انخفاض سعر الفائدة الامريكية لسنوات، منذ الازمة المالية العالمية، شجع حكومات وشركات فى انحاء العالم، وبخاصة فى الاقتصادات الناشئة، على الاقتراض بالدولار عن طريق اصدار سندات دولارية. هذا الارث من الديون تراكم ليصل الى نحو عشرة تريليونات دولار فى العام الماضى. اليوم صعود الدولار الى مستويات قياسية يتسبب فى مشكلات عديدة للاقتصاد العالمى وللولايات المتحدة. وما يثير مخاوف واسعة النطاق، توقعات باستمرار احتفاظ العملة الخضراء بقوتها خلال فترة حكم دونالد ترامب. ماذا تعنى قوة الدولار وما تداعيات صعوده على الاقتصاد العالم؟ تحت عنوان « الدولار القوى» خصصت مجلة الايكونومست غلافها لمناقشة مخاطر ارتفاع العملة الامريكية. ففى الاسابيع التالية لفوز دونالد ترامب برئاسة الولاياتالمتحدة شهد الدولار صعودا غير مسبوق امام سلة من عملات الدول الغنية الاخرى. وحاليا يتم تداوله بزيادة 40٪ عن ادنى مستوياته فى عام 2011، كما ارتفعت قيمته ايضا مقابل عملات الاقتصادات الناشئة، ما جعل اليوان الصينى، على سبيل المثال، عند اقل مستوى له منذ عام 2008 مقابل الدولار والين اليابانى هبط 7٪. تعانى الهند من مشاكل اقتصادية عديدة فانخفضت عملتها الى اقل مستوى فى تاريخها مقابل الدولار. وبالرغم من تفوق معدل نمو الاقتصاد الهندى على معدل نمو الاقتصاد الصينى ليصبح أسرع اقتصادات العالم نموا منذ منتصف 2015، لكنه قد يفقد المركز الأول خلال الفترة المقبلة. وكذلك عملات اسيوية اخرى هبطت الى مستويات غير مسبوقة منذ الازمة المالية 1997-1998. يذكر ان صعود الدولار كان تدريجيا على مدار السنوات الاخيرة. لكن القفزة الاخيرة جاءت نتيجة توقعات بتغييرات مهمة فى السياسات الاقتصادية للبلاد. فتعهد ترامب بخفض ضرائب الشركات فى محاولة لتشجيع الشركات المتعددة الجنسيات على ضخ ايراداتها فى الولاياتالمتحدة امر سيدعم ارتفاع الدولار. وحاليا معظم استثمارات المستثمرين تراهن على تنفيذ ترامب لوعوده بخفض الضرائب وزيادة الانفاق على البنية التحتية. ويثير التحفيز المالى المتوقع مخاوف من قيام مجلس الاحتياطى الفيدرالى (المركزى الامريكى) برفع سعر الفائدة بوتيرة اسرع من اجل كبح التضخم. وكان عائد اذون الخزانة لاجل عشر سنوات ارتفع من 1.7٪ الى 2.3٪ عشية الانتخابات. ويعد ارتفاعه عامل جذب قويالتدفقات راس المال. حجم أسواق المال الأمريكية حذر التقرير من انه على الرغم من تناقص حصة الاقتصاد الامريكى فى الاقتصاد العالمى فإن حجم اسواق المال قد تضاعف عدة مرات مقارنة بفترة حكم رونالد ريجان- والتى تمثل تجربة مؤلمة بالنسبة لتداعيات صعود الدولار. واليوم اصبح للعملة الامريكية دور اكثر اهمية ما يجعل صعوده اكثر خطورة للولايات المتحدة وللعالم. رصد التقرير تراجعا نسبيا لاهمية الولاياتالمتحدة كشريك تجارى مع انخفاض عدد الدول التى تعد امريكا بالنسبة لها اكبر سوق تصديرى من 44 دولة فى عام 1994 الى 32 بحلول 2014، ومع ذلك، احتفظ الدولار بهيمنته كعملة التعاملات الدولية وكمخزن للقيمة. وأحد مقومات تلك الهيمنة ضخامة حجم المنطقة الدولارية العالمية التى تتكون من الولاياتالمتحدة ومجموعة الدول التى تربط عملاتها بالدولار وتمثل 60٪ من سكان العالم و 60٪ من ناتجه الاجمالى. التمويل الدولارى خارج الحدود الأمريكية عامل آخر هو ارتفاع عمليات التمويل بالدولار خارج حدود الولاياتالمتحدة فى السنوات الاخيرة. فمع ارتفاع مستويات المعيشة فى الاقتصادات الناشئة زاد الطلب على الدولار. وانخفاض اسعار الفائدة الامريكية منذ الازمة المالية العالمية شجع صناديق التقاعد فى الولاياتالمتحدة على البحث عن عوائد اعلى فى اى مكان، ومن ثم كان اقبال تلك الصناديق وغيرها على شراء سندات دولارية تطرحها دول، سواء كانت استثمارية او لا، مثل موزمبيقوزامبيا، إضافة الى اصدارات شركات الاقتصادات الناشئة. على سبيل المثال طرحت زامبيا فى سبتمبر 2012 سندات بالدولار بعائد 5.4٪ والتى تلقت على