جاءت قناة السويس كعامل اختزال في جغرافية النقل, بل يمكن القول إنه من الصعب أن نتصور إنجازا آخر في حدود القدرة البشرية يمكن أن يغير أوضاع الطبيعة أكثر منها. فالقناة بحق جددت شباب موقع مصر الجغرافي, وأعادت إلي الجسم المريض دورة الدم والحياة, فهي رقبة مصر الجغرافية وعنق الزجاجة في إستراتيجيتها, كما هي شريان للتاريخ فيها. ولم يكن رينان يرجم بالغيب تماما حين خاطب ديلسيبس أيام شق القناة قائلا' إنك قد حددت معركة كبري للمستقبل'. ولكن رينان عبر عن فلسفته الاستعمارية في ذلك الوقت بالقول' إن أرضا تهم بقية العالم إلي هذه الدرجة لا يمكن أن تنتمي إلي ذات نفسها'. ولقد تعاظم دور القناة مع تفجر النفط في دول الخليج ومن ثم أصبحت قناة السويس هي قناة النفط, ومع أهمية النفط أصبحت القناة الطريق إلي الخليج. ورغم التقدم النووي الذي حدث فالإستراتيجية العسكرية عادت إلي عناصرها القديمة في صورة مواقع جغرافية وقواعد عسكرية وممرات مائية, فالقناة أعادت القيمة الإستراتيجية القصوي والحرجة من جديد للبحر المتوسط والمحيط الهندي وبالتالي البحر الأحمر. لكن المشكلة أن إمكانات الموقع الجغرافي لا تحقق نفسها بنفسها, بل من خلال الإنسان وبجهده تتحقق, فإنها أيضا لا تظهر كاملة مرة واحدة منذ البداية وإلي الأبد, وإنما هي تبرز وتتطور في عملية نمو تاريخي أساسا. ومن ثم علينا أن ندرك أن القناة قناتنا وأن قناتنا هي حياتنا وعلينا أن ندافع عنها عسكريا وأن ندافع عنها اقتصاديا ولا نسمح بتمرير مخططات مهما كانت مشفوعة بالحجج أن تنال منها. علينا أن نطوعها لأغراضنا ونطوعها بأن نتكيف معها بأن تتوسع باستمرار. فالخطر الحقيقي علي القناة يكمن في أدمغة الذين يبيتون الكراهية والضغائن لاقتصادنا في سبيل منفعة شخصية أو مكسب دولي. لا ينبغي لأحد أن يستخف بإمكانات الاقتصاد المصري إذا توفرت له البيئة السياسية المناسبة, فالظروف الاقتصادية الراهنة تعمل علي إبقاء الأداء الاقتصادي عند أدني مستوي. وبوسع مصر أن تفعل الكثير لأنها تملك الكثير وبوسعنا أن نتعلم من الآخرين. فمصر ليست أول دولة تناضل داخل المحور الثوري الحرج للانتقال من الماضي إلي مستقبل أفضل وأكثر عدلا. والدرس الأساسي الذي تعلمناه من تجارب نصف القرن الماضي أن صناع القرار لابد أن يعملوا وفقا لمفهوم إستراتيجي. وأن يستفيدوا إلي أقصي حد ممكن مما لديهم بدلا من أن يتمنوا لو كان بوسعهم أن يحولوا مجتمعهم بالكامل. ومن الأهمية بمكان أن يحددوا الأولويات والفرص, وأن يعملوا علي تنفيذ هذه الأولويات واستغلال الفرص. ولابد أن يسعوا إلي التغيير المتدرج التراكمي بدلا من ملاحقة الإنجازات الهائلة الشاملة في ضربة واحدة. والتأكيد علي أن أحد الأهداف الرئيسية للخروج من الأزمة الاقتصادية الحالية هو توسيع دائرة النقاش حول الوضع الاقتصادي والخطة التي يجب تنفيذها مع ضرورة إكساب المعرفة للجماهير الشعبية بمدي الجهود التي لابد من بذلها والأعباء التي لابد من تحملها إذا ما أريد تحقيق مستقبل أفضل لمصر ولأجيالها القادمة فعلاج مشاكلنا المزمنة سيتطلب بالضرورة وقتا وصبرا وجهدا. وأن أي اختيارات مهما كانت أفضليتها من الناحية الفنية لا يمكن أن تؤدي إلي تغييرات مؤثرة وفعالة ما لم تتبناها القوي المنتجة والجماهير الشعبية التي يمكنها وحدها بعملها وبجهدها وبقدرتها علي العطاء وباستعداد لإحداث تغييرات في أنماط سلوكها قبل العمل والإنتاج والاستهلاك وهو دور كبير يقع عاتقه علي الشعب بكامله بصفة عامه والإعلام المصري بصفة خاصة الذي هو في حاجة إلي خريطة جديدة تعمل علي