تعكس الزيارات التى قام بها الرئيس عبد الفتاح السيسى لعواصم ثلاث من دول منظومة مجلس التعاون وهى السعودية (مرتين)، ثم الكويت ثم الإمارات أيام السبت والأحد والاثنين الماضيين، إضافة الى الزيارة المرتقبة للبحرين خلال الفترة المقبلة، تطورا ملحوظا فى منهجية العلاقات المصرية الخليجية، يرمى الى بناء نسق مغاير لما كان سائدا فى السنوات الأربعين المنصرمة، مع تعظيم ما تحقق من جوانب إيجابية فيه، يقوم بالأساس على تكريس فكرة المصالح المشتركة بحسبانها الدافع العملى لتعزيز مختلف مستويات التعاون، وفقا لمحددات الندية والاحترام المتبادل وعدم التدخل فى الشئون الداخلية لأى طرف، مع الأخذ فى الاعتبار بالطبع المقومات التقليدية التى تنهض على أسس تاريخية وجغرافية والترابط الشعبى الذى يتسم بالحميمية، فضلا عن الأواصر الدينية التى تشكل على الدوام المرتكز الصلب لهذه العلاقات مما أسهم فى حمايتها من تعرجات ومنعطفات حادة وجعل دول مجلس التعاون، لا تتبنى خطوات حادة تجاه مصر عندما أعلنت أغلبية الدول العربية مقاطعة مصر، بعد إبرام الرئيس الراحل أنور السادات اتفاقية كامب ديفيد والسلام مع اسرائيل فى عام. 1979 وتؤشر هذه الزيارات الى حقيقة باتت واضحة المعالم والقسمات مؤداها أن منطقة الخليج العربى تسكن قلب السياسة الخارجية لمصر فى ضوء المحددات الجديدة، التى أضحت تتنباها باتجاه تفعيل دور وأداء هذه السياسة بعد ثورتى الخامس والعشرين من يناير والثلاثين من يونيو، وفق ما بات يحكمها من سمات، تتمثل فى التوازن واستقلالية القرار الوطنى وتنويع البدائل والخيارات أمام صانع القرار، وتجنب أى عزلة أوالعمل لحساب طرف إقليمى أو دولى دون آخر، وبالذات على صعيد الدائرة العربية التى تجرى عملية إحداث أكبر قدر من الدينامية باعتبارها الدائرة الأولى، ضمن مرتكزات التحرك الخارجى منذ أن حددها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر فى كتابه فلسفة الثورة فى عام 1954 . الى جانب الدائرة الإفريقية ثم الدائرة الإسلامية وصولا الى الدائرة العالمية الأوسع . ووفقا لرؤى الخبراء، فإن منطقة الخليج تواجه تحديات وتهديدات إقليمية فى مقدمتها بروز تنظيم داعش، الذى سيطر على مساحات من الأراضى تمتد من الأنبار فى العراق الى حلب فى سوريا، التى تزيد على مساحة دولة كبرى مثل بريطانيا، وتتماس بصورة مباشرة مع حدود عدد كبير من دول المنطقة الى جانب تهديدات وجهها قادته لبعض هذه الدول، ثم خطر إيران بما ينطوى عليه من نوايا مضمرة تجاه المنطقة،التى تنظر اليها باعتبارها حزاما خلفيا لها وهو ما يأخذ أشكالا مختلفة من التدخل فى شئونها الداخلية على نحو أو آخر، فضلا عن استمرار احتلال طهران لثلاث من جزر الإمارات الثلاث أبو موسى ثم طنب الكبرى ثم طنب الصغرى الى جانب مشروعها النووى، الذى ما زالت تتشكك فيه دول المنطقة خاصة على صعيد إمكانية تحوله الى السياق العسكرى، بما يعنى إنتاج القنبلة النووية وهو ما ينطوى على مخاطر جمة، ليس على منطقة الخليج فحسب وإنما على مجمل