* تختلف القاهرة عن كل عواصم العالم فهي عاصمة طبيعية وقديمة ولا تصلح لها عاصمة اصطناعية فهي أفضل موقع ولكن أسوأ نمو مدني فالعلاج في إغلاق العاصمة وسحب الفائض منها * الزيادة في أسعار المساكن لا تجعل البلد أكثر ثراء.. وازدهار سوق العقارات لا يخلق إلا وهم الثروة ---------------------------- القاهرة بموقعها المركزي المتوسط بين الدلتا والصعيد تستمد كيانها بتوازن معقول من كل أقاليم الدولة ومن ثم فهي تؤلف بحق عينة ممثلة لمصر, فهي مصهر حقيقي وبوتقة لعناصر الشعب. وقلب العاصمة, أكثر منه في أي بلد آخر, هو قلب مصر سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وحضاريا. وقد لا نبالغ إذا قلنا إن تاريخ مصر ليس إلا تاريخ العاصمة. والقاهرة تجسد عن وعي فكر ابن خلدون الذي يعتبر بدون شك في مصاف عقول عباقرة وجهابذة العلماء علي مر العصور لأنه كان يمتلك إدراكا غير عادي في العوامل المحركة والدوافع المؤثرة لعصره ويمتلك فوق ذلك فهما بعيدا لما سيكون عليه عصر ما بعد عصره, فهو بحق نابغة قل أن يجود الزمان بمثله, عبقريته تظهر في أن كل من سبقوه من العلماء اهتموا بالمدن وكان اهتمامهم يدور مبدئيا حول إستراتيجية المدينة وشئونها الحربية. بينما أدرك ابن خلدون كل الأجزاء المتشعبة والمرتبطة ببناء المدينة ثم وضحها بنفسه بكل فصاحة وبيان. كانت المدينة بالنسبة له عبارة عن الناس والمباني والهندسة والعمارة والثقافة والاقتصاد والإدارة. إنها لم تكن في نظره شيئا ساكنا ثابتا يتكون من بعدين أو حتي ثلاثة أبعاد متعددة من التركيبات العضوية ولكنها كانت في نظره شيئا ذا أبعاد متعددة من تركيبات متشعبة تشمل عناصر الزمن والفلسفة مضافا إلي فائدتها ونفعها. ولو أن بعض مهندسي تخطيط المدن التفتوا إلي ما قاله لربما تفادوا كثيرا من الأخطاء التي نشاهدها اليوم والتي تتسبب في مقتل الآلاف من الناس كل عام. لقد استيقظنا ذات صباح علي خبر مقتضب وأمر حكومي بنقل العاصمة إلي القرب من السويس, وكأنما قد فرغت مصر من جميع مشاكلها وأزماتها, وكأنما هواة التخطيط وأحباب التعمير في انتظار إشارة البدء, فإذا حمي البحث تنطلق من عقالها وراء تلك العاصمة المنقذة, إما كمدينة تنشأ بكرا أو كمدينة قائمة تنقل إليها العاصمة, وذلك كحل جذري وتخلصا من متاعب القاهرة التراكمية وصعوباتها المثبطة المحيطة. وكلنا يعرف أن هناك قائمة بأماكن العاصمة الجديدة البعض اختار هضبة صخرية شمال الصحراء الغربية علي بعد200 كيلومتر من كل من القاهرة والإسكندرية وقريبا من وادي النطرون ومشروع منخفض القطارة المقترح بحيث تخدم العاصمة الجديدة التوسع العمراني لذلك القطاع في الصحراء في المستقبل وتساهم في تنشيط الحركة السياحية, ثم اقترحت مدينة السادات لتكون العاصمة الجديدة وقد تقرر نقل بعض الوزارات إليها تمهيدا للانتقال بالجملة. وقد وصل بالبعض إلي اقتراح الفرافرة. وعلي الجانب الآخر تماما من الوادي ذهب البعض إلي مثلث القاهرةالسويس- الإسماعيلية حيث اختار نقطة علي بعد40 كم من مطار القاهرة الدولي,80 كم من البحيرات المرة. وهناك دراسات قديمة وجيدة حول عاصمة جديدة لمصر وقد وقع الاختيار علي المنيا لأنها الأقرب إلي التوسط هندسيا ومسافيا. ولكن هناك مشاكل معينة لتحديد موقع عاصمة جديدة, وكلها تتعلق بنوعية وماهية العاصمة الجديدة. هل نريدها عاصمة سياسية مقصورة علي الإدارة العليا وضروراتها وتوابعها وملحقاتها المباشرة كواشنطن العاصمة أم عاصمة إنتاج وأعمال؟ لكن عندما نضع القاهرة أمام أعيننا فإنها تختلف عن كل عواصم العالم فهي عاصمة طبيعية وقديمة وليست حديثة العهد ولا تصلح لها عاصمة اصطناعية ولا هي تحتاج إليها فهي أفضل موقع عاصمة في العالم ولكن أسوأ نمو مدني فالعلاج يأتي من هذه الجهة أي إغلاق العاصمة وسحب الفائض منها لأنها ضحية سوء التخطيط فالعيب ليس فيها ولكن فينا. فمن الضروري تحديد حجم أو سقف أعلي لسكانها لا يتجاوزون عنه وهو مبدأ معترف به عالميا. وثاني نقطة مهمة يجب أن تتوقف فورا لعبة إنشاء المدن الجديدة حول القاهرة فهي كم بلا كيف وتخدم الأغنياء دون الفقراء وأصبحت مرتعا للفساد والابتزاز. صحيح هناك عواصم جديدة حول العالم أنشئت لكن علينا أن نعي أن معظمها تعاني من صعوبات خانقة ومشكلات كبري فهي باهظة التكاليف بقدر ما هي محدودة الفرص والحياة فيها صعبة واحتمالات فشلها أكبر من نجاحها كما أن العواصم القديمة تحاربها وترفضها والكل يصفها بأنها مصطنعة تعيش علي الحقن الدائم من جانب الدولة والواقع أنها تكون نوعا من الترف والأبهة السياسية ومركبات العظمة. علينا أن ننبه متخذي القرار إلي مواطن الخطر, وهناك طرق ديمقراطية لمكافحته وأن المشاركة في الحوار وفي اتخاذ القرار تجنب مصر الوقوع في المشاكل مستقبلا. ومن ثم فإن تحديد حجم العاصمة هو أول مراحل هذه العملية أي وضع حد أعلي لحجم العاصمة وهذا ليس بدعا بل مبدأ معترف به عالميا ومطبق في كثير من الدول. وبالتالي لابد من إعلان القاهرة مدينة مغلقة إلي ما لا نهاية فلا يضاف إلي وظائفها الراهنة جديد أو زيادة تمهيدا لتصفية الزيادة تدريجيا بحسب خطة مدروسة وبالتالي نحصر وظيفتها في جعلها عاصمة مصر السياسية فقط لا عاصمتها السكانية والصناعية والتجارية والإدارية, ومن ثم إذا أريد تخطيطها لتكون عاصمة تجارية استثمارية مالية فإن الفشل سيكون مصيرها. وهذا عكس ما يخطط له الآن. فهل نعي الدرس جيدا أم نكرر خطأ الآخرين في بلد يحرص علي إعادة ترتيب أوراقه من جديد لمكافحة الفقر والأمية وإيجاد فرص عمل حقيقية لشبابه العاطل, فكفانا هدرا في استثماراتنا. نحن مع حل مشكلة القاهرة كما قلنا ولكن بإغلاقها وقصرها علي وظيفتها السياسية فقط. وعندما تكون الأرض هي المورد الرئيسي للثروة في أيدي أصحاب المصالح المستثمرة, فإنها تكون قطعا العدو الفتاك لحركة أي تخطيط وتنظيم للمدن. وإن كان الإقطاع الزراعي قد صفي في الريف فقد حل محله الآن إقطاع في المدن. ومضاربات الأرض الزراعية قديما انتقلت بمناوراتها واحتكاراتها وأسعارها الجنونية إلي إسكان العاصمة وبعد أن كان الفلاح ضحية الأول أصبح ساكن المدينة ضحية الثاني أما مشكلة المواصلات فتكاد تصل بالدورة الدموية اليومية للعاصمة إلي حد التوقف أو الشلل حتي أصبح فاقد الوقت والجهد والطاقة يقدر بالمليارات من الجنيهات سنويا. والمشكلة لن تحل إلا بتفريغ القاهرة حيث هناك سكان أكثر من وسائل النقل ووسائل نقل أكثر من طاقة الطرق ناهيك عن التلوث وتكاليفه الخطيرة. وبالتالي لابد من إغلاق وزارة الإسكان وإنهاء لعبة المدن الجديدة حول العاصمة. ويتعين علي المصريين أن يضعوا في اعتبارهم أن الزيادة في أسعار المساكن لا تجعل أي بلد أكثر ثراء. وأن ازدهار سوق الإسكان لا يخلق إلا وهم الثروة. فضلا عن ذلك فإن مواصلة الاستثمار في قطاع العقارات تزيد من صعوبة الحد من إدمان الاقتصاد علي الاعتماد علي قطاع العقارات, وإدمان سوق العقارات علي الدعم الحكومي. علينا أن نعيد دراسة الموضوع دراسة متأنية وجادة بإسنادها إلي خبراء استشاريين, فشراء الخدمات الاستشارية, شأنه شأن أي مشتريات أخري. وإذا كانت القدرة داخل المؤسسة قاصرة عن الوفاء