بدأت ثورات الربيع العربي في معظم دول المنطقة بأحلام مشروعة في تحقيق الحرية, والعدالة, والكرامة الإنسانية, إلا أنه سرعان ما استغلت الجماعات الراديكالية والإرهابية المتطرفة حالة الاضطراب السياسي التي شهدتها معظم هذه الدول, وضعف سيطرة الدولة علي مقاليد الأمور, واتت من كل حدب وصوب لتعيث في الأرض فسادا وتحاول تحقيق طموحاتها في السيطرة علي المنطقة. ويبدو أن الفرصة كانت سانحة بقوة لهذه الجماعات لاستغلال الصراع في كل من سوريا وليبيا واتخاذ منهما قاعدة للانطلاق لدول الجوار. وعلي الرغم من طول امد الصراع الذي يربو علي الثلاث سنوات الآن, فإن الشهور القليلة الماضية قد شهدت تفجرا كارثيا للأحداث, حيث نجحت الجماعة الإرهابية المعروفة ب'داعش' في اقتحام العراق والسيطرة علي مساحات شاسعة من ارضها وطرد سكانها من غير المسلمين وفرض سيطرتها علي كثير من آبار البترول بها. ايضا تسارعت وتيرة الصراع في ليبيا بين المليشيات الارهابية المسلحة التي استطاعت السيطرة علي بعض آبار البترول والمواني بل تحاول الآن السيطرة علي مطار طرابلس. وتسببت حالة الاضطراب السياسي وغياب سيطرة الحكومات علي مواردها الطبيعية في تكبيد اقتصاديات هذه الدول خسائر فادحة. فإلي جانب تدمير البنية التحتية في معظم هذه الدول- التي ستتطلب سنوات طويلة حتي تعود إلي سابق عهدها- أدت سيطرة هذه الجماعات المتطرفة علي جزء كبير من الموارد الطبيعية في ليبيا وسورياوالعراق وخاصة آبار البترول إلي توجيه ضربة قاصمة لاقتصاديات هذه الدول, وخصوصا في ليبيا والعراق واللتين تعتمدان بدرجة كبيرة علي عائدات صادراتهما من النفط. فطبقا لبيانات صندوق النقد الدولي شهدت ليبيا حالة شديدة من التقلب في أدائها الاقتصادي في الفترة التي تلت اندلاع الثورة الليبية, فقد بلغت معدلات النمو في ليبيا في عام2013 نحو-4,9%, مقارنة بنحو5,104% في عام2012, و نحو-1,62% في عام2011. وأخذا في الاعتبار حالة التدهور السياسي التي شهدتها ليبيا في عام2014, فإنه من المتوقع أن تشهد معدلات النمو انخفاضا شديدا هذا العام, خاصة في ظل سيطرة الجماعات الإرهابية علي آبار البترول الليبية وهو ما جعل صندوق النقد الدولي يتوقع أن تنخفض معدلات نمو الصادرات السلعية الليبية- التي يحتل فيها البترول نصيب الأسد- لتصل إلي-9,44%, كل ذلك كان من شأنه التأثير بصورة كبيرة علي الدينار الليبي الذي فقد ما يقرب من ربع قيمته في الأشهر القليلة الماضية, مما جعل الكثير من شركات الصيرفة تحجم عن شرائه خوفا من استمرار تدهور الأوضاع. أما العراق فقد انخفضت معدلات النمو بها من3,10% في عام2012, لتصل إلي2,4% في عام2013 ولكن بالطبع من المتوقع أن تنخفض هذه المعدلات كثيرا في عام2014 عقب اجتياح داعش للعراق. وطبقا لبيانات الأوبك أدي تدهور الأوضاع في ليبيا والعراق إلي ارتفاع أسعار سلة أوبك في شهر يونيو وحده لتصل إلي89,107 دولار للبرميل بزيادة قدرها5,2 دولار للبرميل بالمقارنة بشهر مايو. والجدير بالذكر أن الآثار الاقتصادية للاضطراب السياسي والاقتتال في هذه الدول لم تقتصر عليها فقط, بل امتدت إلي دول الجوار. ففي مصر علي سبيل المثال, اضطرت مصر لاستقبال الآلاف من النازحين السوريين, فيما يمثل ضغطا علي الموارد الاقتصادية المصرية. أيضا أدي الصراع الليبي إلي عودة الآلاف من المصريين العاملين بليبيا, وتشير الإحصاءات الرسمية إلي أن ليبيا تعتبر ثاني أكبر مستورد للعمالة المصرية بعد السعودية, بما يعنيه ذلك من أن عودة هذه العمالة إلي مصر ستؤثر علي حجم تحويلات العاملين المصريين بالخارج التي تشكل مصدرا هاما للعملة الأجنبية بالنسبة لمصر حيث بلغت في العام المالي2013/2012 نحو9,18 مليار دولار. أيضا ستشكل عودة العمالة المصرية من ليبيا ضغطا علي سوق العمالة المصرية بما يؤدي إلي ارتفاع معدلات البطالة- المرتفعة أساسا- التي بلغت طبقا للبيانات الرسمية نحو14%. أضف إلي ذلك أن التهديدات بنزوح هذه الجماعات الراديكالية إلي مصر يفرض حالة من الاستنفار الأمني التي تضطر فيها البلاد إلي توجيه جزء كبير من طاقتها ومواردها لمواجهة هذا الخطر المحدق بها بدلا من توجيهها إلي النمو والتنمية.