تحفيز المصريين علي العمل والإبداع والمشاركة الفعالة لبناء مصر. مصر اليوم في حاجة إلي قيادات إنتاجية وإدارية حقيقية, قيادات ظهرت من تحت السلاح ولم تقفز بالباراشوت علي أعلي المناصب مباشرة. قيادات مؤهلة وقادرة وتملك فكرا وإبداعا وخيالا, كما تملك الانتماء لمواقع الإنتاج التي تربت فيها ولقضية الإنتاج وزيادة الإنتاجية. لذلك جاءت المائدة المستديرة التي نظمها المركز العربي الإفريقي للخدمات والاستشارات باختياره مشروع تنمية محور قناة السويس ليكون نقطة البداية نحو محاولة جادة لرسم خطة إنقاذ للاقتصاد المصري. وأثري المائدة بالنقاش نخبة متميزة كل حسب اختصاصه, وأنا علي يقين أن نتائج أعمالها في القريب العاجل سوف تكون نواة حقيقية لبرنامج اقتصادي عظيم علي غرار برنامج30 مارس الذي انتشل مصر في أعقاب النكسة وعلي غرار برامج شبيهة انتشلت كثيرا من الدول من براثن الفقر إلي مكانة مرموقة علي خريطة الاقتصاد العالمي. وقد سعدت بهذه النخبة التي ضمت كلا من الفريق حسام خيرالله وإسماعيل عثمان, م. عزمي مصطفي, ممدوح سعد الدين, د. مسعد عويس, م. حمدي زاهر, د. محمدي عيد, م. مجدي علام, صفوت عبد الباري, م. أشرف حمدي, وأدار الحوار عبد الرحمن عوض رئيس المركز ومن ثم بدأت المناقشة بمحاولة الإجابة عن السؤال المطروح علي المصريين منذ فترة وهو كيف يمكن تحويل إقليم قناة السويس من ممر ملاحي إلي محور لوجستي عالمي يعظم إيرادات القناة من خلال إيجاد قيمة مضافة للسلع التي تمر عبر القناة وإنشاء مراكز لوجستية تخدم مناطق صناعية عالمية تندرج المناطق الصناعية حول قناة السويس في منظومتها. المشروع معروف عالميا من1998 ومعظم معلوماته متاحة عالميا ومعروفة للعالم أكثر مما هي متاحة لمعظم المصريين ولن نبذل مجهودا كبيرا في تعريف العالم به. خاصة أن هناك عوامل جاذبة له تتمثل في مناخ جاذب ووفرة الأصول الطبيعية والتاريخية علي الطريق وسط تدفقات التجارة بين الشرق والغرب. ويمكن اجتذاب مجالات بعينها من ضمن المجالات ال20 الأعلي نموا علي مستوي العالم وخاصة قي النقل/ اللوجستيات- الطاقة- السياحة والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات. يمثل الموقع أهم ميزة تنافسية لمصر وهي لم تستغل بحق حتي الآن. تعتبر منطقة القناة وما حولها هي أفضل استغلال للموقع. تحتاج مصر أكثر من مشروع قومي إلا أن أهمها والأسرع إمكانية في التنفيذ, هذا المشروع هو الوحيد الذي يوجد للجزء الأكبر منه مخطط عام ودراسة تنفيذية مالية قانونية كاملة. وتتمثل تلك الأهمية عن غيره من المشروعات القومية انه: يملأ فراغ سيناء ويخلق فرص عمل لأهل سيناء. يحقق أمنا قوميا متكاملا بجذب استثمارات أجنبية تحول دون تعرض المنطقة لعدوان مستقبلا ويحول دون تفكير احد في دفع سكان غزةلسيناء. يخدم مباشرة محافظات شمال وجنوب سيناء والاسماعيلية والسويس وبورسعيد والشرقية وبطريقة غير مباشرة القاهرة والدلتا وشمال الصعيد. المشروع سيتفوق علي أي مشروع عالمي بعد تنفيذ مشروع الجسر البري بين مصر والسعودية. ومن ثم يجب استغلال معرفة العالم المسبقة بالفكرة في شكل عام وبمخططات القطبين تفصيلا, وبموافقة معظم التجمعات العالمية( البنك الدولي/الاتحاد الأوروبي/الصين/المنظمة البحرية العالمية...