تتجه الانظار الان نحو العاصمة الجديدة لمصر وهو حدث بلا شك كبير ومهم يستحق الاستعانة بالخبرات العالمية.. مما ذكرنى بأول تخطيط وتنظيم لمدينة القاهرة والمعروفة ب»القاهرة الخديوية» منذ 146 سنة الذى نفذته عقول مصرية صميمة.. فقد انجبت مصر فى تلك الفترة اعلاما فى مختلف التخصصات نقلت مصر من عصورها المظلمة الى عصر النهضة واليقظة والتحضر وكان على باشا مبارك واحدا من هؤلاء الاعلام. تخطيط وتنظيم القاهرة كثيرا ما اقترن اسم على مبارك بالتعليم وهو الملقب ب»ابو التعليم فى مصر» ولكن فى حقيقة الامر كانت له اعمال هندسية عظيمة تمثلت فى تخطيط القاهرة وتوسيع شوارعها واقامة المبانى والعمارات بها وانشاء معظم احياء القاهرة الجديدة منها احياء عابدين وباب اللوق وشوارع وميادين الازبكية ومحمد على واستحداث اضاءة شوارع القاهرة بغاز الاستصباح واقامة وابور المياه لتغذية سكانها بالمياه النقية بواسطة شركتى المياه والنور وتصميم كوبرى قصر النيل الذى ظل لمدة طويلة فى طليعة كبارى العالم بالاضافة الى اهتمامة بتعمير مدينتى الاسكندرية والسويس وشق الترع والجسور فى مختلف الاقاليم المصرية وانشاء العديد من محطات السكة الحديد.كل ذلك الى جانب دوره الثقافى بانشاء «دار الكتب المصرية» عام 1870 وكان مقرها فى درب الجماميز فوضع قانونا لضبطها وعدم ضياع كتبها وكان ينفق عليها من ميزانية المدارس، كما اقام مختلف الدواوين فى مديريات المحروسة . ولد على مبارك عام 1824 بقرية برنبال الجديدة بالمنصورة بمحافظة الدقهلية فى اسرة رقيقة الحال، كان والده اماما وخطيبا وقاضيا فى قريته وبسبب الظلم المسلط على الفلاحين فى تلك الفترة تركت العائلة القرية واستقرت فى عرب السماعنة وهناك تحسنت احوال الاسرة وألحقه والده بالكتاب ولكنه هرب منه لقسوة الشيخ فالحقه والده للعمل لدى مأمور زراعة القطن، وهناك تغيرت حياته كلها عندما رأى المأمور وكان حبشيا اسود فوجد كبار القوم يحترمونه ويتقربون إليه، وعندما سأل عرف ان المأمور درس فى «مدرسة الجهادية « بقصر العينى! فسعى بشتى السبل للالتحاق بهذه المدرسة وبالفعل استطاع بذكائه الفطرى ان يقنع من جاءوا من القاهرة لاختيار نجباء الاطفال لالحاقهم بمدرسة الجهادية وسافر الى القاهرة وكان عمرة 10 سنوات والتحق بالمدرسة ثم نقل الى المدرسة التجهيزية بابى زعبل ولنبوغه تم اختياره لمدرسة المهندسخانه ببولاق ليدرس بها لمدة 5 سنوات وكان دائما اول فرقته لذلك تم اختياره ضمن «بعثة الانجال» التى سافرت الى فرنسا 1844 وكانت البعثة تضم بعض ابناء واحفاد محمد على باشا ومنهم الامير اسماعيل «الخديو» فيما بعد، وفى باريس انشئت المدرسة المصرية لتعليم الطلبة اللغة الفرنسية ومرة اخرى اثبت تفوقه واصبح اول البعثة .كانت البعثة لتعلم الفنون الحربية فقد التحق لمدة عامين بمدرسة المدفعية والهندسة الحربية باعتباره الاول على البعثة وكانت الحكومة المصرية خصصت له راتبا شهريا قدره 250 قرشا، كان يرسل نصفه لاهله فى مصر ! .عند عودته تم تعيينه مدرسا بمدرسة طرة الحربية ثم ناظرا لمدرسة المهندسخانه ثم شارك فى حرب القرم لمدة 10 شهور، عاد بعدها الى مصر بعد قرار من سعيد باشا والى مصر باخلاء سبيل الجنود واعادتهم الى بلادهم وقام بإنهاء تجنيد كثير من ضباط الحملة وكان منهم على مبارك وساءت احواله المالية ففكر فى العودة الى بلده ومزاولة الزراعة ولكنه مارس التجارة ببيع الكتب التى كان يطبعها اثناء نظارته للمهندسخانه وازدادت حالته سوءا وبؤسا الى ان توفى سعيد باشا 1863 فكان ذلك فاتحة فصل جديد فى حياة على مبارك بعد ان امضى 14 سنة هباء دون الاستفادة من علمه ودراسته.