بعيدا عن الجدل الدائر حول أزمة سد النهضة وطرق معالجتها، فإن للأزمة جوانبها الايجابية تلك التى تتعلق بإحياء الاهتمام بافريقيا فى السياسة والاقتصاد. وكما هو معلوم فقد كان لمصر دور حيوى فى افريقيا على الصعيد السياسى تعود امتداداته لما قبل ثورة يوليو، غير ان سنوات الثورة شهدت زخما فى التعاطى مع القضايا الافريقية على صعيد التحرر الوطنى والتخلص من الاستعمار طوال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وهذه هى الفترة التى تعيش عليها السياسة المصرية حتى الان رغم سنوات الاهمال الطويلة التى غابت فيها إفريقيا عن الدبلوماسية الوطنية لأسباب تستعصى على الفهم والادراك. افريقيا تتغير بقوة وقد اصبحت محط انظار المستثمرين من انحاء العالم، بل مجالا للمنافسة بين الولاياتالمتحدةالامريكيةوالصين، فضلا عن الدول الاوروبية التى تمثل الاستعمار القديم الذى يجدد نفسه للاستفادة من خطط التنمية الطموح التى تجتاح الدول الافريقية. افريقيا اليوم لم تعد افريقيا الثوار الذين ناضلوا من اجل الاستقلال وخروج المستعمرين، حيث ظهر فى غالبية الدول الافريقية جيل جديد تعلم فى اوروبا وامريكا وعاد لبلاده محملا بآمال عريضة لحل مشكلات التخلف والتناحر العرقى والقبلى ساعين الى البحث عن حلول عملية للخروج من دائرة الفقر والتخلف واللحاق بركب التنمية الرشيدة، وفى هذا السياق ظهر مشروع سد النهضة والسدود الاخرى التى تعتزم اثيوبيا بناءها لحل مشكلة الطاقة 14٪ فقط من الاثيوبيين يتمتعون بخدمات الكهرباء فى المنازل و74 ٪ منهم يعيشون تحت خط الفقر وفقا لبيانات البنك الدولى». على الجانب الاخر تشكل افريقيا باحتياجاتها المتعددة لكل انواع البنية الاساسية والخدمات مجالا خصبا للشركات الباحثة عن توظيف مجهوداتها بعد ان تشبعت الاسواق الاخرى فى الغرب والشرق، كما تمثل ثروات افريقيا المدفونة والمنسية فرصا هائلة للفوائض المالية الهائمة حول العالم فى ضوء تشبع الاسواق التقليدية والتقلب الذى تشهده أسواق المال والسلع والنفط الذى يفرض على مديرى الصناديق السيادية العودة مرة اخرى لتخصيص جانب من استثماراتهم للمشروعات التقليدية، ومن هنا تأتى فرصة مصر والدول الافريقية. الفقر وصعوبات التمويل تمثل حجر العثرة امام الاستثمار فى افريقيا خاصة فى مجالات انشاء وتطوير البنية الاساسية فى انحاء القارة، التى تحتاج الى 90 مليار دولار سنويا لمدة 30 عاما للوصول بمستوى هذه المرافق الى ما هى عليه الان فى الدول البازغة بآسيا.. وهذه هى المعضلة التى تسعى الصينوالولاياتالمتحدةالامريكية للتنافس على حلها سعيا وراء تهيئة المجال امام استثماراتها المباشرة لاستغلال ثروات القارة، ومع وصول الاموال الخليجية الى دول افريقيا باتت المنافسة على الاستثمارات عالمية تتوزع على مختلف الانشطة بدءا من الزراعة والصناعة مرورا ببناء المرافق ووصولا الى اسواق الطيران وبناء المطارات. افريقيا بهذا المعنى تعيش فورانا اقتصاديا كان لابد لنا من المشاركة فيه منذ البدء حيث