بمطالب المشروع, انصرف أفضل اختيار تال إلي استخدام استشاريين محليين, وفي حالة تعذر ذلك, استخدام استشاريين من بلدان نامية أخري, بشرط أن يكونوا مؤهلين لأداء المهمة, وأن تتوافر لهم خلفية عن الموضوع وخبرة به وطبيعي أن يفضل الاستشاريون المحليون, ولدي هؤلاء مزايا أصيلة بفضل درايتهم بالأوضاع والإجراءات والعادات المحلية. فالاستشاريون من البلدان المتقدمة النمو هم وحدهم الذين قد يكونون مؤهلين لها. وهي مهام تستدعي مهارات صعبة( هندسية) ومتعلقة بالمشروعات الضخمة أو المعقدة. ويمكن استخدام الاستشاريين إما كأفراد وإما مؤسسات. ولئن كان النهج الأخير هو الأكثر شيوعا وهو المفضل عادة. فإن الاستشاريين من الأفراد يمكن استخدامهم عندما ينتظر منهم أن يعملوا مستقلين لا جزءا من فريق, وذلك حين لا تكون هناك حاجة إلي دعم مهني خارجي إضافي, وحين تكون خبرة الفرد ومؤهلاته فائقة. ويمثل الاستشاريون من الأفراد تكلفة فعلية أقل للهيئة التي تستخدمهم. وإذا كانت هناك مؤسسة معروفة للهيئة ولديها الكفاءة المطلوبة وأقامت علاقة باعثة علي الرضا, وهي في العادة نتيجة لخدمة سابقة أو حالية, فهناك سبب وجيه للاستمرار معها. وثمة ضرب من ضروب الاستمرار ينبغي عدم التشجيع عليه, ألا وهو استخدام مؤسسة استشارية تكون جزءا من أنشطة تجارية أخري أو تابعة لها مثل شركات التشييد أو منتجي المعدات, وللتأكد من حيدة هذه المؤسسات ولتفادي التضارب المحتمل في المصالح- هذا إذا استخدمت كاستشاريين- فينبغي لها أن توافق علي قصر دورها علي تقديم هذه الخدمات, فلا تكون لها أو المنظمة المرتبطة بها أي أهلية للمشاركة في توريد المعدات أو الخدمات المترتبة علي المشروع. عندما كنت أدرس مبادئ وأسس الأمن القومي في أكاديمية ناصر العسكرية عام1990 كانت هناك خطوط حمراء لا يجب الاقتراب منها وكان نقل العاصمة تجاه السويس من ضمن هذه الخطوط الحمراء, وكان العسكريون هم وحدهم الذين يمتلكون تلك المبادئ والأسس بعيون ثاقبة قل أن يدركها الخبراء والمختصون المدنيون. إن نقل العاصمة صوب السويس, إنه يقدم عاصمة مصر هدية ذهبية علي صفحة فضية أو لقمة سائغة علي ملعقة ذهبية للعدو الإسرائيلي المتربص والجاثم شرقا. فهو إذ ينقل السويس إلي أقدام العاصمة المقترحة, فإنما يفتح أبوابها لغواصاته تحت الماء ومدمراته فوقه, فضلا عن طيرانه وصواريخه في سمائها. وفي أي مواجهة جديدة مع العدو, فكما تسقط مدن القنال عادة في أول ضربة, تسقط عاصمة مصر في الأربع والعشرين ساعة الأولي, لتشرع فورا بكل الجد الوطني والحزم والنشاط المعهود في تهجير العاصمة إلي عمق الوادي في الداخل أم ينتهي كل شيء مرة واحدة إلي الأبد. إن من الصعب أن نتصور تخطيطا أخطأ من هذا استراتيجيا وعسكريا مثلما هو تخبط مخل سياسيا واقتصاديا. فاقتراح نقل العاصمة الجديدة إنما يصحح خطأ قائما بخطأ جسيم أفدح وأشد نكرا, خطأ قابل للعلاج بخطأ قاتل بل وانتحاري لأنه يقتل عاصمة حية ليخلق عاصمة ميتة. فنقل العاصمة إنما ينبع من انكسار مخل في الرؤية ومن رؤية خاطئة جذريا. فنقل العاصمة هو أولي محاولات اللعب في تغيير التاريخ. هي متهم بريء, ضحية ونحن الجناة. علينا أن نسعي جاهدين للقضاء علي هذه النغمة, نغمة عاصمة جديدة, فهي إن دلت فإنها تدل علي أن الجهل المسلح لا يحكم ويتحكم فحسب بل يخطط ويصمم أيضا. إن ما تحتاجه مصر ليس عاصمة جديدة بل خريطة جديدة وليس عاصمة جديدة بل عاصمة مغلقة, وحلقة بلا مدن جديدة علي الإطلاق وليس مدينة مغلقة فقط ولكن دائرة مغلقة, نريد قاهرة مصغرة وليست القاهرة الكبري.