بات واضحا أن الاستثمار الأجنبي المباشر لم يأت بمنافع إنمائية هامة لبلدنا بالمقارنة ببعض الدول الأخري, حيث استفادت الاقتصادات الناشئة من هذا الاستثمار, من خلال إتاحة فرص الوصول إلي رأس المال والتكنولوجيا والمعرفة والأسواق. ولقد تلقي المستثمرون أشد الضربات بسبب الأزمة المالية. والآن بدأ تنقيح استراتيجيات الاستثمار من واقع الدروس المستفادة. فهل يمكن أن نستفيد من التطورات التي لحقت باتفاقيات الاستثمار وباستراتيجيات الاستثمار الجديدة التي تعرف بالموجة الثالثة للاستثمار الأجنبي المباشر؟ ونحن علي يقين الآن أننا لسنا في حاجة إلي إصلاح يراهن علي الرأسمال الدولي ويدعم بالضرورة طبقة المضاربين بأموال الدولة والمغتنمين علي حسابها دون ثمن ودون أن نحقق للمجتمع أي نقل حقيقي للتقنية, كما أن التنمية التكنولوجية التي رأيناها في الفترة الأخيرة هي التي تصب في خانة تدعيم جيوب الوكلاء واستنزاف أموال المواطنين وجعل السوق المصري سوقا استهلاكية لمنتجات الشركات العملاقة. المطلوب هو خلق وضعية سياسية واجتماعية ونفسية جديدة لإعادة تأهيل المجتمع المستنزف ووضعه في شروط العمل والإنتاج. وعليه, فإن المناقشة لم تعد تبحث في ما إذا كان ينبغي تشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر أو عدم تشجيعه, بل في كيفية جني أقصي قدر من المنافع من ذلك الاستثمار والتقليل من المخاطر المتصلة به. ولقد شاع استخدام الحوافز لجلب الاستثمار الأجنبي المباشر من حيث الوتيرة والقيمة. ويعد انتشار الحوافز الضريبية والمالية وازدياد أثرها أمرا موثقا بشكل جيد منذ أواسط التسعينيات. ويمكن استعمال الحوافز لجلب الاستثمار الأجنبي المباشر إلي بلد مضيف معين أو لجعل الشركات الأجنبية المنتسبة في بلد ما تقوم بمهام مرغوب فيها من قبيل التدريب, والاستعانة بمصادر محلية, والبحث والتطوير أو التصدير. ومن بين الحوافز الكثيرة الممكن تقديمها, تعد الحوافز المالية والضريبية هي الأكثر شيوعا. فكثيرا ما تفضل البلدان النامية الوسائل الضريبية, مثل الإعفاءات الضريبية, والامتيازات الضريبية, ومنح الاستهلاك المعجل, ورد الرسوم والإعفاءات, بينما تلجأ البلدان المتقدمة أساسا إلي الحوافز المالية, ومنها المنح النقدية( التي تتجاوز أحيانا نسبة50% من تكاليف الاستثمار والقروض المقدمة بدون فائدة والقروض المدعومة). ويجسد اتساع نطاق الحوافز وجود منافسة أشد, لاسيما بين المناطق المتشابهة والمتقاربة جغرافيا. ذلك أن الحكومات الساعية إلي تحويل مسار الاستثمارات في اتجاه أقاليمها كثيرا ما تجد نفسها في خضم' حروب مزايدة متنوعة', حيث يؤلب المستثمرون مواقع مختلفة علي بعضها, مما يؤدي إلي تقديم مجموعات من الحوافز أكثر وأكثر جاذبية من أجل الفوز بالاستثمار. وهناك وثائق تثبت وقوع حروب مزايدة, مثل ما وقع في البرازيل, وفيما بين بلدان رابطة جنوب شرق آسيا, وفيما بين مقاطعات الصين فضلا عن بلدان وسط أوروبا وأوروبا الشرقية. لذلك وضعت منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي عام2000 المبادئ التوجيهية للمؤسسات المتعددة الجنسيات حكما في فصل' السياسات العامة' فيما يتعلق بالحوافز التنظيمية. فوفقا لهذا الحكم,' ينبغي للمؤسسات أن تراعي السياسات المتبعة في البلدان التي تعمل بها مراعاة تامة, وأن تنظر في آراء الجهات الأخري صاحبة المصلحة. وفي هذا الصدد, أكدت علي المؤسسات الكف عن السعي للحصول علي إعفاءات لم ينظر فيها في الإطار القانوني أو التنظيمي المتعلق بالحوافز المقدمة في مجال البيئة والصحة والسلامة والعمل والضرائب والمالية أو غير ذلك من القضايا أو الإحجام عن قبول هذه الإعفاءات'. وفي أثناء المفاوضات التي جرت بشأن اتفاقات