فى حديثه أمام المؤتمر الأول للاقتصاد الإيرانى فى مطلع الشهر الجارى، أكد الرئيس الإيرانى حسن روحانى أن بلاده لن تنعم بالنمو المستدام إذا تم عزلها عن بقية العالم، مشيراً إلى أنه لا يوجد بلد مكتفٍ ذاتياً بشكل كامل وحتى لو اكتفى ذاتياً واستطاع تأمين الحاجات الأساسية لا يعنى ذلك أنه حقق إنجازاً اقتصادياً، وقبل بضعة أسابيع قال روحانى إنه سيواجه المتشددين فى إيران فى إطار جهوده لإبرام اتفاق تتعهد فيه طهران بعدم إنتاج سلاح نووى فى مقابل رفع العقوبات الدولية. كلمات الرئيس الإيرانى تحمل دلالة مهمة وهى ضرورة أن تكون السياسة فى خدمة الاقتصاد، ولا سيما فى ظل المشاكل الضخمة التى تواجه الاقتصاد الإيرانى جراء الانهيار المتواصل لأسعار النفط العالمية. كما أن العقوبات المصرفية والنفطية من جانب الاتحاد الأوروبى والولاياتالمتحدة على صادرات النفط الإيرانى خلال العامين الماضيين، تحول دون إمكانية الحصول على الإيرادات النفطية. وفى ظل هذه الأوضاع، سيكون من الصعب إنجاز الإصلاحات التى يتبناها الرئيس روحاني. والمتمثلة فى تحفيز الإنتاج المحلى وخلق المزيد من فرص العمل من أجل مواجهة البطالة التى وصل معدلها إلى 23 ٪ بين الشباب. بالإضافة إلى خفض اعتماد البلاد على العائدات النفطية. وكان الاقتصاد الإيرانى قد شهد تحسناً نسبياً فى النصف الثانى من عام 2013 على خلفية الاتفاق المبدئى بين ايران ومجموعة 5+1 فى نوفمبر 2013 ، الذى حصلت بموجبه على حصة من عائدات النفط المجمدة فضلاً عن السماح لها بمواصلة بيع مليون برميل من النفط يوميا، وهى بالطبع كمية أقل بكثير من المتوسط اليومى الذى يبلغ 2.3 مليون برميل يوميا، قبل العقوبات الغربية. وقد كان لهذا الانتعاش النسبى إلى جانب الإدارة الجيدة لحكومة الرئيس حسن روحانى والتفاؤل المتزايد بشأن المفاوضات، تأثير إيجابى على الأوضاع الاقتصادية، حيث ارتفع معدل النمو الاقتصادى، الذى كان سلبياً فى عام 2013، إلى 4.6 ٪ فى الربع الثانى من عام 2014 كما انخفض معدل التضخم بشكل ملحوظ، من 40 ٪ فى عام 2013 إلى أقل من 20 ٪ فى عام 2014 . صعوبات مالية ولكن رغم هذه التطورات فإن الصعوبات المالية لا تزال تحاصر النظام الإيرانى ولا سيما أن إيران كانت قد استندت فى ميزانيتها خلال العام الماضى إلى أن أسعار النفط 100 دولار، ولكن حدث عجز كبير فى الأشهر الأخيرة من العام بسبب انخفاض أسعار النفط. وفى ديسمبر الماضى كشفت طهران عن مشروع ميزانية للعام المقبل استناداً إلى أن سعر النفط 70 دولارا للبرميل، ولكنه انخفض الآن إلى أقل من 50 دولارا للبرميل، ولا توجد أى مؤشرات على توقف هذا الانهيار فى أسعاره قريباً وهذه ما سيؤدى إلى عجز هائل فى الميزانية. وتسبب هبوط اسعار النفط بحسب وزير الاقتصاد الايرانى على طيب فى نشوء ظروف حرجة للاقتصاد الايراني، ونتيجة لذلك فإن ايران تخوض حربًا اسوأ من حربها مع العراق فى ثمانينيات القرن الماضي. وبالتالى فإنه يتعين على الحكومة أن تعيد النظر فى ميزانية السنة المالية الجديدة بخفض عائداتها النفطية المتوقعة من 70 دولارًا إلى 40 دولارًا للبرميل. ويتضمن مشروع موازنة السنة الجديدة التى تبدأ مارس المقبل 11٪ زيادة فى الإنفاق المالي، ولكن التضخم الذى يبلغ 15 ٪ سيأكل أى زيادة، ما يعنى فى حقيقة الأمر انخفاضاً فى النفقات الحكومية. وهو ما سيقود بالتبعية إلى تقليص قدرة الحكومة على اعتماد سياسة مالية لتحفيز الاقتصاد. وعلاوة على ذلك، وتحت ضغوط سياسية، لن تكون الحكومة قادرة على خفض الميزانية بصورة كافية بسبب انخفاض الإيرادات، وربما تضطر إلى