الخ). واستغلال وجود مخطط عام شامل وكامل موجود بمصر لأول مرة لميناء محوري, ومنطقة لوجستية صناعية ملاصقة, ولوجود مخطط عام جديد لمنطقة.. شمال غرب خليج السويس. فمكونات المشروع إما موجودة( قناة السويس) أو بدأ إنشاؤها( المراحل الأولي لميناءي السخنة وشرق بورسعيد) أو أنفقت مصر من ميزانيتها عليها الكثير ولا يجب أبدا التوقف لإعادة التفكير في مشروع آخر أو تضييع وقت في دراسات( بنية أساسية, طرق وكباري برية وكباري سكك حديدية وأنابيب تحت القناة وكهرباء ومياه عذبة' ترعة السلام' ومياه عادية وزراعات وتليفونات.. إلخ أو توجد لها دراسات سابقة' نفق الكيلو18- أو يمكن أن تكتمل بمشروعات اخري' تنمية شمال سيناء.. إلخ. ففي مجال التجارة العالمية يمكن إنشاء مناطق حرة( صناعية وتجارية)- مواني محورية - مراكز لوجستية- صناعات تصديرية- تخزين وإعادة شحن- شركات نقل بحري وبري وجوي- بنوك- سياحة- مراكز خدمات- شركات تأمين- شركات- شركات تغذية. وخدمات بحرية: قطر وإرشاد- إصلاح سفن- تكريك- صلاح حاويات- تموين سفن- شحن وتفريغ- مكافحة تلوث- توكيلات- متعهدي شحن- سفن روافد- تفتيش وتصنيف. ويجب علينا أن نبث الروح في كل المشروعات الخارجية التي قدمت لنا من الخارج ونعيد دراستها جيدا لأنها مشروعات تخدم مشروعنا القومي وتزيد من ربط القناة بدول أوروبا كما أن هذه المشروعات تأتي ومعها التمويل اللازم لها فالبنك الدولي سبق له دراسة القطب الشمالي للمشروع وأبدي استعداده رسميا لتمويله سنة2005 و2006. وقد أصدر الاتحاد الأوروبي وثيقة تفيد كثافة اعتماده علي قناة السويس في التجارة مع آسيا وإفريقيا, وبناء علي ذلك تم التركيز علي إقناع الاتحاد الأوروبي بأهمية تنمية منطقة لوجستية وميناء محوري بشرق بورسعيد, ونتيجة ذلك عرض الاتحاد الأوروبي في سبتمبر2005 المساعدة في9 مشروعات لمصر لتسهيل ربط أوروبا بآسيا وإفريقيا وتنمية محطة حاويات ومراكز لوجستية بشرق بورسعيد. إلا أنه مع انتقال ملف المشروع إلي وزارة الصناعة والزراعة ثم إلي وزارة الإسكان, تم اقتراح ميناء الإسكندرية بدلا من شرق بورسعيد. وفي هذا التوقيت ظهرت مواني أخري بشمال إفريقيا لها نفس أهمية الإسكندرية لأوروبا فتراجع الاهتمام الأوروبي بذلك المشروع, ولاسترجاع الاهتمام العالمي بهذا المشروع, علي أن يكون المشروع متكاملا زراعيا صناعيا لوجستيا بحريا اعماريا ترفيهيا تعدينيا يشمل كل أنشطة الانتاج والخدمات ويقيم مجتمعات جديدة وفقا لمقاييس عالمية غير مستخدمة لمصر بعد, وأن يخلق موقع جذب للاستثمارات الخارجية والخبرات الأجنبية ويوطن صناعات وخدمات عالمية الجودة. إن أفضل السياسات تصميما تتوقف دوما علي الظروف المحلية, والقدرة علي استغلال المزايا المتاحة والسعي إلي التغلب علي القيود الداخلية. فضلا عن ذلك فإن توليد النمو الاقتصادي يتطلب إصابة الأهداف السليمة, وليس القيام بكل شيء دفعة واحدة. وما يهم عند أي مرحلة يكمن في تخفيف القيود المباشرة السائدة في المجتمع, وهو سبب آخر يجعلنا نستخدم سياسات مختلفة لكل مكان بعينه. كل هذه المشاكل تتطلب اتباع أساليب مختلفة. إننا نحتاج بالفعل إلي إصلاحات انتقائية موجهة جيدا. ومن ثم فمصر في حاجة اليوم إلي ديكتاتورية اقتصادية والنموذج الصيني شديد الجاذبية, ليس فقط في نظر النخبة الجديدة في كثير من دول العالم النامي, بل إنه يتمتع بجاذبية عالمية أيضا. فهو ليس بالنموذج الغربي, والصينيون لا يعظونهم ولا يلقون عليهم المحاضرات بشأن الديمقراطية. وبطبيعة الحال, يشكل هذا النموذج مصدرا ثريا للآخرين. إننا في حاجة إلي تعزيز القطاع الخاص المحلي ودعم' الصناعات الوليدة' من خلال فرض إجراءات الحماية بصورة مؤقتة, وهو الأمر الذي من شأنه أن يساعدها علي الارتقاء بناتجها المحلي. وليس هناك ابتداع أو خروج علي المألوف في مثل هذه الاقتراحات. فقد فعلت الدول المتقدمة نفس الشيء بشكل أو بآخر.