الاستثمار المتعددة الأطراف, اتفق علي ضرورة إدراج حكم يثني عن تخفيض مستوي المقاييس المتعلقة بالعمل والبيئة من أجل جلب الاستثمار الأجنبي. وقد ركزت هذه المقترحات علي النص التالي: ' تقر الأطراف أن من غير اللائق تشجيع الاستثمار بتخفيض مستوي( المقاييس)( التدابير)( الداخلية) في مجال الصحة أو السلامة أو البيئة أو بالتساهل في المقاييس( المحلية)( الأساسية) المتعلقة بالعمل. وبناء عليه, لا ينبغي لطرف أن يتنازل عن هذه( المقاييس)( التدابير) أو يتنصل منها أو يعرض التنازل عنها أو التنصل منها من باب تشجيع مستثمر علي إقامة استثمار أو حيازته أو توسيعه أو الاحتفاظ به في إقليم هذا الطرف. وإذا رأي طرف أن طرفا آخر قد عرض مثل هذا التشجيع, جاز له أن يطلب مشاورات مع الطرف الآخر ثم يتشاور الطرفان لتفادي أي شكل من هذا التشجيع'. كذلك وجد أن الاستثمار الأجنبي المباشر قد لا يفيد بالضرورة الدولة المضيفة, إذ يحصل المستثمرون الأجانب, من خلال الاستثمار الأجنبي المباشر, علي معلومات داخلية حاسمة عن إنتاجية المؤسسات الموجودة تحت سيطرتهم. ويتيح ذلك لهم ميزة من حيث المعلومات عن المدخرين المحليين الذين( لا يعرفون), والذين لا يترتب علي شرائهم الأسهم في المؤسسات المحلية السيطرة عليها. وبالاستفادة من تلك المعلومات المتفوقة, يميل المستثمرون الأجانب إلي الاحتفاظ بالمؤسسات العالية الإنتاجية تحت سيطرتهم وفي حوزتهم, وبيع المؤسسات المنخفضة الإنتاجية إلي المدخرين الذين لا تتوافر لهم المعلومات. وقد توجد بعض حالات أخري لا يكون الاستثمار الأجنبي المباشر فيها مفيدا للدولة المستقبلة له, عندما يكون هذا الاستثمار مثلا موجها نحو خدمة الأسواق المحلية المحمية بحواجز جمركية عالية أو بحواجز غير جمركية. وفي ظل هذه الظروف قد يؤدي الاستثمار الأجنبي المباشر إلي تقوية جماعات الضغط الداعية لاستمرار سوء التخصيص القائم للموارد. واتبعت الولاياتالمتحدة في اتفاقات التجارة الحرة التي أبرمتها علي النهج المشترك من خلال إدراج أحكام تنص علي عدم صحة التشجيع علي الاستثمار من خلال إضعاف الحماية التي تمنحها القوانين الداخلية المتعلقة بالبيئة والعمل أو الحد منها. حتي البنك الدولي نفسه ينصح الدول النامية بعدم التوسع في منح الحوافز, فحسب الباب الثالث, ليس في مبادئ البنك الدولي ما يوحي بأن علي دولة أن تزود مستثمرين أجانب بإعفاءات ضريبية أو حوافز ضريبية أخري. ولما تري الدولة أن لهذه الحوافز ما يبررها, جاز منحها تلقائيا قدر الإمكان, مع ربطها مباشرة بنوع النشاط المشجع ومنحها بالتساوي للمستثمرين الوطنيين في ظروف مشابهة. ثم إن فرض أسعار ضريبية معقولة ومستقرة حافز أفضل من منح إعفاءات تعقبها أسعار غير مستقرة أو مفرطة. كما أن هناك اتفاقات للتجارة الحرة أبرمت مؤخرا أكدت علي عدم تخفيض مستوي المقاييس في مجال البيئة أو العمل بوجه خاص. من جهة أخري, تعد الاستثمارات القائمة أساسا علي الحوافز الأقرب إلي الزوال فور انتهاء المزايا المالية أو الضريبية. فقد قدمت بعض الدول النامية حوافز استثمارية سخية لمدة خمس سنوات لمشاريع فردية, ثم قررت شركات عديدة محلية وأجنبية أن توقف أنشطتها بعد انتهاء فترة الحوافز علي سبيل المثال, أدرجت وكالات التنمية الاقتصادية في الولاياتالمتحدة شروطا تحليلية في الاتفاقات المتعلقة بالحوافز, تنص علي أنه في حالة عدم حفاظ الشركة المعنية علي كذا وكذا من الوظائف أو عدم إنفاقها كذا وكذا من رأس المال, جاز لوكالات التنمية عندها أن تطالب باسترداد الأموال. أما بالنسبة لموضوع الاستثمارات الأجنبية وتأثيراته السلبية علي الأمن القومي, علينا أن نعي الدرس من دولة كبري تمثل معقل الرأسمالية وهي