تتزامن برامج الاصلاح التنموى فى بلادنا مع موجة اليقظة التى حلت بدول افريقية كثيرة، واذا كانت هناك محاولات مصرية منفردة لولوج الاسواق الافريقية الا ان الامر يستحق ان يكون اكثر تخطيطا وتنظيما خاصة فيما يتعلق بالبحث عن شريك كبير يسهم معنا فى فتح الاسواق الافريقية والتعاون فى تنفيذ المشروعات التى تحتاجها ولا يوجد فى الوقت الراهن اكثر من الصين لممارسة هذه الشراكة. التواجد الصينى فى القمة الاقتصادية التى عقدت بشرم الشيخ كان بلا شك دون التوقعات ولا يلبى الطموح فى تنمية سريعة ومستدامة كما يأمل الجميع فضلا عن بحث شراكة استراتيجية للعمل معا فى افريقيا، وباستثناء الحديث عن توقيع تفاهم بشأن انشاء قطار فائق السرعة بقيمة تناهز 7 مليارات دولار، فإن القمة لم تشهد زخما من الشركات الصينية ولا على المستوى الحكومي، وهذا امر يمكن تداركه خلال الزيارة المرتقبة للرئيس الصينى مطلع الشهر المقبل وبصحبته وفد من رجال الاعمال وممثلى الشركات. ففى ظروف كالتى تمر بها بلادنا يصبح الدور الصينى محوريا فى مساندة مشروعات التنمية والتحديث على ارضية المصالح المتبادلة. وغنى عن البيان ان العلاقات الاقتصادية بين مصر والصين لا تعكس عمق العلاقات التاريخية بين البلدين، ولا تعبر عن فرص التعاون المشترك التى يمكن ان يفيد بها كل جانب الطرف الاخر، فحجم التبادل التجارى بين البلدين قفز بسرعة من نحو 6 مليارات دولار فى عام 2008 الى ما يزيد على 11 مليار دولار الان لتمثل التجارة مع الصين حوالى 12 ٪ من جملة تجارة مصر الخارجية، ومع ذلك فإن حجم الاستثمارات الصينية المباشرة فى مصر لايزال ضئيلا للغاية لا يتجاوز 500 مليون دولار، وهى نسبة لا تذكر بين جملة الاستثمارات الاجنبية فى بلادنا وهذا وضع يتعين تصويبه بسرعة بمشاركة الدبلوماسية المصرية ومنظمات الاعمال، ففرص التعاون المتاحة بين البلدين هائلة ولكنها تبحث عن اقتراب مختلف اكثر جرأة وعمقا لتحويلها الى شراكة استراتيجية نافعة للطرفين.. فى مصر وخارجها. الاقتصاد الصينى يمر الان بتحولات جوهرية سوف تنقله بسرعة لاحتلال مقدمة اقتصادات العالم خلال سنوات كما هو متوقع من الجميع، ولكن هذه التحولات تمثل ايضا فرصة للدول الباحثة عن النمو السريع. والحاصل ان ادارة الاقتصاد الصينى وبعد 36 عاما من النمو المستمر قررت التخلى عن الصناعات الهامشية والاقل اهمية وتصاعد اهتمامها بالصناعات الدقيقة والمتطورة لتنافس بذلك مباشرة الولاياتالمتحدةالامريكية واليابان وألمانيا فى مجالات كانت حكرا على هذه الدول خلال العقود الاخيرة. هذا التطور ساهم فيه وأدى اليه العديد من العوامل التى من بينها نجاح الصين فى استيعاب وتوطين ونقل انواع مختلفة من التكنولوجيا فى مجالات عديدة، ووصول درجة الابتكار والبحث العلمى فى الصين الى مستويات متقدمة باتت تمكنها من التخصص فى انتاج الصناعات الاكثر تطورا لتنافس فى ذلك صناعات مثل الآلات الدقيقة والالكترونيات المتطورة واجهزة الاتصال الحديثة فضلا عن السيارات التى قطعت