إذا كان البحر كما يقال يستطيع ان يحمل السفينة, فهو يستطيع أيضا ان يغرقها, اذا لم تدر الامور بحكمة! وتطبيق النظام الرأسمالي, بإطلاق المبادرة الفردية, وحرية حركة التجارة والانتاج والاستهلاك وتدفقات رءوس الأموال بأشكالها كافة ساعد علي تحقيق النمو الاقتصادي في بلدان كثيرة, وان لم تنج من السلبيات والازمات الصعبة. والواقع ان هذا التيار الجارف للترويج للرأسمالية فكرا وتطبيقا قد اكتسب زخمه منذ صاغ عالم الاجتماع السياسي الامريكي بيتر برجرPeterBerger لأول مرة في تاريخ الفكر الغربي نظرية صورية شاملة للرأسمالية في كتابه( الثورة الرأسمالية) عام1978, الذي انتهي فيه الي ان الرأسمالية أصبحت نظرية كونية قابلة للتطبيق في كل مكان, بغض النظر عن الفروق الثقافية بين الامم, لانها هي التي تضمن الحرية والعدالة والرخاء. دعم هذه الفكرة تولي السيدة مارجريت تاتشر( المرأة الحديدية) مقاليد الحكم في المملكة المتحدة, فقد تبنت خلال فترة حكمها(1979 1990) الفكر الرأسمالي التقليدي, والتوسع في تطبيق خصخصة مشروعات القطاع العام علي اوسع نطاق, لتشمل جميع القطاعات حتي إدارة المرافق العامة والبني الأساسية. عبرت هذه الافكار التاتشريةThacherism كما اطلق عليها حدود المملكة المتحدة, واخذت في الانتشار في جميع انحاء العالم. خلال نفس الفترة نشر المفكر الامريكي الجنسية الياباني الاصل فرانسيس فوكوياماFrancisFukuyama مقالته' نهاية التاريخ' في مجلةNationalInterest معلنا نهاية تاريخ النظم الشمولية الي غير رجعة, لتحل محلها قيم الديمقراطية والليبرالية بتطبيقاتها في السياسة والاقتصاد. استعار فوكوياما بعض افكار هيجل عن حركة التاريخ, ليؤكد ان التاريخ قد وصل إلي نهايته بانتصار الليبرالية وهيمنة النموذج الرأسمالي. ويطور فوكوياما ويتوسع في عرض نظريته المثيرة للجدل في كتاب اصدره عام1992 بعنوان: نهاية التاريخ والانسان الاخير,( ترجمه للعربية الأستاذ/ حسين أحمد أمين). ومع سقوط الاتحاد السوفيتي وتفككه عام1991, وبروز الولاياتالمتحدةالامريكية كقوة عظمي اولي ووحيدة, استمر سعيها حثيثا لنشر وفرض النموذج الرأسمالي علي جميع الدول. باعتبارها القوة المهيمنة علي العالم اقتصاديا وسياسيا, واعتمادا علي سيطرتها علي المنظمات الاقتصادية العالمية خاصة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية. عزز هذا التوجه النجاح الساحق لمجموعة دول جنوب شرق اسيا في تحقيق نتائج اقتصادية فائقة في ظل تبنيها للنموذج الرأسمالي خلال حقبة لا تتجاوز ربع قرن من الزمان, فكانت بذلك كما اطلق عليها بحق نمورا اسيوية. مع هذا كله, او بالرغم من هذا كله, يحفل التاريخ الاقتصادي الدولي بما يؤكد دون ادني شك ان قوي السوق كثيرا ما فشلت لو تركت تعمل بطريقة تلقائية في استعادة توازنها, او في تحقيق الاستغلال الامثل للموارد, وقد سبق ان عبر عن هذا الاقتصادي البريطاني جون مينارد كينزJ.M.Keynes, في كتابه' النظرية العامة في التشغيل والنقود والفائدة, حيث قدم المبررات العلمية لضرورة تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي, لاعتقاده الراسخ بأن قوي السوق غير كافية بمفردها في تحقيق التوازن الاقتصادي. ويرجع ذلك إلي قيام فلسفة الحرية الاقتصادية علي فروض غالبا ما لا تتحقق في واقع الحياة, خاصة في المجتمعات النامية, لذلك لا تسطيع اي دولة الفكاك من إسار ازماتها, إن كفت البصر عن طبيعة ظروفها السياسية والاقتصادية والاجتماعية, او إذا انصاعت للنموذج الرأسمالي التقليدي الذي يهدف الي تقليص دور الدولة في الحياة الاقتصادية, وإهمال بعض القيم الاجتماعية, وترك الأمر علي عواهنه لقوي السوق الغاشمة, أو إذا اتبعت نهج القفزات السريعة واهدرت منطق التدرج. وهذا ما استدعي ان تجدد الرأسمالية نفسها, بأن يعاد إنتاجها في مخاض جديد, فظهرت فكرة الطريق الثالث, الذي تبلورت معالمه لأول مرة في قمة الدول الصناعية السبع الكبري في عام1996, قبل ان تتبناه حكومة توني بلير في بريطانيا عام1997 ليكون إطارا فكريا لبرنامجها الاقتصادي والاجتماعي في مواجهة الليبرالية التاتشرية. وللطريق الثالث صور متعددة, فكل دولة تتلمس خطواتها فيه بما يتناسب مع ظروفها الاقتصادية والاجتماعية, فتختار التركيبة المثلي من الأدوات والسياسات التي تحقق التوازن الاقتصادي والاجتماعي. انها رأسمالية جديدة, ذات طابع انساني وتطبيقات متعددة, تطبقها دول لماحة وذكية, لها رؤية تمكنها من تحديد المهام التي ينبغي لها ان تضطلع بها بنفسها, وبتلك التي من الافضل ان يتولاها القطاع الخاص او المجتمع المدني, لكي يحقق الاقتصاد القومي اهدافه في يسر, وفقا لمقتضيات الكفاءة الفنية والاقتصادية, استهدافا لتحقيق التنمية بجناحيها الاقتصادي والاجتماعي, بما يتيح اعلي معدلات النمو والتشغيل, مع عدالة التوزيع, في بيئة مستقرة سياسيا واقتصاديا. هذه الرأسمالية الجديدة, هل اصبحت هي الخيار المستقبلي الوحيد امامنا, ام ان الافق مازال مفتوحا لخيارات اخري؟!.. [email protected]