وسط ضغوط متتالية من جانب سياسيين ومستثمرين تواجه المراكز المالية الخارجية الاوف شور تحديات جديدة تهدد نشاطها فالجنان الضريبية, كما يحلو للبعض ان يسميها, ظاهرة من ابرز الملامح الضارة للعولمة المالية فهي لا تخضع لقيود او شروط وتوفر السرية المصرفية وتعمل في نظم رقابية اقل شفافية مما يؤهلها لتكون مخبأ للثروات غير المشروعة, واحيانا المشروعة. ولكن الآن يريد السياسيون حماية الايرادات الضريبية التي تحتاجها بلادهم والمستثمرون في ظل اجواء القلق العالمية الحالية, يطالبون بمزيد من الشفافية حول الطريقة التي تدار بها اموالهم في هذه الجنان حتي ان ضغوطهم تشمل تهديدات بنقل الاموال الي مراكز اخري. فما مدي جدوي هذه الضغوط؟ تقرير الناجون من العاصفة لمجلة الايكونوميست يأتي بعد سلسلة من الهجمات ضد صناعة الاوف شور ويعد بمثابة ناقوس انذار لتنبيه قادة العالم الي ضرورة بذل مزيد من الجهد للتصدي لعمليات غسيل الاموال والتهرب الضريبي. عندما نشرت وحدة الدراسات التابعة للايكونوميست في عام1975 اول تقرير عن الملاذات الضريبية استحوذ الموضوع علي اهتمام الكثيرين ومنذ ذلك الحين استمر الجدل حول مراكز الاوف شور وعلي مدي عشرين عاما, ظهرت خلالها ملاذات جديدة لم تبذل السلطات الضريبية مجهودا يذكر للتدخل لكن هذا الوضع لم يستمر, وفي اواخر التسعينيات بدأت الحرب علي ماسمي ب المنافسة الضريبية الضارة واصبح هناك قوائم سوداء بأسماء الملاذات الضريبية. وفي2008 2009 اتخذت مجموعة العشرين المبادرة ومارست امريكا ضغوطا ملحة علي البنوك السويسرية لكشف المزيد من المعلومات عن عملائها ولجأت بعض الدول الي شراء بيانات مسروقة عن حسابات مصرفية سويسرية, ولكن فيما بعد خفت حدة الضغوط نتيجة لقبول مراكز الاوف شور, بدرجات متفاوتة تبادل المعلومات الضريبية مع دول اخري في ظل استمرار ملاحقة نشطاء العدالة الضريبية لها من اجل مكافحة التهرب الضريبي وغسيل الاموال. وتسعي مجموعة العشرين هذه الايام لاصدار تشريعات للتصدي للتهرب الضريبي من قبل شركات متعددة الجنسيات, وعلي الصعيدالامريكي كثيرا ما دعا الاعلام الكونجرس لمكافحة هروب الاموال الي الملاذات الضريبية لانه يحرم البلاد من ايرادات ضريبية واستثمارات محتملة كان يمكن ان تساعد في تخفيف المشاكل المالية الحالية. ومن جانبها شنت المستشارة الالمانية مؤخرا هجوما لاذعا علي الشركات الكبري التي تحقق مبيعات ضخمة في ألمانيا واوروبا واماكن اخري ولا تدفع إلا ضرائب قليلة في ملاذات, ومن المقرر ان تكون القضية محور اهتمام اجتماع مجموعة الثماني في بريطانيا هذا العام. ففي اوروبا تتزايد موجة الغضب علي الشركات الكبري التي تحرم موطنها الاصلي من حقه في تحصيل ضرائب عن ارباحها فتعرضت شركات امازون وستاربكس علي سبيل المثال لمقاطعة المستهلكين بسبب التحايل لاخفاء ارباحهم في ملاذات ضريبية, ومن ناحية اخري تواجه الحكومات التي تخفض الضرائب اتهامات بالرضوخ لابتزاز الرأسماليين مما يجعلها قضية جدلية تحظي بالاهتمام الان في ظل معاناة الاقتصاد العالمي وبحث الجميع عن اي ايرادات خفية. الجنان الضريبية هي موطن آلاف الشركات الوهمية والحقيقية, وبنوك وصناديق تحوط وشركات تأمين بأصول مدارة هائلة تصل في تقدير مجموعة بوسطن الاستشارية الي8 تريليونات دولار من الاصول النقدية الخاصة في مراكز الاوف شور ولا تشمل الاصول الثابتة مثل العقارات واليخوت وذلك من اجمالي123 تريليون دولار حجم الثروات في العالم. ويعتقد كبير الاقتصاديين في شركة ماكينزي سابقا ومستشار منظمة العدالة الضريبية هنري