المنطقة العربية، الأمر الذى دفع قادة دول مجلس التعاون فى قمتهم الأخيرة التى عقدت بالدوحة فى التاسع من ديسمبر الماضى، الى تشجيع المضى قدما فى المفاوضات الدائرة منذ أكثر من عام، بين إيران من ناحية ومجموعة 5 + 1 من ناحية أخرى، للتوصل الى اتفاق ينهى هذه الأزمة التى لا تقتصر مخاطرها على البعد العسكرى فقط، وإنما تمتد الى البعد البيئى خاصة مع قرب مفاعل بوشهر النووى من سواحل دول الخليج ببضعة مئات من الكيلومترات، ومن ثم فإن دول مجلس التعاون تبدو فى حاجة الى قوة مصر الناعمة وأحيانا الصلبة للتعامل مع هذه التحديات والتهديدات والحد من تأثيراتها، وهو ما كان واضحا فى سلسلة التصريحات التى أدلى بها الرئيس عبد الفتاح السيسى خلال زياراته للدول الثلاث، من أن أمن الخليج من أمن مصر، ويمثل خطا أحمر بالنسبة لها وهو ما يستوجب قدرا كبيرا من التكاتف العربى للتصدى لمحاولات زعزعته، والرسالة واضحة لأى طرف يسعى الى تهديد أمن هذه المنطقة سواء عسكريا أو اقتصاديا وتجلى كذلك فى عبارته التى اتسمت بالمودة والحميمية، والتى دعا فيها قادتها إلى المحافظة على أمن واستقرار بلدانهم وقالها بالعامية المصرية «خلوا بالكم من بلادكم». وفى هذا السياق يشير المراقبون الى أن هذه الزيارات قد تؤسس لتحالف استراتيجى مصرى خليجى، وهو مطلب دعا اليه رئيس مجلس الأمة الكويتى مرزوق الغانم، وعدد غير قليل من الخبراء الاستراتيجيين بالمنطقة، وقد تم تسريب معلومات بالفعل - قبل فترة - الى إحدى وكالات الأنباء العالمية وهى رويترز من مصادر وصفت بالرفيعة المستوى عن اتصالات بين الجانبين المصرى والخليجى، لتشكيل هذا التحالف الذى قد يأخذ طابعا عسكريا وسياسيا واقتصاديا، وهو ما من شأنه أن يسهم فى ضبط حالة السيولة فى المنطقة العربية ككل التى تواجه اضطرابات غير مسبوقة - على حد تعبير الدكتور نبيل العربى الأمين العام للجامعة العربية - وقد ينضم لهذا التحالف كل من الأردن والمغرب، اللتين ترتبطان بشراكة استراتيجية مع منظومة مجلس التعاون الخليجى، وثمة من يرى أن قيام هذا التحالف قد يقود الى تغيير المعادلات الراهنة فى النظام الإقليمى العربى الذى تجسده الجامعة العربية، ووصل الأمر ببعض المحللين الى المطالبة بإنشاء مجلس عربى للتعاون الاستراتيجى تكون مصر ودول الخليج نواته، ومفتوحا لجميع الدول العربية بما يصب فى خانة تجاوز حالة التشتت السائدة فى المنطقة فى المرحلة الراهنة بعد أربع سنوات من ثورات الربيع العربى التى أفضت على الرغم من جوانبها الإيجابية - الى وضعية توشك أن تهدد الدولة الوطنية فى بعض الأقطار العربية، مثل اليمن وليبيا وسورياوالعراق، وهو بالضرورة يقود الى التأثير المباشر على مجمل الأمن القومى العربى. ولكن فى المقابل، ثمة من يرى أن ما يحدث حاليا هو تحالف مرن لم يصل الى حد التحالف الاستراتيجى بفعل عدم بلورة تصور مؤسسى لهذا التحالف، فضلا عن أنه مرهون بالتعاطى مع قضايا ضاغطة فى الإقليم تفرض على الطرفين المصرى الخليجى مواجهتها معا ولكن مع ذلك يمكن