فجأة تحولت شاشات معظم المقاهي المصرية إلى القنوات الإخبارية، لتتابع تطورات انقلاب الجيش التركي ضد الرئيس أردوغان، وسرعان ما ظهر الانقسام بين المتابعين، الذين كان أغلبهم يتمنى نجاح الانقلاب للتخلص من حليف جماعة الإخوان، وداعم الجماعات الإرهابية في سورياوالعراق وليبيا، والذي يسعى لإحلال حكم الفرد الواحد، على حساب البرلمان والقضاء والحياة الحزبية. أما المدافعون عن أردوغان، فكانوا يتحدثون عن انتهاء عصر الانقلابات والديكتاتوريات العسكرية، التي لا تأتي إلا بالقمع ومصادرة الحريات، وأن الديمقراطية مهما كانت نتائجها هي الأفضل، ويجب الاحتكام لها. عدت من المقهى لأجد صفحات التواصل أكثر اشتعالا، وتحتفل صفحات جماعة الإخوان بفشل الانقلاب، وتبدي شماتة واضحة بنشر صور الضباط والجنود الأتراك وهم يهانون بالضرب والتعرية والطرح أرضا على وجوههم، وعند أي اعتراض على هذا السلوك الهمجي والمتجاوز للقانون والاحترام الإنساني للموقوفين العزل، فإنهم يذكروك بما حدث لاعتصام رابعة، وكأنهم يثأرون من إطاحتهم من الحكم في مصر، ويرون في أردوغان مرشدهم الجديد، الذي يتحدثون عن مىآثره، ويسبون كل من يشير إلى تحالفه مع الصهاينة، وعضويته في الناتو، ونموذج الإسلام المتصهين الذي يتبناه. عدت لأتابع أول مؤتمر صحفي لأردوغان بعد نجاته، ولاحظت المرارة بادية على وجهه الشاحب والمتوتر، والذي مر للتو بأقسى لحظات حياته، فقد سقط فجأة من حلم حكم إمبراطورية تمتد من سورياوالعراق إلى المغرب، فإذا به يجد نفسه محاصرا ومطاردا من ضباط جيشه، فيتخفى ويهرب ويشعر بالرعب أثناء المؤتمر الصحفي كلما سمع أزيز طائرة من جيشه المتمرد، واضطر إلى إنهاء مؤتمره الصحفي سريعا عندما أخبره حراسه أن طائرات للجيش تحوم حول المطار. القسوة التي يحاول أردوغان إظهارها ليست أنه يريد أن يؤكد لنفسه أنه لايزال قويا، وأنه قادر على التخلص من جميع خصومه، وإن بدت قراراته كما يهدم المعبد على رؤوس الجميع. تتوالى القرارات باعتقالات بالآلاف من الجيش والشرطة والقضاة، وحتى حكام الأقاليم والمدن وكبار الموظفين، فهو يرتاب في الجميع، عدا أنصاره المستعدين لقتل كل منافسيه. تعمد نشر صور لآلاف من ضباط وجنود الجيش شبه عراة ومقيدين من الخلف، وتم إلقاؤهم مكومين في صالات وملاعب الكرة، يتلقون الصفعات والضرب بالأحذية على أيدي جماعات من أنصاره، وكأننا أمام مشهد مماثل لمعتقلي سجن أبو غريب في العراق على أيدي قوات الاحتلال الأمريكي، إنه يبدو وكأنه يتخلص من جيش الدولة الأتاتوركية، بينما ميليشيات حزبه يعتبرها جيشه الحقيقي المؤمن بأفكاره، والمستعد للتضحية من أجل شخصه، غير عابئ بالشرخ العميق الذي ستتركه، بل سيمضي إلى إعادة عقوبة الإعدام ليكون الانتقام كافيا، ويتخلص من تذكر لحظات الرعب التي عاشها. علامات استفهام كبيرة ما زالت تبحث عن إجابة، خاصة حول سبب قشل الانقلاب، الذي اعتقل 103 جنرالات وأدميرالات من قياداته، وآلاف من ضباطه وجنوده تزداد كل يوم، والذى لا يمكن تفسيره بأن بضعة آلاف خرجوا بعد مناشدتهم إلى الشوارع، فلو استمر أردوغان بقبضتهم ما خرجت إلا أعداد قليلة، وتمهلت الأحزاب أو أيدت الانقلاب، فهناك من ساعدوا أردوغان على النجاة واستعادة السيطرة، وإن كان من الممكن أن تظل خافية لبعض الوقت، وهل كانت قاعدة أنجرليك هي الوحيدة القادرة على تقديم المساعدة، وربما افتعال أزمة مع واشنطن يستهدف إخفاء ما حدث. لكن حتى نعرف جذور ما حدث، ونحاول قراءة ما سيحدث علينا أن نعود قليلا إلى الوراء، ونحاول الإجابة على سؤال مهم: هل بإمكان الأردوغانية الإخوانية أن تتعايش مع الدولة الأتاتوركية العلمانية؟ منذ تولى أتاتورك السلطة في عام 1923 وقد أرسى دعائم الدولة الوطنية العلمانية، التي تفصل الدين عن الدولة، وتعتمد النظم الغربية الحديثة في كل المجالات، وكان الجيش هو حارس المبادئ الأتاتوركية، وتدخل أكثر من مرة باعتباره حامي الدولة من خطر الانحراف عن المبادئ الأتاتوركية، وكذلك كان القضاء حارسها الدستوري، ولهذا يمكن أن نفهم العداء بين أردوغان وكل من الجيش والقضاء، ومحاولاته الدؤوب فى اختراقهما والسيطرة عليهما من الداخل. كان صعود حزب العدالة والتنمية إلى الحكم بدعم أوروبي وأمريكي ناجما عن إدراك الناتو بتقديم نموذج يحتذى به للبلدان الإسلامية، وأن تكون تركيا المسلمة القريبة من الغرب هي النموذج لباقي الدول الإسلامية، وربما قائدة لها، ولهذا حظي الحزب بدعم اقتصادي كبير جعل من تركيا تبدو كدولة من طراز خاص وناجح. كان حزب العدالة والتنمية قد تشكل عام 2001 من نواب انشقوا عن حزب الفضيلة، الذي أسسه نجم الدين أربكان، أول من أسس حزبا له هوية إسلامية عام 1970 باسم حزب النظام الوطني، وحلته المحكمة الدستورية، ليواصل محاولاته بتأسيس عدة أحزاب، أحرزت بعض النجاح والقدرة على المشاركة والتعايش مع العلمانية، حتى انشق حزب الفضيلة ويظهر أردوغان من القيادات الجديدة، معلنا عن سياسات أكثر تقربا من الغرب والدولة الصهيونية، ولهذا رأوا فيه النموذج الأفضل من الإسلام المحافظ التقليدي الذي تمثله السعودية أو الإسلام المعادي الذي تمثله إيران، وجاء فشل الغزو الأمريكي للعراق، وفشل إسرائيل في حرب لبنان الثانية أمام حزب الله، ليظهر مخطط الشرق الأوسط الجديد، الذي كان لأردوغان دور كبير فيه، وعادت تراوده فكرة الخلافة الإسلامية بدعم أوروربي أمريكي هذه المرة، وفي ثوب عصري، وانطلقت أحلام أردوغان الوردية مع جماعة الإخوان التي امتطاها، وبجانبها الجماعات المسلحة المنوط بها التدمير والتفكيك، ليعاد التركيب تحت سلطانه. كانت الأمور تسير وفق المخطط لها في العام الأول للربيع العربي 2011، لكن التعثرات بدأت في الظهور تدريجيا، وخرجت مصر وتونس من تحت حكم الإخوان، وصمدت سورياوالعراق، ليهتز العرش قبل أن يجلس عليه أردوغان، وتظهر الخلافات مع حلفائه، الذين بدأوا إعادة النظر في مخطط يصعب المضي فيه إلى النهاية، خصوصا أن داعش وأخواته بدأ يخرج عن السيطرة، وأصبحت أضراره تفوق فوائده. شعر أردوغان أن الدور الوظيفي له يوشك على النهاية، ولهذا بدأ خطته الخاصة في السيطرة الكاملة على الدولة التركية، وتقويض أدوار كل منافسيه المحتملين، وقرر التحول إلى النظام الرئاسي، لتقليص دور البرلمان، واختراق وتقريض أحزاب المعارضة، والقضاء المبكر على أي حلم قد يراود الأكراد في الاستقلال، وترويض القضاء والجيش وتطهيرهما من العلمانيين وحراس الأتاتوركية. نظرت أوروبا وأمريكا بقلق إلى تحركات أردوغان، لكنها لا يمكن أن تستغني عن دور تركيا في ظل المعارك الدائرة في سورياوالعراق وليبيا، وبدأت الخلافات تطفو على السطح، فأردوغان يطالب بمساعدة الناتو في إنجاز مشروعه الخاص باقتطاع أجزاء من سورياوالعراق بمساعدة الجماعات المسلحة، وفرض منطقة آمنة للنازحين، تكون تحت سلطة تركيا، بينما كانت أوروبا وأمريكا تبحثان عن قوات حليفة من داخل سورياوالعراق، تستقل ببعض الأراضي المقتطعة، وتحول دون إقامة تحالف سوري عراقي إيراني روسي، ممتد جغرافيا من بحر قزوين جنوبروسيا حتى البحر المتوسط. كما نظرت روسيا للطموح الأردوغاني بقلق، والذي يريد العودة بالخلافة العثمانية بثوب جديد، ويطمح أن يمتد نفوذه لدول الجنوب الروسي المرتبط بعضها بوشائج تاريخية مع تركيا. هكذا أصبح أردوغان محاطا بخصومات جديدة، وأخرى تتجدد، بينما تغوص أقدامه في معارك سورياوالعراق، ويحاول طيلة الوقت التحايل واللعب على كل الأطراف، ربما يتمكن من تحقيق نصر يعزز سلطاته في الداخل، وهو أقل تعويض عن حلم انهيار الخلافة، لكن أردوغان المثخن بالجراح، ويحيطه الأعداء من كل جانب يمكن أن يقدم على أي شيء، وربما الاستدارة والقفز من هذا التحالف إلى آخر، لكن كل قفزة واستدارة لها مخاطرها، والحجر الداير لابد من لطه.