عندما تبلغ القيمة السوقية لشركة 495 مليار دولار فيما لا تتجاوز أصولها المادية 14 مليار دولار لا غير فإن هذا لا يعنى سوى شىء واحد، هو أن رأس المال الفعلى لهذه الشركة يكمن فى سمعتها، وعندما تتضرر هذه السمعة ضررا بالغا لأى سبب فإن مستقبل الشركة كله يصبح فى مهب الريح، تماما كما يحدث لشركة صناعية ضخمة تصحو ذات يوم على حريق ضخم يأتى على مصانعها، أو كما يحدث لشركة عقارية كبرى يأتى زلزال على مبانيها فيسويها بالأرض، حينئذ تنهار الشركة بانهيار أصولها وتصبح قيد الإفلاس. السقوط جاء مروعا، ومع ذلك فإن شبح الإفلاس الفورى لشركة التواصل الاجتماعى العملاقة Facebook يظل بعيد الاحتمال رغم كل الانتقادات والهجوم الذى تتعرض له جراء الكشف عن فضيحة تسريب بيانات عملائها «مستخدميها» التى تشغل العالم هذه الأيام. القصة معروفة ولكن تداعياتها مازال يكتنفها الغموض خاصة أن فضيحة تسريب البيانات طالت كل شركات تكنولوجيا المعلومات العملاقة وفى مقدمتها Google أكبر وأخطر هذه الشركات على الإطلاق بحكم انتشارها وبحكم ما تمتلكه من بيانات هائلة تخص تقريبا كل مستخدمى الإنترنت حول العالم، إلا قليلا. أسباب اقتصادية فى المقام الأول وراء توظيف بيانات المستخدمين لدى شركات الإنترنت لجلب الإعلانات المورد الرئيسى لهذه الشركات العملاقة، غير أنه فى الممارسة العملية تبين أن لهذه البيانات استخدامات متعددة تفوق أو توازى الأرباح الناتجة عن الإعلانات، فقد حرصت شركة «كامبردج أنالتيكا» البريطانية «التفاهم» مع إدارةFacebook للحصول على بيانات 50 مليون عميل أمريكى بغرض استخدامها فى التأثير والدعاية لصالح ترامب أثناء الانتخابات السابقة، هذا ما تكشف حتى الآن، ولكن الأمر يحتمل وجود سلسلة من الممارسات الضارة والسلبية استندت كلها إلى تسريب بيانات المستخدمين لأغراض مختلفة، وربما يكشف عن بعضها قريبا. Facebook اعترفت بالخطأ وقامت بالفعل باتخاذ عدة خطوات لتأمين بيانات المستخدمين آخرها منع شركات الإعلان من الدخول المباشر للاستعلام عن اتجاهات ونوعيات المستخدمين وأعدادهم للاستفادة من هذه البيانات فى إعداد الخطط الإعلانية وتوزيعها على شركات تكنولوجيا الإنترنت، لكن كل هذه الإجراءات لم تعد كافية فقد تجاوزت أزمة «السمعة» حدودها الاقتصادية وأصبحت تمس الحياة الاجتماعية والسياسية للمجتمعات فى أنحاء العالم. الانتقادات الأشد لشركات الإنترنت العملاقة تقودها أوروبا سواء من الحكومات أو الأحزاب وكذلك الجمعيات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدنى. الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون وجه هجوما لاذعا للشركتين العملاقتين واتهمهما بأنهما باتتا خارجتين عن السيطرة وهدد بدفعهما نحو الإفلاس ما لم يتم تقسيمهما على غرار ما حدث فى شركات النفط العملاقة لإنهاء الاحتكار فى هذا النشاط. الإفلاس بعيد، والتقسيم ليس حلا لأن تفكيك الاحتكارات فى الاقتصاد التقليدى يختلف عن تلك التى تعتمد على الخيال والابتكار وإطلاق التطبيقات فى الفضاء الإلكترونى ليخلق حاجات جديدة وينفع الناس، وربما الأفضل هنا والأكثر عملية هو دفع المجتمعات أبناءها لابتكار محركات بحث وبرامج تواصل «وطنية». الصين قطعت شوطا طويلا فى هذا المجال وأصبح لها محرك البحث الخاص بها، وقد سمعت وزير الاتصالات يتحدث عن Facebook مصرى قيد الإنشاء وهذا جيد بلاشك، تنويع محركات البحث وبرامج التواصل الاجتماعى ولا أقول «توطينها» هو الحل العملى ليس فقط لمكافحة الاحتكار فى هذا المجال ولكن أيضا لإضفاء الصفة الوطنية والخصوصية المجتمعية لهذه الأشكال الجديدة من التواصل الإنسانى الذى لم يعد هناك غنى عنه أى مكان حول العالم. ولا يقل أهمية عن أن «يبتكر» العالم هيئة دولية للرقابة على هذه الشركات سواء من حيث الممارسة وكذلك من حيث السمعة والتصرف فيما تمتلكه من بيانات، وأن يكون لهذه الهيئة هيئات وطنية فى كل دولة على غرار علاقة صندوق النقد الدولى بالبنوك المركزية، ولا يعقل أن تكون لكرة القدم هيئة دولية «الفيفا» تتولى تنظيم أمور اللعبة مع الاتحادات الوطنية ولا يكون للفضاء الإلكترونى بما فيه الآن وبما سنراه فى المستقبل هيئات دولية ومحلية تراقبه وتدير شئونه لصالح المجتمعات، ولصالح الناس.