فى سعيها نحو تدبير موارد مالية لتمويل إجراءات إرضاء المحتجين من أصحاب السترات الصفراء قررت الحكومة الفرنسية فرض ضرائب على شركات الاقتصاد الرقمى العملاقة بنسبة 3% من إجمالى تعاملاتها داخل فرنسا، وذلك اعتبارا من يناير المقبل. برونو لومير وزير المالية الفرنسى أعرب عن أمله فى أن تبلغ حصيلة الضريبة الجديدة نحو 500 مليون يورو لتسهم فى توفير جزء يسير من الاعتمادات الإضافية التى تكبدتها الموازنة الفرنسية لزيادة الحد الأدنى للأجور والإعفاءات الضريبية الأخرى للموظفين وأصحاب المعاشات التى تتجاوز 10 مليارات يورو. الضريبة على الاقتصاد الرقمى واحدة من القضايا المعقدة والمحرجة على صعيد التجارة الدولية، وهى محل نقاش وصل إلى اجتماعات مجموعة العشرين دون التوصل إلى حل. الاتحاد الأوروبى ناقش الأمر طوال عام 2018 ولكن وزراء المالية بدول الاتحاد فشلوا فى التوافق على إقرار الضريبة خوفا من ردود الفعل الانتقامية من الولاياتالمتحدةالأمريكية التى تحمل كل شركات المعلومات العملاقة جنسيتها. لكن فرنسا تحت وطأة العجز المتوقع فى ميزانيتها نتيجة الإجراءات التى اتخذتها لإرضاء أصحاب السترات الصفراء دفعت دفعا لإقرار الضريبة المقلقة منفردة ودون انتظار مهلة العامين التى قررها وزراء مالية الاتحاد الأوروبى لفرض الضريبة بعد التشاور مع الشركات العملاقة والسلطات التجارية الأمريكية. الأمريكيون بالطبع يرفضون أى ضرائب على الاقتصاد الرقمى اللهم إلا ضريبة الأرباح التجارية التى تذهب للخزانة الأمريكية، أما عوائد النشاط العالمى لشركات مثل أمازون وجوجل وفيسبوك وتويتر وحتى آبل فهى فى غالبيتها معفاة من الضرائب أو بالأحرى هاربة منها لسبب بسيط يتعلق بالتكييف القانونى لتعاملات هذه الشركات الإلكترونية العابرة للحدود، ورغم أن الضرائب إجراء سيادى كما هو معروف فإن دول العالم لم تصل حتى الآن لتعريف قانونى بشأن النطاق الجغرافى للتعاملات المالية المترتبة على نشاط هذه الشركات الذى يعتمد على الفضاء الإلكترونى.. ولا يعترف بالجدود. الإجراء الفرنسى المنفرد بفرض الضريبة على التعاملات الإلكترونية سوف تكون له تداعيات وردود أفعال، ورغم أن إدارة فيسبوك أصدرت بيانا محايدا عقب إعلان القرار فإن شركات أخرى امتنعت عن التعليق، وهذه الشركات لديها من الوسائل ما تضغط به ومن بينها نقل مقراتها فى الأراضى الفرنسية إلى الدول المحيطة، أما تعاملاتها المالية مع الداخل الفرنسى فتتم بوسائل الدفع الإلكترونية فى كل الأحوال. لكن الخطر الأكبر يكمن فى رد فعل السلطات التجارية الأمريكية التى تعتمد سلاح التعرفة الجمركية للحد من العجز التجارى مع دول العالم فضلا عن كونه سلاحا انتقاميا فى هذه الحالة، وتتضمن الإجراءات المتوقعة فرض رسوم إضافية على واردات الأغذية والمشروبات الفرنسية للولايات المتحدة فضلا عن السيارات، ويعد التهديد بزيادة التعرفة على السيارات أهم سبب دفع ألمانيا لإرجاء فرض الضرائب على تعاملات الشركات الإلكترونية «الأمريكية». الانتقادات للقرار بدأت من داخل فرنسا نفسها حيث اعتبر أن الحصيلة المتوقعة زهيدة ولا تساوى حجم المخاطر المرتقبة نتيجة الإجراءات الفرنسية. القضية أيضا مثارة فى مصر فقد أعدت وزارة المالية دراسة بشأن فرض ضريبة على الإعلانات التى تبثها مواقع التواصل الاجتماعى وشركات المعلومات وهو إجراء مهم سواء من حيث هدفه الضرائبى المباشر وكذلك من حيث دعم وموازنة وسائل الإعلام الأخرى التى تعانى من تقلص حجم الإعلانات بها لصالح الشركات الإلكترونية. ومع ذلك فإن اتخاذ إجراء منفرد بهذا الشأن يمكن أن يحمل مخاطر بأكثر مما يجنيه من فوائد. شركات المعلومات العملاقة وغير العملاقة ميدان عملها هو الفضاء الإلكترونى وهو ميدان لم يكتمل تنظيمه بعد من النواحى السيادية والإدارية وحتى الأخلاقية. ومن ثم فإن تنظيم أموره المالية وفى مقدمتها الضرائب ينبغى أن يتم التوافق عليها بين كل دول العالم فهذا أمر يصعب أن يختص به قطر بمفرده، ولا شك أن الأمر يكتنفه الكثير من الصعوبات والتحديات لتضارب المصالح بين دول العالم من جهة والشركات العملاقة التى يسندها نفوذها المتصاعد وقوتها المالية ودعم السلطات الأمريكية.. ولكن الضرائب على التعاملات الضخمة لهذه الشركات أصبحت ملفا مفتوحا الآن بفضل الإجراء الفرنسى، واحتجاجات أصحاب السترات الصفراء.