دعانا السفير الأمريكى فى القاهرة منذ سنوات لمأدبة إفطار رمضانى على شرف الكاتب الأمريكى المعروف توماس فريدمان، لنناقشه فى كتابه الفريد «الليكزس وشجرة الزيتون»، الذى أهدانا السفير نسخا منه قبل موعد الإفطار بنحو شهر. وفى الكتاب تعد السيارة اليابانية الأفخر «الليكزس» رمزا للمجتمع الصناعى المتقدم الذى ينتج خمسة ملايين سيارة فاخرة فى مصنع يستخدم 80 (ثمانين) عاملا فقط. وباقى العمال هم من «الروبوتات». بل إن 30 من العمال البشر لا يشاركون فى إنتاج السيارة، وإنما فى صيانة ورعاية العمال الآليين من «الروبوتات». أما شجرة الزيتون فهى رمز للمجتمع الزراعى فى العالم النامى الذى لم يصبه حظ التقدم الذى بلغته الدول الصناعية، والسيارة والشجرة هما أساس المقارنة التى عقدها الكاتب بين المجتمعين الصناعى والزراعى. ولفتت نظرى فى الكتاب رواية ذكر فيها أنه دخل مكتب (آلن جرين سبان) محافظ الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى (البنك المركزى) فلم يجد ورقة على المكتب، كما لم ير جهاز تليفون. فلما سأل المحافظ عن السبب رد ببساطة قائلا: ومن ذا الذى يجرؤ على الاتصال بي؟ وفى الإفطار الرمضانى أثرت هذه القصة مع (فريدمان)، فأكد أن (سبان) كان يرى أن أى اتصال به هو خرق لقواعد الأمان والحياد المصرفى. فمحافظ الاحتياطى الفيدرالى ليس متاحا لأى من يتصل به، فهو بمثابة الحكم والقاضى بين الدولة وأطراف السوق النقدى، ولا يفترض أن يختلط بالمتقاضين أو يتحدث معهم. وبالفعل رأينا لاحقا نفس محافظ الاحتياطى الفيدرالى ينصح الكونجرس الأمريكى بألا يوافق على اعتماد مبلغ 470 مليار دولار لميزانية طلبها الرئيس بوش الابن لتمويل حربه لغزو العراق، خشية التأثير السلبى لهذا الإنفاق على سلامة الدولار والسياسات النقدية، أى أن المحافظ كان يعطى نفسه الحق فى معارضة سياسة الحكومة علنا. فى هذا السياق حكى لى لاحقا الأستاذ «على نجم» محافظ البنك المركزى المصرى الأسبق (رحمه الله وطيب ذكره) أنه كان من الجيل الذى يحرص على استقلالية البنك المركزى عن أجهزة الدولة الأخرى. ودلل على ذلك بأن رئيس الوزراء فى وقته كلمه ذات مرة مطالبا الالتقاء به، وسأله تأدبا: (تحب تجيلى والا أجيلك؟). ولأن المرحلة كانت مرحلة تتطلب أن يتخذ البنك المركزى قرارات مستقلة ومحايدة، فقد رد الأستاذ على نجم قائلا: (ولا تجيلى ولا أجيلك). لأن الناس لو رأوا محافظ البنك المركزى يجتمع هذه الأيام مع رئيس الوزراء، فلابد أن هناك خللا ما، فسياسات البنك المركزى لا تناقش فى محافل أخرى غير مواقع البنك المركزى. معايير التفوق: عاصرت السلطة التنفيذية فى مصر لفترات وهى تحرص أغلب الوقت على استقلال البنك المركزى. ولاحظت أحيانا أن رئيس الدولة سابقا كان يتعرض للمسائل الاقتصادية وفى ذهنه أن مصر تكون فى أفضل حال مادام سعر الصرف الأجنبى للجنيه ثابتا وعجز الموازنة أقل من 1% والتضخم أقل من 3% . لهذا وجهت السؤال فى هذا الشأن لأحد محافظى البنك المركزى، ولأحد السادة وزراء المالية، فكانت إجابتهما متفقة مع تصورى. وزاد عليها وزير المالية فى حينه أن الرئيس كان مهتما أيضا بالاحتياطى النقدى وكان يسأل عنه بصورة شبه يومية، كما كان يتأكد من أن حجم المديونية الخارجية لا يزيد. بل إن وزيرا من المجموعة الاقتصادية فقد منصبه عندما حاول إقناع الرئيس بأن المديونية تتراجع بالمطلق لأننا نسدد أقساطها بانتظام، كما تتراجع نسبيا بحكم زيادة الناتج القومى. ولا بأس من الاقتراض فى حدود ما نسدده سنويا، ورغم ما بدا من الاقتناع بوجهة نظر الوزير، فإنه خرج فى أول تعديل وزارى. وقد قلت مرات إن كل هذه المعايير الأساسية من سعر الصرف، وعجز الموازنة، والتضخم والمديونية، والاحتياطى النقدى تبدو مثل مؤشرات صحة الإنسان الطبيعى عندما تبلغ درجة حرارته37، وضغطه 120% 80 ونبضه 69، لكن كل هذا لا يعنى أن هذا الإنسان ذاته قادر على كسب سباق الجرى لمائة متر. ولهذا اتفق عقلاء الناس على أن معايير ومؤشرات التقدم الاقتصادى تقاس بالآتى: 1- بأن يحقق الاقتصاد معدلات نمو تتفوق على معدلات زيادة السكان بثلاث مرات . 2- القدرة على التصدير والنفاذ والمنافسة فى الأسواق الخارجية. 3 - تهيئة الظروف المناسبة لجذب الاستثمار الأجنبى المباشر وزيادة الإنتاج. 4- زيادة التوظف وخلق فرص متزايدة للعمل. 5- تحسين جودة الحياة (الصحة والتعليم والغذاء والإسكان والمواصلات(فمما يقلق حاليا، النقاش والنقد المتواصل للسياسات النقدية، حول أسعار الصرف والفائدة وشروط الائتمان. وننسى أننا شهدنا فى عقد الثمانينيات سعر فائدة على الدولار بلغ 22%. ودخلت مصر وقتها فى أزمة مديونية لأن جزءا من فائدة قروضها بلغ 14% ثم تخلصنا من ذلك كله بالاتفاق مع نادى باريس. لكن رفعنا سعر الفائدة على الجنيه لأقصى مداه، ونعلم أن لذلك آثارا سلبية فى نواح أخرى، وللتوضيح أذكر أننى أعانى من مشكلة نقص فى سيولة الدم، وعلاج نقص سيولة الدم هو الإسبرين، وعيب الإسبرين أنه يؤثر سلبا فى الكلى ويتسبب فى زيادة حموضة المعدة، ومع ذلك أتعاطى الإسبرين من 25 سنة، مع علاج المظاهر الأخرى، وعلاج السيولة الزائدة فى الاقتصاد المصرى هو رفع أسعار الفائدة والخصم وإعادة الخصم والحد من الائتمان، وعيبه أنه يؤثر فى تكلفة الاستثمار. ونطمئن لو عرفنا أن الاقتراض يتم بأسعار متعددة، وبأن هناك سياسات مصاحبة توجه لعلاج الآثار الجانبية للعلاج الذى اخترناه، وينجح العلاج كلما نجح فى جذب أكبر قدر من التوافق العام حوله.