زيادة الاقتراض من البنك المركزى. ومع أن الاقتراض الحكومى سيساهم فى زيادة السيولة، إلا أنه قد يحول دون تحقيق ما وعد به روحانى لجعل خفض التضخم أولوية اقتصادية قصوى له فى العام الجارى، ولا سيما فى ظل تدهور قيمة الريال الإيرانى الذى فقد نحو 14٪، من قيمته أمام الدولار خلال شهرين. وخصصت ميزانية العام الجارى التى تقدر بنحو 294 مليار دولار اعتمادات مالية لمشروعات التنمية أكبر من الاعتمادات الموجهة للسلع والخدمات ورواتب موظفى الحكومة. ومع ذلك فقد يكون هذا الهدف هو الآخر بعيد المنال. ولا سيما بعد ان توسعت حكومة الرئيس السابق محمود أحمدى نجاد فى التوظيف بالقطاع العام بشكل ملحوظ دون اعتبار لتكلفة الأجور والرواتب الحكومية على المدى الطويل. ومن ثم سيتعين على حكومة روحانى مواجهة البيروقراطية الحكومية المتضخمة التى تمتص ما يقرب من 80 ٪ من النفقات المالية الحالية فى صورة أجور وحوافز. ونظراً لأنه من الصعب جدا خفض هذه الأجور أو تسريح العدد الزائد من موظفى الخدمة المدنية، فمن المرجح أن تضطر الحكومة إلى رفع حجم النفقات الرأسمالية على مدى فترة طويلة، وتجميد بعض المشروعات التنموية الكبرى حتى حين. التجارة الخارجية وإزاء هذه الضغوط تحاول إيران على الأرجح توسيع العلاقات الاقتصادية مع الصينوروسياوتركيا. الصين هى بالفعل أكبر شريك تجارى لإيران وثانى أكبر مستورد للسلع الايرانية بعد الإمارات. فالصين أكبر مشتر للنفط الإيراني، حيث استوردت فى عام 2013 نحو 420 ألف برميل يوميا مقارنة ب199 ألف برميل يوميا للهند، ثانى أكبر مستهلك للنفط الإيراني. كما حققت إيران أيضا تقدماً فى المفاوضات الاقتصادية مع روسيا، وخلال الأشهر القليلة القادمة سوف يتم تفعيل الاتفاقات التى أبرمت بين الجانبين فى العام الماضى والتى بموجبها ستحصل إيران على التكنولوجيا النووية وغيرها من تكنولوجيا الطاقة ذات الصلة وكذلك القمح، فى مقابل النفط إلى جانب السلع التحويلية الخفيفة. وتسعى إيران بقوة لتعزيز العلاقات الاقتصادية مع تركيا، فحجم التجارة الثنائية بين الجانبين يصل حاليا لنحو 20 مليار دولار، وإيران هى المورد الرئيسى للغاز الطبيعى فى تركيا. وعلى الرغم من الخلاف العميق والدائم مع ايران بشأن سوريا، فإن تركيا تستفيد من توسيع التجارة الثنائية، ولكنها من المرجح أن تتحرك بحذر تحسباً لأى خطوات قد تغضب الولاياتالمتحدة. ولكنه حتى لو نجحت جهود إيران فى توسيع العلاقات الاقتصادية مع هذه الدول، فإن الحجم الإجمالى للتجارة الخارجية الايرانية سيتقلص بسبب انخفاض عائدات النفط. وسوف تذهب هذه الجهود سدى فى حال تبنى عقوبات إضافية ضد إيران وهو ما سيؤدى إلى تفاقم المشاكل الاقتصادية التى تواجه طهران. وعلى ضوء الانتعاش الاقتصادى الذى شهده الاقتصاد عقب الاتفاق مع مجموعة 5+1، بشأن البرنامج النووى الإيرانى يرى عدد من المحليين أن الانتعاش الاقتصادى الحقيقى لن يكون ممكنا إلا عندما يتم التوصل إلى اتفاق نووى دائم، وهذا الأمر واضح لجميع الأطراف فى إيران سواء من المتشددين أو الإصلاحيين والمعتدلين. وكانت المفاوضات التى عقدت بين إيران ومجموعة 5+1 فى نوفمبر الماضى قد فشلت فى التوصل الى اتفاق بشأن البرنامج النووى الإيرانى وتم تمديد أجل المفاوضات لمدة سبعة أشهر أخرى، حتى يوليو القادم. ويرى أنصار هذا الطرح أن الاقتصاد الإيرانى سيتحسن، بما يؤدى إلى توفير المزيد من الفرص للتجارة والاستثمار، وبالتالى نوعية حياة أفضل لجميع الإيرانيين بالإضافة إلى توفير الاستقرار السياسي، فقط فى حال تم التوصل إلى اتفاق. فانخفاض التضخم