تطوير هذا التحالف المرن الى تحالف استراتيجى على المدى الطويل، أخذا فى الاعتبار المقومات المتاحة لدى الطرفين، فأحدهما مصر تمتلك جيشا قويا ومنظما ولم تصبه شوائب الصراعات الداخلية، مثلما حدث لكل من الجيشين العراقى والسورى وموارد بشرية هائلة، فضلا عن قدرات تنظيمية هائلة بحكم السبق فى مجالات التعليم والتنمية الاقتصادية وغيرها، بينما تمتلك دول الخليج ثروة نفطية وفائضا ماليا من جراء هذه الثروة وهو ما جعلها قادرة على تجاوز آثار الانخفاض الحاد فى أسعار النفط خلال العام الماضى والمرشحة للاستمرار فى العام الحالى. ويقود ذلك السياق الى الحديث عن النتائج الاقتصادية لجولات وزيارات الرئيس السيسى الى دول الخليج التى يمكن رصدها فيما يلى: أولا: إن هناك توجها جديدا على الصعيد الاقتصادى يقوم ببناء شراكات استثمارية، بما يعنى تجاوز مرحلة الحصول على المساعدات المالية المباشرة مثلما حدث بعد الثلاثين من يونيو 2013 وهى المرحلة التى شهدت تقديم حزمة من المساعدات والمنح بلغت حوالى 12 مليار دولار من السعودية والإمارات، فضلا عن الكويت، مكنت مصر من مواجهة تداعيات أزمة اقتصادية خانقة فى ظل تدهور كان واضحا فى مختلف القطاعات بالإضافة الى توفير متطلبات الوقود بالذات البوتجاز، وغيره مع الاحتياجات الضرورية للمعيشة اليومية للمواطنين، وذلك تجلى بوضوح فى سلسلة اللقاءات التى عقدها الرئيس السيسى مع رجال المال والأعمال فى الدول التى زارها والتى استعرض فيها جملة التيسيرات الجديدة فى مناخ الاستثمار، وحل بعض المشكلات التى واجهها مستثمرون خليجيون فى الأعوام القليلة الماضية، شارحا الامتيازات التى توفرها التشريعات الجديدة وفى مقدمتها قانون الاستثمار الموحد الذى سيصدر فى فترة وجيزة قبل التئام مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادى فى الثالث عشر من شهر مارس المقبل، الذى تقوم لجان حكومية مع ممثلين للقطاع الخاص بإعداد المشروعات الاستثمارية التى سيتم طرحها عليه، بحيث تكون جاهزة بعد الانتهاء من دراسات الجدوى الاقتصادية الخاصة بها تمهيدا للبدء فى تنفيذها على الفور مع الشريك العربى أو الأجنبى وقد حظى التسويق للمؤتمر بمساحة واسعة فى مباحثات وحوارات الرئيس السيسى خلال هذه الزيارات، ووفقا لتوقعات الرئيس نفسه فإن مصر فى حاجة الى ضخ استثمارات خلا ل السنوات الأربع القادمة تقدر بمائة مليار دولار سيكون من شأنها- إن تحققت - أن تحدث نقلة نوعية فى الأداء الاقتصادى المصرى، ستنعكس بالضرورة على احتياجات المواطن اليومية التى ما زال يكابد كثيرا للحصول عليها من جراء عدم القدرة على التحكم فى متوالية ارتفاعات الأسعار والنقص الواضح فى المعروض من بعض السلع بسبب الأضرار التى لحقت بقطاع الصناعة والزراعة فى الأعوام الأخيرة، وثمة مراهنة خاصة فى هذا الصدد على الصناديق السيادية التى تمتلكها دول الخليج وفى مقدمتها الإمارات التى تمتلك ثانى أكبر صندوق سيادى فى العالم بعد النرويج، ويضم مخزون فوائض صادرات النفط فى العقود السابقة