اثرها طلبات بنحو 12 مليار دولار، كما حققت شركة النفط البرازيلية بتروبراس رقما قياسيا فى مايو 2013 باصدار سندات لأجل عشر سنوات بنحو 11 مليار دولار مقابل عائد ضئيل نسبيا وبحسب تقديرات بنك التسويات الدولية فإنه خلال السنوات التالية للازمة المالية العالمية تراكم هذا النوع من الديون المقومة بالدولار ليصل الى نحو 10 تريليونات دولار فى العام الماضى منها 3.3 تريليون ديون على الاقتصادات الناشئة ومعظمه يثقل كاهل ميزانيات شركاتها. وبالتالى فان ارتفاع الدولار يعنى ارتفاع تكلفة خدمة تلك الديون، غير ان تداعيات صعود العملة الامريكية تتجاوز التاثير المباشر على المقترضين بالدولار. فالاقتراض من الاسواق الدولية بسعر فائدة منخفض ادى فى معظم الاحيان الى زيادة المعروض من الائتمان المحلى. والتدفقات النقدية الواردة دفعت باسعار الاصول للارتفاع ما شجع على مزيد من الاقتراض. ومع الاخذ فى الاعتبار ان معظم تلك الدولارات لم يتم استثمارها بشكل مثمر وانما تم ايداعها فى حسابات بنكية فان الجميع سيواجه ضغوطا اضافية فى الفترة المقبلة. وخلال الفترة القادمة سوف يؤدى ارتفاع الدولار الى العكس، وسوف يضطر المقترضون الى استخدام ما لديهم من سيولة لسداد الزيادة فى خدمة الديون، وهذا يفسر لماذا كان بعض من اكبر الخاسرين من صعود الدولار مؤخرا عملات دول مثل البرازيل وشيلى وتركيا وهى المثقلة بديون دولارية ضخمة. اما مخاطر صعود الدولار بالنسبة لامريكا فتتعلق بزيادة عجز ميزانها التجارى مع تاثر صادراتها وواردتها بارتفاع العملة. والعجز التجارى يشجع عادة على ما يسمى بالنزعة الحمائية، مثلما حدث خلال فترة ريجان، وهذه الايام سيبدأ ترامب ولايته بعجز اكبر واكثر تسييسا. وارتفاع العجز يزيد من فرص تنفيذ ترامب لتهديداته بفرض رسوم جمركية على واردات البلاد من الصين والمكسيك بغرض تحقيق توازن الميزات التجارى. ويبدى كثيرون مخاوفهم ان اجراءات الحمائية التى ستتخذها الولاياتالمتحدة لن تكون من جانب واحد وستكون تداعياتها سلبية على نمو التجارة العالمية. شكك التقرير فى امكانية تكرار سيناريو عام 1985 بنزع فتيل حرب الحمائية الدولية من خلال تنسيق دولى لاتفاق «بلازا» بين الولاياتالمتحدة، اليابان، بريطانيا، فرنسا، والمانيا من اجل دعم نزول الدولار. وقال انه فى ظل حرص كل من اليابان واوروبا على تحفيز النمو والحيلولة دون ارتفاع عملاتهم - حفاظا على الميزة التنافسية للصادرات- فلن توافق اى دولة على ابرام اتفاق مماثل. واذا كان صعود الدولار أمرا مرحبا به فى اليابان والمانيا، فإن الاقتصادات الناشئة هى الاكثر تضررا. وعلى سبيل المثال، بالنسبة للصين استمرار هبوط عملتها يؤدى الى خروج تدفقات رأسمالية ضخمة من البلاد. ويستخدم البنك المركزى الصينى احتياطياته النقدية -المقدرة بنحو 3 تريليونات دولار- لدعم اليوان. ومنذ يناير الماضى تكبدت البلاد 10 مليارات دولار شهريا لهذا الغرض. وفى محاولة منهم للحد من انخفاض العملة يعكف المسئولون الصينيون على تشديد القيود على الاستحواذات الخارجية للشركات المحلية والذى يعد الباب الخلفى لخروج الاموال من البلاد. مخاطر الدولار القوى بالنسبة للاقتصادات الناشئة تكمن فى ثلاثة محاور. اولا انخفاض حاد فى عملاتها سيفرض على بنوكها المركزية ضغوطا لرفع الفائدة من اجل كبح التضخم. وعلى سبيل المثال، اضطرت تركيا مؤخرا لرفع سعر الفائدة بعدما انخفضت الليرة الى اقل مستوى لها فى تاريخها مقابل الدولار. ثانيا، للدولار القوى تاثير غير مباشر على ظروف الاقراض فى الاقتصادات الناشئة. وحسب دراسة لبنك التسويات الدولية سوف تقل السيولة الدولارية فى تلك الدول بسبب صعود الدولار. ثالثا، مع سعيها لسداد ديونها بالدولار سوف تضطر الشركات الى خفض استثماراتها وتسريح موظفين حتى تعوض فرق السعر الذى تتكبده بصعود الدولار مقابل عملتها المحلية. توصل التقرير الى ان قوة الدولار ستزيد من ضعف الاقتصاد العالمى الذى يعانى الوهن بالفعل.