جيمس ان الثروات التي لا تخضع لضرائب في بلدانها الاصلية وتتمتع باعفاءات ومزايا ضريبية في الملاذات الضريبية حول العالم تبلغ21 تريليون دولار فما يقرب من30% من تدفقات الاستثمار الاجنبي المباشر العالمي حساباتها في الملاذات الضريبية. وقد توصلت دراسات تخصص بعض مراكز الاوف شور في مجالات محددة وعلي سبيل المثال جزر تايمان تحتض اكثر من9400 صندوق تحوط تدير اصولا قيمتها حوالي2.2 تريليون دولار لتحتل الصدارة في جذب هذا النوع من صناديق الاستثمار اما جزر برمودا فتحتل المركز الاول في اعادة التأمين, والمنافسون الاصغر من جزر الملاذات الضريبية تحولت الي ممارسة نشاط التمويل من اجل الحد من اعتمادها علي السياحة والزراعة. وقد اظهرت مراكز الاوف شور صمودا محيرا في مواجهة الضغوط والانتقادات الدولية بل وتوقعات بتراجع دورها في الاقتصاد العالمي علي اثر تزايد استهدافها بتشريعات مالية مختلفة. وقد توصلت دراسة اكاديمية العام الماضي الي ارتفاع ضئيل في ودائع الاجانب في مركز الاوف شور في الفترة من2007 الي2011 ويرجع احتفاظ الملاذات الضريبية بجاذبيتها في رأي البعض, الي نمو عملائها من اسيا واسواق ناشئة اخري التي عوضت الانخفاض في العملاء الامريكيين والاوروبيين. وهنا تجدر الاشارة للتفرقة بين الانشطة غير القانونية من غسيل الاموال وتحايل ضريبي وبين الانشطة القانونية مثل الوساطة المالية والحماية التي توفرها مراكز الاوف شور من الحكومات غير المستقرة وان كان دورها في الاقتصاد العالمي غير واضح ويعتقد بعض دعاة الحرية الضريبية أن الملاذات الضريبية تلبي الحاجة الناجمة عن تعقيدات التشريعات الضريبية في كثير من دول العالم, وعلي سبيل المثال كان هناك جيرار دوبارديو رجل الاعمال الفرنسي الذي سعي للحصول علي الجنسية الروسية احتجاجا علي الضرائب الجديدة علي الاغنياء. والمنافسة الضريبية بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنميةOECD دفعت بريطانيا التي تتميز بثاني ادني ضريبة شركات بين دول مجموعة الثماني بعد روسيا الي خفض الضرائب مؤخرا. وتكمن اهمية مراكز الاوف شور بالنسبة للاثرياء والشركات في انها توفر لهم سرية المعاملات وليس الضرائب المنخفضة فقط ومن امثلة قضايا الفساد وغسيل الاموال المرتبطة بمراكزالاوف شور قضية رشوة محتملة دفعتها شركة الفضاء والدفاع الجوي الاوروبيةEADS لمسئولين سعوديين. وهناك جدل حول مدي مشكلة الاموال القذرة في صناعة الاوف شور وتقديرات اقتصاديين في النزاهة المالية العالمية وهي مجموعة بحثية معنية بمكافحة تدفقات الاموال غير المشروعة تشير الي ان خسائر الدول النامية بسبب الفساد والتهرب الضريبي كانت نحو ستة تريليونات دولار علي مدي السنوات العشر الماضية وان التدفقات الخارجة للاموال غير المشروعة تنمو بشكل مستمر. ** الجنان الضريبية حول العالم: يذكر ان هناك ما بين50 و60 ملاذا ضريبيا في العالم معظمها في منطقة الكاريبي واوروبا وجنوب شرق اسيا, وحتي الولاياتالمتحدة لا تخلو منها مثل نيفادا وفلوريدا وولاية ديلاوير التي لا تتمتع بضرائب قليلة فقط ولكن يمكن لاي شخص انشاء شركة مجهولة المالك ايضا. بريطانيا كذلك تعفي استثمارات الاجانب المقيمين من الضرائب. ومن اشهر الملاذات الضريبية جزر فيرجن وهي مجموعة من تسع جزر تقع في بحر الكاريبي وتتمتع باعفاء ضريبي لرأس المال او الشركات. وعلي الصعيد الاوروبي هناك امارة موناكو التي تعتبر الملاذ الضريبي المميز للصفوة من الاوروبيين الاثرياء, وكذلك لوكسمبورج ملاذ الشركات الراغبة في التهرب من الضرائب ولديها