فيها شوطا هائلا خلال سنوات قليلة، وقريبا تخطط الصين للدخول بقوة فى صناعة الطائرات لتدخل بذلك آخر معاقل الصناعات التى تعد حكرا على الامريكيين والاوروبيين منذ ظهورها. الارتفاع المنتظم فى الاجور كان من بين الاسباب التى دعت الصين للتوجه نحو الصناعات الاكثر تطورا بجانب ارتفاع مستويات الاستهلاك الداخلى الى حد بات ينافس التصدير كمحرك للنمو. وطبقا للعقلية الصينية المعروفة بتنظيمها الدقيق وتعقد حساباتها وتشعبها فقد اختارت الادارة الصينية اجراء تخلٍّ منظم عن الصناعات التى سوف يتم الاستغناء عنها وترحيلها الى دول معينة لانشاء ما اطلقت عليه منظومة الانتاج الصينية اعتمادا على عدة دول بالخارج بالاضافة الى مصانعها المحلية، وهكذا فإن الادارة الصينية شرعت الان فى السماح بنقل كثير من المصانع الى عدة دول اسيوية للاستفادة من رخص الايدى العاملة بها وانخفاض تكاليف الانتاج بصفة عامة، وعلى رأس هذه الدول فيتنام والفلبين.. حتى ميانمار اصبحت محط انظار الاستثمارات الصينية الساعية للانتقال خارج الحدود رغم التوترات السياسية فى هذا البلد وعدم الاستقرار الذى يشهده لسنوات كثيرة كانت الصين تنظر برضا «محسوب» الى الشعار الذى يعتبرها مصنع العالم، ولكن هذا المفهوم يجرى تطويره لكى تكون آسيا برمتها او الدول الاسيوية الدائرة فى الفلك الصينى هى مصنع العالم بحيث تختص الصين بالصناعات الدقيقة والمتطورة فيما تنقل بقية الصناعات التى تنتج سلعا رخيصة الى عدة دول خارجها.. وهنا تأتى فرصة الاقتصاد المصرى. كما هو معروف فإن تطورات انظمة الانتاج والنقل دعت كثيرا من الشركات العالمية للبحث عن نقاط لتصنيع او تجميع منتجاتها قريبا من الاسواق المستقبلة لهذه السلع، وتمثل الاراضى المصرية بموقعها الجغرافى ميزة نسبية فى هذا المجال لاسيما مشروع تطوير وتنمية ضفتى قناة السويس الذى يخدم منطقة ملاحية واسعة تربط بين 3 قارات ومعظم الموانى الواقعة على الطريق الواصل بين سنغافورة فى اقصى الشرق مرورا بموانى اوروبا على البحر المتوسط ووصولا الى الساحل الشرقى للولايات المتحدةالامريكية.. هذا كله بالاضافة الى افريقيا بالطبع. هذا الموقع الفريد فضلا عن الاهتمام الصينى المتصاعد باسواق افريقيا يمكن ان يثير شهية الصين لضم السوق المصرى الى منظومة الانتاج الصينية الجديدة التى تتشكل الان خاصة مع السعى لاحياء طريق الحرير الجديد وهو مشروع استراتيجى ضخم وطموح ومصر تعد احدى النقاط الواقعة عليه، ومن هنا فإن تلاقى المصالح التجارية والاقتصادية بين البلدين ظاهر بصورة لا تخطئها العين، فنحن نبحث عن زيادة الاستثمارات الصناعية الجادة والمتنوعة والضخمة، بينما الصينيون يبحثون عن ملاذات لانتاج سلع قرروا الاستغناء عن انتاجها داخل حدودهم.. بقى فقط العمل على تهيئة الاجواء السياسية والاقتصادية لوضع هذا الهدف موضع التنفيذ على ارضية تبادل المصالح والاستفادة المشتركة، وربما يكون هذا الامر ضمن اولويات جدول اعمال زيارة الرئيس الصينى للقاهرة إبريل المقبل.