرها في مجلة "اليوم السابع" التي توقفت بعد حرب الخليج، واليوم أيضا تجد تلك المقالات آفاقا للقراءة لم تتيسر لها زمن كتابتها مثلها في ذلك مثل نصوصه الشعرية الأخيرة التي تطور فيها ليتجاوز "حالة الشاعر العمومي"، إلي أفق الشاعر الكوني الذي تتقاطع همومه الذاتية مع هموم الآخرين، تطور درويش وأعطى لمعنى العروبة مفهوم أوسع للهوية، فهي لم تكن أبدا هوية مغلقة إذ انفتح نصه الشعري على المورورث الكنعاني والعبراني والفارسي والفرعوني وأخذ جمهوره معه إلى فضاء واسع ولم يرض بأن يظل الجمهور في مساحة الركود، خاملا وعاطلا عن العمل، سألته مرة عن علاقته مع الجمهور فقال لي بتواضع: "جمهوري تطور معي"، أتأمل اليوم تلك العبارة وأجد فيها غير فيض التواضع مفتاحا جديدا لقراءة شعر درويش الذي يثبت موته زيف الاتهامات التي لاحقته في الحياة. يحضر النص مستندا علي جماليات راقية ليؤكد حضور الشاعر وليس موته، تخلص شعره من كل الأعباء التي لاحقت صاحبه في الحياة، لذا يبدو أقرب ما يكون إلي "أثر الفراشة" كما تمني وأراد.