صناديق استثمار اوف شور, اما دبي فتسعي لتكون سويسرا الشرق الاوسط. * جزر كايمان ملاذ الثروات المنهوبة: هي الاكثر تنوعا في الكاريبي وهي جزر بريطانية تقع في غرب البحر الكاريبي وتتألف من جزر كايمان العظمي وكايمان براك وكايمان الصغري, وتحتل جزر كايمان خامس اكبر مركز مالي خارجي في العالم بفضل الحد الادني الذي تفرضه من ضرائب. وقد اشتهرت قديما بانها ملاذ لثروات تجار المخدرات لكنها الان موطن آلاف من صناديق التحوط, وفي تحول واضح للاهتمام بشكاوي المستثمرين وسط انتقادات لاذعة تستعد كايمان لفتح ملفات آلاف الشركات والصناديق, ففي منتصف شهر يناير الماضي اعلنت السلطة النقدية في الجزر عن خطة تهدف الي انشاء قاعدة بيانات عامة للصناديق في الجزر للمرة الاولي التي ستشمل اسماء مديري هذه الصناديق ومن المفترض خضوعهم للتدقيق للتأكد من قدرتهم علي خدمة المستثمرين وهي خطوة صغيرة لكنها تعتبر بداية مهمة لجزر كايمان لتعزيز تنافسيتها امام مراكز اوف شور اخري وفرت مساحة اكبر من المصداقية الي جانب السرية خلال السنوات الاخيرة وذلك مثل جزر فيرجن وسويسرا. * سنغافورة نجم صاعد: وفي اسيا تحولت هونج كونج وسنغافورة الي ملاذات ضريبية بفضل السرية المصرفية والضرائب المنخفضة وتعد سنغافورة الان نجما صاعدا في ادارة الثروات. وخوفا من المنافسة يراقب السويسريون المراكز المالية الخارجية الاوف شور في اسيا بتوجس لاسيما سنغافورة فلعدة سنوات مضت انتشرت شائعات في عالم الاوف شور باتجاه الاموال من سويسرا التي لاتزال هي الدولة الرائدة في الصيرفة الخاصة وملاذات ضريبية اوروبية اخري الي اسيا, وربما كانت تلك مبالغة, في رأي البعض لانه وفقا لبيانات مجموعة بوسطن الاستشارية حصة الاموال الاوروبية المدارة في سنغافورة وهونج كونج ارتفعت بنسبة1% فقط خلال السنوات الثلاث الماضية الي8 9% من الاجمالي. ولكن الواقع ان مراكز الاوف شور الاسيوية ليست في حاجة لدعم من الثروات الاوروبية فسنغافورة اصبحت مقصدا لثروات هائلة من جنوب شرق آسيا لاسيما اندونيسيا, وحصص اصغر من الهند والصين واذا استمر معدل النمو الحالي فان سنغافورة وهونج كونج معا ستتفوقان علي سويسرا في ال15 عاما القادمة وذلك حسب توقعات بوسطن. والتحدي الحالي امام مراكز الاوف شور الاسيوية هو كيفية التعامل مع الضغوط الدولية المتنامية لمزيد من الشفافية فسنغافورة علي سبيل المثال لديها قوانين صارمة للسرية المصرفية الضريبية وان كانت في السنوات الاربع الماضية قد وقعت عشرات الاتفاقيات من اجل تبادل المعلومات ومكافحة غسيل الاموال مما يعني ان السرية المصرفية لم تعد تامة فيها. ويفسر محللون تفضيل الاسيويين ايداع اموالهم في سنغافورة بانه يرجع لاستقرارها الاقتصادي والسياسي وليس لمجرد اخفائها بعيدا عن السلطات الضريبية وفي جميع الاحوال لم يختبر بعد مدي التزام سنغافورة بمزيد من الشفافية. في الوقت نفسه هونج كونج التي يتم تسجيل150 الف شركة جديدة سنويا فيها اتخذت اتجاها معاكسا بفرض المزيد من السرية حول هوية مديري الشركات الخاصة فيها, وهكذا تتحول مراكز الاوف شور الاسيوية الي لاعبين كبار في عالم الاستثمار والشركات وتكتسب سنغافورة تحديدا سمعة بالنسبة للاثرياء الصينيين الحريصين علي استثمار ثرواتهم الجديدة خارج البلاد. من المؤكد ان التوسع الشرقي يوفر فرصا واعدة وتهديدا ايضا سويسرا فبعض عملائها يفضلون الان ايداع اموالهم في ملاذات اسيوية وان كانت البنوك الكبيرة مثل يو بي إس هي رائدة ادارة الثروات ونفس الشيء بالنسبة لملاذات ضريبية في الانجلو ساكسونية مثل