بقيمة تصل الى 773 ملياردولار ثم الصندوق السعودى الذى يقدر ب 757.2 مليار دولار، حسب تقديرات معاهد مستقلة، وكلا البلدين يسعيان الى تحقيق أفضل استفادة منها عبر توظيفها فى استثمارات فى مختلف مناطق العالم، وإن كانت الولاياتالمتحدة وأوروبا تحظيان بنصيب الأسد منها ويمكن لمصر أن تشكل نقطة جذب كبيرة لهذه الأموال، فى حال تمكنها من صياغة منظومة تشريعية حديثة تتخلص من البيروقراطية الشديدة التى كانت سائدة فى الماضى، فضلا عن القضاء على الفساد الإدارى لدى بعض الدوائر المسئولة عن قطاع الاستثمار، بالإضافة الى النجاح فى تحقيق الاستقرار الأمنى والسياسى وهو المأمول بعد إنجاز الاستحقاق الثالث من خارطة الطريق والمتمثل فى إجراء الانتخابات البرلمانية فى شهر مارس المقبل والحد من الأعمال الإرهابية التى تقلصت بالفعل الى حد كبير فى الأشهر القليلة . ثانيا: توسيع حركة التبادل التجارى التى تتسم بالمحدودية على نحو لا يتسق مع إمكانات الجانبين المصرى والخليجى حسب رؤية السفير سيد أبو زيد المساعد الأسبق لوزير الخارجية للشئون العربية، فوفقا لاحصائيات عام 2013 فإن صادرات مصر الى دول مجلس التعاون بلغت 38.2 مليار جنيه، من إجمالى 197.7 مليار جنيه مع العالم الخارجى أى بنسبة تصل الى 14.3 فى المائة فقط، فى حين بلغت الواردات المصرية من دول الخليج 51.2 مليارجنيه، من إجمالى واردات من مختلف دول العالم بلغ 456 مليار جنيه أى بنسبة تصل الى 11.2 فى المائة، ومن ثم فإن المباحثات التى أجراها الرئيس السيسى مع القيادات الخليجية التى التقاها فى زياراته الثلاث والتى صحبه فيها وزراء المجموعة الاقتصادية بالأساس، تنطوى على توجه ينزع الى فتح آفاق جديدة فى العلاقات التجارية على نحو يمكن أن تكون مصر بوابة للمنتجات الخليجية الى القارة الإفريقية، كما يمكن أن تكون دول الخليج منفذا للصادرات المصرية الى دول آسيوية فى مقدمتها الهند وباكستان وجمهوريات آسيا الوسطى، ولا مانع أن تكون إيران من بين هذه الدول. ثالثا: فتح المزيد من الأبواب أمام تدفق العمالة المصرية الى منطقة الخليج التى تحتوى فى المرحلة الراهنة على أكثر من مليونى عامل مصرى، ولكن مع تزايد نسبة البطالة التى تقدر وفق الدوائر الرسمية بحوالى 3.6 مليون شخص، وإن كانت التقديرات غير الرسمية تضاعف هذا الرقم فإنه يمكن فى ضوء نتائج الزيارات التى قام بها الرئيس السيسى لدول المنطقة أن تتزايد أعداد العاملين المصريين، بيد أن ذلك سيستدعى من الجهات المسئولة عن هذه العمالة أن ترتقى بمهاراتها من خلال التدريب المكثف لها على المهن التى تتطلب تقنية عالية خاصة الكمبيوتر والأدوات والأجهزة الحديثة، التى تشكل الطابع الرئيسى لمسار قطاع الأعمال بدول الخليج بشقيه الحكومى والخاص، وثمة مساهمة إماراتية فى هذا الشأن من خلال إنشاء مركز تدريبى فى مصر ضمن مشروعاتها الواسعة التى يشرف عليها الوزير سلطان الجابر من خلال مكتب إماراتى متخصص بالقاهرة، وطالت قطاعات عديدة وعددا من القرى وتعددت بين صحى وتعليمى وخدمى.