رحم الله زمانا كنا فيه نتغني بالوحدة العربية السياسية والاقتصادية والدفاعية.. إلخ, وإذا كان زمان هذا الحلم قد مضي, فمازالت ضرورة تحقيقه قائمة, حتي وإن بدت بعيدة. ففي يقيني أن إقامة جماعة اقتصادية عربية هي الفريضة الغائبة في عالم يشهد تدويلا مطردا في السياسة والاقتصاد والاجتماع. والجماعة الاقتصادية العربية تنشأ وتتطور ببناء شبكات من العلاقات المترابطة عضويا في مستويات الاستثمار والإنتاج والتجارة. هذه الحقيقة قد غدت مطروحة بجميع أساليب التعبير وكل صور الإلحاح, وخاصة في ظل نظام اقتصادي عالمي يتسم بسمات أربع: 1- بروز الشركات متعددة الجنسيات كعنصر حاكم في النظام الاقتصادي العالمي, بما أحدثته من تغييرات هيكلية مكنتها من السيطرة علي العمليات الإنتاجية والتسويقية في الأسواق الدولية. 2- تكريس ظاهرة التكتلات الاقتصادية الإقليمية, بما تتيحه من تخطي الحواجز أمام التدفقات السلعية, وتخطي العقبات أمام التدفقات الاستثمارية للدول الأطراف. 3- تزايد دور المؤسسات الدولية في الاقتصاد العالمي, وفي مقدمتها: صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية. 4- تسارع التطور التكنولوجي الذي أدي إلي إحداث تحولات عميقة في هياكل الإنتاج, حيث أضحي التفوق التكنولوجي عنصرا حاسما في المنافسة الدولية, وعنصرا إضافيا في زيادة الفجوة التنموية بين الدول المتقدمة صناعيا والدول النامية. في ظل هذه المعطيات- أين نحن كعرب من العالم ؟! الحقيقة الجديرة بأن تستوقفنا بما تستحقه من التأمل والبحث تتمثل فيما يتضح من قصور النظام الإقليمي العربي القائم, وعجزه عن التكيف والتلاؤم مع المتغيرات الدولية الجديدة, وتوفير الأمن القومي العربي بجميع جوانبه. قد يكون السبب وراء هذا الواقع هو أن أغلب الدول العربية لم تتبين بعد حتمية التكامل, وإمكانية تحقيقه لمصالح كل منها. وهذه المسألة لا يجدي فيها الوعظ ولا الإرشاد, فالاكثر جدوي البدء بالتعاون في الانشطة التي تحقق المصالح المشتركة- إن لم يكن بجلب النفع فعلي الأقل بدرء الضرر. ولعله يكون من الحكمة تصويب النظر لتجارب التجمعات الاقتصادية الناجحة لنستنبط منها الوسائل والمناهج المطلوب اتباعها, وهي متعددة سواء بالاستثمار المشترك, او التنسيق القطاعي, او تعزيز التبادل التجاري. المهم توفير قدر من التوازن والاعتماد المتبادل بين جميع الأطراف, وأن يحقق كل طرف من أطراف التجمع المزايا المادية والمعنوية القدر الذي يفوق ما قد يتحمله من أعباء. ولحسن الحظ أو لسوئه- فنحن لا نبدأ من فراغ. لدينا العديد من المؤسسات, ولكنها عليلة ضعيفة الاداء, مما يهبط بفاعلية العمل الاقتصادي العربي إلي حدود أقل مما هو ممكن واقعيا. والسؤال الذي يفرض نفسه.. أمعني وجود هذا الواقع الصعب بمشكلاته المعقدة أن يصيبنا اليأس والقنوط ؟ الذي نعتقده أننا أصبحنا في أمس الحاجة للفكر المبدع الذي ينشأ من تحليل الواقع ليكتشف أسباب تطويره المرتبطة به. إن الأرض ممهدة لأشكال وصيغ متزايدة من التعاون العربي المشترك من أجل التنمية. إن الاقتصاديين كثيرا ما ينحون باللوم علي صناع القرار السياسي كلما اضطربت الأحوال الاقتصادية, بل يرددون أن تعثر التعاون العربي مرده غياب الإرادة السياسية, ولكن هل سأل الاقتصاديون أنفسهم عما إذا كانوا قد قدموا لرجال السياسة الرؤية الواضحة والأهداف الممكنة والآليات الفاعلة والحلول البديلة. وهنا نود أن نؤكد حقيقة أن الاتجاه نحو التجمع أو التكتل الاقتصادي ليس سهلا, بل تحفه كثير من الصعوبات, ولذلك ينبغي التحرك نحوه علي مراحل, وأن نوغل فيه برفق شديد وحكمة بالغة, بدراسة وتحليل إمكانيات التعاون الاقتصادي العربي: ما هو قائم منها, وما يمكن أن يبتدع من أشكال وأساليب, وما يتلاءم منها تطبيقه في ظل الظروف الراهنة. فلا مناص عن تفعيل العمل الاقتصادي العربي المشترك طالما كنا نسعي لتحقيق تنمية حقيقية شاملة ومستدامة, ذلك أنه من المتعذر للغاية, إن لم يكن مستحيلا, أن يحقق أي بلد صغير أو متوسط الحجم تنمية مطردة وسريعة وهو في عزلة عن عالمه.