خلال الأشهر الستة الماضية وتوقيع الكثير من الاتفاقيات التجارية والتعاقدات الاستثمارية المشتركة مع شركات دولية هو مؤشر إيجابى لما سيبدو عليه الانتعاش الاقتصادى إذا تم التوصل الى اتفاق دائم. الأثر الاقتصادى للاتفاق النووى ويقول الدكتور جاربس إراديان نائب رئيس معهد التمويل الدولى لمنطقة الشرق الأوسط وإفريقيا إنه فى حال تم التوصل إلى اتفاق نهائى مع طهران بحلول يوليو 2015 فإن ذلك سيسمح لإيران باستئناف صادراتها النفطية بنفس المعدلات السابقة فضلاً عن استئناف تعاملاتها المالية على المستوى الدولى دون أى محاذير. كما يسمح ذلك بعودة الاستثمارات الأجنية فى قطاع النفط وبالتالى رفع سقف الإنتاج وتوسيع دور إيران فى أسواق الطاقة العالمية ولا سيما أنها تستحوذ على 9.4٪ من احتياطيات النفط العالمية (ثالث دولة بعد السعودية وفنزويلا). وبحسب التقرير الذى أصدره معهد التمويل الدولى فإن الاقتصاد الإيرانى سيشهد تعافيا ملحوظاً خلال العامين التاليين لتوقيع الاتفاق بحيث سيرتفع معدل نمو الناتج المحلى الإجمالى خلال عامى 2015/2016 و2016/2017 ليصل إلى 5٪ و 6٪ على التوالي. وفى المقابل فإنه بدون هذا الاتفاق فإن الاقتصاد الإيرانى سيتدهور بصورة كبيرة كما سترتفع معدلات البطالة. وفى ظل هذه الأجواء فإن أى عقوبات اقتصادية جديدة ستفاقم معاناة الإيرانيين وربما تؤدى إلى اضطرابات داخلية يصعب احتواؤها . علاوة على ذلك يعانى النظام المالى الإيرانى فعلياً من العقوبات. فالبنوك الإيرانية تعانى من التخبط الإدارى ونقص فى رءوس الأموال، علاوة على ارتفاع حجم القروض المتعثرة السداد إلى 14٪ من إجمالى القروض مما يعكس معوقات فعلية فى التدفق النقدى داخل قطاع الشركات. وتواجه معظم الأعمال صعوبات فى الحصول على القروض بسبب نقص السيولة والتدابير الصارمة التى تفرضها مؤسسات التمويل فى ظل النقص الحاد فى العملات الأجنبية. لا تنازلات بينما يذهب فريق آخر إلى أن طهران لن تقبل المساس بسياساتها النووية. ويشير جواد صالحى أصفهاني، أستاذ الاقتصاد فى جامعة فرجينيا للتكنولوجيا إلى أن انهيار أسعار النفط ليس سبباً كافياً لايران لتقديم تنازلات بشأن برنامجها النووى. وتقول سوزان مالونى كبير المحللين فى معهد بروكينجز الأمريكى إن انخفاض أسعار النفط سيسبب مشاكل للرئيس روحانى وخطته لانعاش الاقتصاد، التى فاز بموجبها بالرئاسة. وتؤكد دينا اسفنديارى، وهى باحث مشارك فى المعهد الدولى للدراسات الاستراتيجية فى لندن أن العقوبات قد قلصت بالفعل انتاج ايران من النفط الخام إلى أدنى مستوى له منذ التسعينيات، ولعبت دورا فى تشجيع طهران للعودة إلى طاولة المفاوضات فى العام الماضي. وأنه لولا الصعوبات الاقتصادية والعقوبات، لما أمكن التفاوض مع الإيرانيين كما يحدث فى الوقت الراهن، ولكن الطموحات النووية والكرامة الوطنية لها دور لا يستهان به. وكان المرشد الأعلى آية الله على خامنئى قد أكد مؤخراً أن إيران يجب أن تتبنى "اقتصاد المقاومة" من أجل زيادة الإنتاج المحلى من السلع الاستراتيجية وخفض الاعتماد على الصادرات النفطية، للتغلب على آثار العقوبات. وهو ما تم ترجمته فى الميزانية الجديدة التى خفضت اعتمادها على عائدات النفط من أكثر من 50 ٪ فى العام الماضى إلى 33 ٪ فقط. ويقول بيجان خاجهبور وهو مستشار اقتصادى للمستثمرين الدوليين فى إيران إن انخفاض أسعار النفط ليس بالكارثة بالنسبة لإيران. ويشير إلى أنه عندما تنخفض إيرادات النفط، فإن الحكومة يمكنها أن تقلل إما النفقات وإما تعمل على زيادة دخلها من خلال التوسع فى الضرائب وعمليات الخصخصة.