الولاياتالمتحدةالأمريكية فمن المتوقع أن يصبح تدقيق الحكومة الأمريكية في بعض صفقات الاستثمار المباشر الأجنبية أمرا ملزما بموجب القانون الجديد الذي أقره مجلسا النواب والشيوخ فرصة الوصول والحصول علي مراجعات الحكومة ووجهات نظرها بالنسبة للاستثمارات الأجنبية المقترحة التي يمكن أن يكون لها تأثير محتمل علي الأمن الوطني الأمريكي, وقد حاول الكونجرس تعديل نظام عملية التدقيق والمراجعة عندما وافقت اللجنة الخاصة بالاستثمارات في الولاياتالمتحدة في عام2006 علي صفقة مع شركة مواني دبي العالمية المملوكة لإمارة دبي أثارت ضجة واحتجاجا واسعين في الكونجرس. وطالب القانون اللجنة بالإفصاح للكونجرس بنتائج تدقيقها ومراجعاتها للاستثمارات الأجنبية. كذلك من شأن القانون أن يوسع صلاحية لجنة الاستثمارات الخارجية في الولاياتالمتحدة بحيث يمكنها مراجعة تملك مشاريع توليد الطاقة والمواني والطرق الخاضعة لجباية الرسوم وغيرها من المنشآت الحساسة. وقد سارت علي النهج نفسه حكومات كل من ألمانيا وكندا واليابان وروسيا والهند قد فرضت قيودا علي المشتريات الأجنبية للشركات والعقارات في بلدانها. وقد لجأت بعض الحكومات إلي استخدام حواجز' غير رسمية' لتقييد الاستثمارات الأجنبية والحد منها وذلك بإعلان صناعات معينة أو شركات محددة أنها ممنوعة عن الاستثمار أو التملك الأجنبي. علينا أن نستفيد من اتفاقات الاستثمار الدولية الجديدة التي تعمل علي الموازنة بين المصالح العامة والخاصة. فلغة المعاهدات الجديدة تختلف اختلافا كليا عن المعاهدات السابقة, بالإضافة إلي استخدام الاستثناءات العامة في المعاهدات, وإدخال إصلاحات علي إجراءات تسوية المنازعات بين المستثمرين والدول, بوصفها سبلا لتعزيز دور الدولة. كما تتضمن تلك المعاهدات مسألة مسئولية الشركات الاجتماعية وأن تتضمن شروطا إلزامية تفرض علي المستثمرين. وأن تزيد مساهمة المستثمرين الأجانب في التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وقد تم التوسع في هذا الموضوع في عرض مؤشرات كيفية التطرق لمصالح الدول في اتفاقات الاستثمار الدولية وفي الفقه وفي إجراءات التحكيم. وطالب البعض بضرورة أن تتضمن اتفاقات الاستثمار الدولية السمات التالية لمراعاة هذه المصالح: الإشارة في الديباجة إلي التنمية الاقتصادية, وإدراج حكم يتعلق بالتطابق, كما هو الحال في بعض المعاهدات, بما يشترط أن تكون الاستثمارات متفقة مع القانون المحلي, والاستثناءات التي تصون المرونة التنظيمية, والاستثناء من المعاملة بموجب حكم الدولة الأكثر رعاية, والاستثناء المتعلق بميزان المدفوعات بالنسبة للتحويلات الحرة, وشروط الأداء. ويثار اليوم كثير من النقاط المتعلقة بالمنازعات بين المستثمر والدولة التي يمكن أن تكون لها مساوئ تذكر, ولاسيما بالنسبة للبلدان النامية, من حيث ارتفاع التكاليف وطول مدة الإجراءات وما قد تلحقه هذه الإجراءات من ضرر بالعلاقة بين المستثمر والدولة. وتتركز المناقشات حاليا علي دور الطرق البديلة لتسوية المنازعات كآلية' مراعية للتنمية' لتسوية المنازعات, بما أنها يمكن أن تكون أقل كلفة وأسرع وأكثر حماية للعلاقة بين المستثمر الأجنبي والبلد المضيف مقارنة مع التحكيم الدولي. المهم الآن نحن أمام ثورة ثالثة للاستثمار الأجنبي المباشر تحاول كل من الدول المضيفة والشركات المتعددة الجنسية أن تتلاقي علي هدف واحد وهو ضرورة إحداث تنمية حقيقية في البلد المضيف مع ثبات للسياسات وللاتفاقيات دون التعرض للتغيير بتغير المسئولين, فهل نستطيع ركوب الموجة الثالثة لقطار الاستثمار الأجنبي المباشر لتعويض ما فاتنا؟ إن هذا الأمر يتوقف علينا وحدنا وعلي إلمامنا بكل ما لحق من الاستراتيجيات الجديدة من تعديل وتهذيب.