عندما تولى الخديو اسماعيل حكم مصر 1863 تذكر زميله القديم فى بعثة باريس فعينه ناظرا على القناطر الخيرية واستطاع حل مشكلة عظيمة هددت بانهيار القناطر فازداد اقتناع الخديو به وتولى بعد ذلك حفر الرياح المنوفى وانشاء قناطره ومبانيه. وفى عام 1867 عين وكيلا للمعارف، ومن هنا بدأ على مبارك يحقق احلامه فى التعليم العام، وبعد عودته من مهمة عمل قصيرة فى باريس عين وزيرا للمعارف والاشغال بجانب ادارة مصلحة السكة الحديد ثم ضمت اليه وزارة الاوقاف مع احتفاظه بادارة القناطر الخيرية وتعتبر هذه الفترة هى العصر الذهبى لعلى مبارك تكفى لتخليد اسمه لما بها من اصلاحات عظيمة واعمال رائعة. على مبارك ومشروع التعليم استأذن على مبارك الخديو اسماعيل فى نقل المدارس من العباسية الى درب الجماميز (وكانت المدارس عبارة عن عدة فصول) وخصص سراى الامير مصطفى فاضل لتكون مقرا لها وجعل سلاملك السراى مقرا لنظارة المعارف وبدأ فى تحويل كثير من الكتاتيب الى مدارس ابتدائية نظامية فى القاهرة والاقاليم وجعل كثيرا من الاماكن الموقوفة بعد اصلاحها مدارس نظامية واستخدم جزءا من اموال نظارة الاوقاف فى الانفاق على التعليم وقرر على المقتدرين من آباء التلاميذ دفع مصروفات قليلة واعفاء غير القادرين مع استيفاء باقى النفقات من الاوقاف الخيرية وخصص الخديو اسماعيل لهذه المدارس ايراد تفتيش الوادى بالشرقية كما منحها بعض الاملاك التى آلت لبيت المال من بعض التركات فكانت هذه الموارد ما ينفق بها على المدارس بالاضافة الى الميزانية العامة وما يدفعه الاهالى المقتدرون . انشاء دار العلوم من الطبيعى ان تحتاج هذه المدارس الى مدرسين مما جعل على مبارك ينشئ مدرسة دار العلوم 1871 لتخريج اساتذة اللغة العربية والاداب للمدارس الابتدائية اما الرياضيات والجغرافيا والتاريخ واللغات الاجنبية فتم اختيار مدرسيها من اوائل المتخرجين من المدارس العليا مثل المهندسخانه ومدرسة الادارة «الحقوق» وتم اختيار طلاب دار العلوم ممن اجتازوا الامتحان من الطلبة الازهريين. تضمن برنامج التعليم بدار العلوم المواد التى لا تدرس فى الازهر كالحساب والهندسة والطبيعة والجغرافيا والتاريخ والخط بالاضافة الى اتقان العلوم الازهرية وجعل التعليم بها مجانا مع راتب شهرى للطلبة وكان لانشاء دار العلوم الاثر الكبير فى احياء اللغة العربية وادابها . الوشاية بعلى مبارك كان من المتوقع ان تصطدم شخصية نابغة مثل على مبارك بالوشايات والوقيعة التى ادت الى انفصاله عن الوزارات التى ترأسها وألزمته منزله الا ان الخديو اسماعيل لم يهتم بهذه الوشايات لايمانه بامكانياته وعطائه الغزير واعاده وزيرا للمعارف والاوقاف حتى نهاية حكم اسماعيل فى 1873 . شارك على مبارك فى عدة وزارات خلال حكم الخديو توفيق وفى عام 1888 كان وزيرا للمعارف وظهر فى تلك الفترة مؤلفه الضخم «الخطط التوفيقية « لمصر والقاهرة ومدنها وبلادها القديمة الشهيرة ويقع فى 20 مجلدا وهو بحق دائرة معارف متكاملة وما زالت هذه الخطط مصدرا مهما لتاريخ مصر . استمر على مبارك ينشر التعليم وينشئ المدارس الى ان استقالت الوزارة عام 1891 وعاد الى بلده ليتفقد املاكه الى ان مرض فعاد الى القاهرة للعلاج وتوفى فى منزله بالحلمية عام 1893 بعد 40 سنة من العطاء المتواصل.