جزر كايمان وجزر فيرجن البريطانية. * سويسرا والسرية المصرفية: هي اكبر مركز لادارة الثروات في العالم بأصول مدارة تقدر بنحو2.1 تريليون دولار ولكن بعد سلسلة من الهجمات بدأت تراجع سياستها فيما يتعلق بالسرية المصرفية ففي عام2009 دفع بنك يو بي اس احد اكبر البنوك السويسرية للسلطات الامريكية780 مليون دولار لتسوية اتهامات بالتهرب الضريبي التي اضطر البنك علي اثرها إلي تقديم اسماء آلاف من عملائه مما اضر بسمعة الصناعة المصرفية السويسرية. ومنذ ذلك الحين وافقت سويسرا علي التعاون الدولي في مجال مكافحة التحايل الضريبي لكن السلطات الامريكية لاتزال تلاحق11 بنكا سويسريا اخر ومن بينها كريدي وسويس, وترغب سويسرا في اجراء تسوية موحدة تشمل جميع بنوكها ولكن يبدو ان امريكا ترغب في اصطياد الواحد تلو الاخر علي انفراد. وهكذا تواجه الصناعة السويسرية تحديا جديدا فقبل الحملة العالمية ضدها, وجدت سويسرا ان الصيرفة الخاصة في الاوف شور تحقق ارباحا طائلة حيث نجحت في تحقيق ارباحا طائلة حيث نجحت في تحقيق ضعف ارباح البنوك التقليدية عن طريق القيام بنفس الاعمال ولكن باخفاء الاموال عن السلطات الضريبية في دول مالكيها, ولكن معظم تلك الارباح السهلة لم تعد متاحة مما يمثل تحديا صعبا بالنسبة للصناعة التي لم تعرف تغييرات حقيقية في تاريخها. وفي ظل هذه الاجواء يتوقع محللون موجة من الاندماجات في ظل المصاعب التي تواجه البنوك الصغيرة من اجل الصمود في مواجهة الضغوط الحالية وبالفعل بعضها معروض للبيع, ومن المتوقع ايضا نمو كبير في الاسواق الناشئة والسنوات القادمة ستكون اختبارا قاسيا للعلاقة التجارية السويسرية للسرية المصرفية ولتثبت انها قادرة علي النجاح في تلبية احتياجات عملائها وليس مجرد إعفاء الاموال عن الضرائب. وهنا تجدر الاشارة الي ان رفض الحكومة السويسرية وسط معارضة عنيفة لمقترح كان سيلزم البنوك رفض الودائع التي يرفض اصحابها تقديم ما يثبت سداد الضرائب عن هذه الاموال الذي كان جزءا من استراتيجية الاموال البيضاء الوطنية. وبصفة عامة كان الاداء المصرفي السويسري ضعيفا منذ عام2008 مع رهان البنوك علي استمرار تجاهل الدول الاخري لامتيازات التحايل الضريبي الذي توفره سويسرا لعملائها وذلك اعتمادا علي دورها المحايد في الدبلوماسية العالمية. * مستقبل الملاذات الضريبية: ستظل مراكز الاوف شور دائما محل جدل واسع لكنها لن تفقد جاذبيتها وقد تضطر الي الخضوع للتغيير فالضغوط التي تمارسها الدول الكبري من اجل تطبيق معايير الشفافية لن تتراجع وكذلك ضغوط المستثمرين وقد يكون التكهن بمستقبلها محيرا ايضا فبعد هجمات11 سبتمبر تعرضت الملاذات الضريبية لهجوم عنيف بسبب مزاعم مساعداتها في تمويل الارهاب لكن بعد سنوات قليلة اصبحت تلك الملاذات شريكا في مفاوضات الشفافية الضريبية, غير انه بعد ازمة2007 2008 تم تصنيفها مرة اخري بانها مراكز خطرة, واليوم في ظل معاناة الاقتصاد العالمي تأمل الملاذات الضريبية في معاملة اقل عدوانية. في المستقبل ستحتاج مراكز الاوف شور الي التعامل مع الوضع الجديد من تحول ميزان القوي في حوكمة الاقتصاد العالمي وهذا هو ربما السبب في سعيها لتوطيد علاقاتها السياسية بآسيا وامريكا اللاتينية. ومادامت هناك اختلافات ضريبية وتنظيمية علي المستوي الدولي ستظل هناك فرص واعدة امام المراكز المالية الخارجية. واذا كانت الاقتصادات المتقدمة مثل اوروبا وامريكا جادة في ملاحقتها للثروات الهاربة فعليها ان تعمل علي اصلاح النظم الضريبية الخاصة بها لتقليل خسائر الايرادات الضريبية بقدر الامكان*