كلام ساكت تعبير سودانى رشيق. يعنى الكلام الفارغ من القائل والسامع. ولدى أولاد البلد المصريين تعبير أرشق: الجنازة حارة والميت كلب. وحكمة فى ليبيا تقول: لا يأتى من الغرب ما يسر القلب. 2 هذه الحكم والأمثال والتعبيرات البليغة جاءت الأسبوع الماضى من لندن العاصمة البريطانية الطامحة إلى عودة المستعمرات. جاءت من مجلة الإيكونوميست الاقتصادية المتخصصة. فقد وضعت مصر تحت الأضواء بقسوة معهودة من مراكز التفكير الغربى، ونشرت ملفا اقتصاديا شاملا، وقدمته تحت عنوان( خراب مصر)، وكأنه تعنى من طرف خفى خراب الهيكل اليهودى! 3 لا أحد يناقش فى المعلومات المنشورة، فهى معلومات معروفة نشرتها الصحافة الأمريكية والبريطانية وحتى المصرية، لكن الإيكونوميست جمعتها ببراعة مهنية، وكأنها الحق المطلق الذى لا يأتيه الباطل، وصاغتها بعناوين براقة تليق بمهنية تتمتع بها هذه المجلة الخطيرة، المربوطة بخيوط لا مرئية بصناع السياسة والمال فى الغرب، فهى مجلة المتحكمين فى المالى العالمى، الداعية إلى السوق الحرة والعولمة، مجلة رجال البنوك والصناعة ومجموعات التفكير وحملة الأسهم عابرى الحدود. وطالما تلقت تمويلا خفيا من مراكز غربية تعمل على تغيير المجتمعات وإسقاط الأنظمة، ودورها فى العراق قبل وبعد الغزو ليس خافيا على أحد. 4 ما كتبته الإيكونوميست كلام ساكت أى فارغ، فهو معروف بالضرورة للمصريين، فلدينا أزمات اقتصادية طاحنة لم يسبق أن واجهناها، ولدينا ضيق فى الأفق السياسى والاجتماعى نتيجة غياب تعدد الأفكار وحرية المعتقدات السياسية، ولدينا غياب فى المهنية فى كل مجال تقريبا، وما هللت له الإيكونوميست وتوابعها من فضائيات وصحف عربية، جنازة حارة والميت كلب، وأخيرا كشفت نفسها، وكأنها تستعيد عبارة الليبيين: لا يأتى من الغرب ما يسر القلب. فقد تخلت عن حيادها المهنى، ونصحت الغرب بأن يتعاملوا مع السيسى بنفعية مطلقةحسب ما نشره موقع الجزيرة القطرية الشامت نقلا عن المجلة، ف" الأهمية الاستراتيجية لمصر تجعل العالم لا يمتلك خيارات كثيرة غير التعامل مع السيسي، لكن الغرب يجب أن يعامله بمزيج من النفعية، والإقناع، والضغوط. ويتعين على الغرب التوقف عن بيع أسلحة باهظة لمصر غير ضرورية لها أو لا تستطيع تحمل ثمنها، سواء كانت طائرات إف 16، أو حاملات طائرات فرنسية طراز ميسترال"، وهنا مربط الفرس، فالمجلة تعرف أهمية استقرار مصر لبقية دول العالم، وتطالب الغرب أن يبقى ضاغطا على الحاكم، لتنفيذ سياساتهم التى بالضرورة ضد وجود الأمة المصرية نفسها! 5 وبعيدا عن الغاضبين مما يجرى فى مصر، وأنا منهم، لأسباب عميقة فى بنية السياسة الحالية، فإن الإيكونوميست تكشف القناع وتطالب صناع السياسة الغربية والخليجية حسب ترجمة موقع الجزيرة بأن:"أى مساعدات اقتصادية ينبغي أن تقترن بشروط صارمة، أبرزها تعويم العملة، وتقليص الوظائف الحكومية، وإلغاء تدريجي للدعم ..كما يتعين على دول الخليج الإصرار على مثل هذه التغييرات، وحجب بعض "الأرز" إذا أصر السيسي على ذلك". 6
بعد هذه النصائح العلنية لعواصم القرار فى الغرب والشرق تصل الإيكونوميست إلى قلب الهدف مباشرة، وهو أن النظام فى مصر يحتاج إلى الانفتاح السياسى، والانفتاح من وجهة نظر المجلة البريطانية يتمثل فى إعلان" السيسي أنه لن يترشح في انتخابات الرئاسة 2018". 7 قفزت المطبوعة البريطانية الخطيرة من التحليل الاقتصادى المهنى إلى الرغبة السياسية الجامحة مباشرة، وتلقف الغاضبون، ولديهم الحق فى الغضب، موقف الإيكونوميست، وكأنها تدافع عن مستقبل المصريين فى المطلق، وهى فى الحقيقة تقول بوضوح إن مصر يجب أن تتكيف مع البنك الدولى، وصندوق النقد الدولى، وتدخل بقدميها فى الصندوق الرأسمالى، وإلا ستعم الفوضى ويتغير النظام، ورسالتها واضحة بتحريض الشركات العالمية، وحتى الخليجية بعدم الاستثمار فى مصر، والضغط على النظام السياسى حتى يوافق على روشتة الإصلاح الاقتصادى المطلوب، ليس كرامة للمصريين إنما كرامة لأباطرة المال العالميين! 8 فى النهاية لا تكتب الإيكونوميست من فراغ، سواء أكانت مصريا أو دوليا، والرد عليها لا يكون بعشق برنامج الإصلاح المطلوب، ولا بتبرير المواقف السياسية ، ولا بالجرى وراءهم ليرضوا بما نحكم، بل بتقوية الطبقة الوسطى المصرية، وفتح أبواب الحرية، اقتصاديا وسياسيا، وثقافيا، واجتماعيا، وهناك مثل مصرى شهير يقول: أهلك لا تهلك!