د . خالد سعيد احتفالاً بالذكرى الخامسة والعشرين على استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما، جاءت زيارة بنيامين نيتانياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلى للعاصمة الروسية، موسكو، فى السادس من الشهر الجارى، إدراكا لمدى تصاعد الدور الروسى، دوليا وإقليميا، ولتضع تل أبيب مجموعة من النقاط فوق الحروف، سواء كبح جماح التقارب الروسى الإيرانى، أم لطرح خريطة طريق جديدة، أم لاستعادة مجموعة "جينزبرج" المهمة، أم لتوقيع اتفاقيات اقتصادية مهمة. تعد زيارة نيتانياهو الرابعة خلال عام واحد فقط، والثانية خلال شهرين (الأخيرة كانت، فى الواحد والعشرين من إبريل)، تأكيدًا لزيادة الثقة المتبادلة بين الطرفين، الإسرائيلى والروسى، واستغلالا للنفوذ الروسى فى المنطقة، خصوصا فى سوريا، حتى إن مفهوم "التنسيق الأمنى" قد تكرر، غير مرة، على لسان رئيس الوزراء الإسرائيلى، سواء فى زيارته الأخيرة، أم الأولى، فى الواحد والعشرين من سبتمبر للعام الماضى، فضلاً عن محاولة زج تل أبيب لموسكو فى الصراع العربى الإسرائيلى، ومنحها التفويض المباشر بدلاً عن الولاياتالمتحدةالأمريكية، التى تعتقد إسرائيل أن نجمها فى أفول، ما دفع بتل أبيب إلى البحث الفورى عن القوى الدولية الأخرى، التى تمثلت فى روسيا، حاليا، على حد قول صحيفة "هاآرتس" العبرية! من جملة القضايا الرئيسية التى نوقشت خلال زيارة نيتانياهو، ما يلى: سياسيا: من الملفات التى طرحها رئيس الوزراء الإسرائيلى محاولة إشراك الروس فى تقسيم منطقة الشرق الأوسط، وتغيير الخريطة السياسية بما يتوافق ومصالح الطرفين، بعد إدراك إسرائيل أنه لم يعد هناك أى مكان للأمريكان فى المنطقة، فضلاً عن تصاعد الخلاف الإسرائيلى مع إدارة الرئيس باراك أوباما، غير مرة، حيال قضايا جوهرية، أهمها رفض نيتانياهو وقف بناء المستوطنات، أو حيال التعاطى الأمريكى مع الملف النووى الإيرانى، والانتهاء بتوقيع مجموعة (5+1)، الاتفاق النووى الذى تم توقيعه، فى الخامس عشر من يوليو للعام الماضى، والذى اعتبرته تل أبيب بمثابة "سايكس بيكو" جديد فى المنطقة، ناهيك عن الخلاف حول تماهى سياسة أوباما بشأن الملف السورى، وهو ما تصفه إسرائيل "بالمائع"، برغم مزاعم نيتانياهو نفسه، فى قلب موسكو، بأن التقارب لروسيا لا يغير من طبيعة العلاقات مع الولاياتالمتحدة! استتبع هذا الملف محاولة إشراك روسيا فى الصراعات الإقليمية، خصوصا الصراع مع الفلسطينيين، والمدهش فى الأمر أن زيارة نيتانياهو الأخيرة استتبعتها زيارة لرياض المالكى، وزير الخارجية الفلسطينى، بيوم واحد، لمناقشة مدى إطلاع الروس على موافقة نيتانياهو على المبادرة العربية للسلام، بعد رفضه للمبادرة الفرنسية للسلام بحسب صحيفة "معاريف" وإعلان نظيره الروسى، سيرجى لافروف، قبول المبادرة العربية بدون أية تغييرات، أى أن أحد أسباب زيارة نيتانياهو كانت رغبته فى طرحه لخطوة مضادة للمبادرة الفرنسية، والخطوات السياسية الأخرى، التى تجبر إسرائيل على الانسحاب من حدود الخامس من يونيو 67. فكان من البديهى أن ينفى مكتب نيتانياهو نفسه مناقشته المبادرة العربية أثناء مباحثاته فى موسكو، ليتلائم ذلك مع مقولة نيتانياهو المتكررة بأن " الجولان خط أحمر "، وهو ما أعلنه للمجتمع الدولى من أن هضبة الجولان السورية المحتلة ستبقى تحت السيادة الإسرائيلية للأبد، وعلى الرئيس الروسى، فلاديمير بوتين، بحث إمكانية التنسيق الأمنى فى سوريا، بدلا من مناقشة إنجاز تسوية سياسية فيها، واعتبار الحديث عن الهضبة السورية "خط أحمر"! ناهيك عن عقده لجلسة حكومته الأسبوعية، فى الهواء الطلق بالهضبة السورية، فى التاسع عشر من إبريل الماضى، وقبيل زيارته قبل الأخيرة لموسكو بيومين فقط، وذلك للمرة الأولى فى تاريخ بلاده، فى حالة من التحدى الإسرائيلى للمجتمع الدولى. انصب الحديث فى تلك الزيارة على كيفية مدى قضم هضبة الجولان من السوريين، وفرض السيطرة الكاملة عليها، والتنسيق الأمنى فى سوريا، استغلالاً للوضع السورى المتردى، خصوصا مع إعلان حزب "الاتحاد الديمقراطي" لتأسيس دولة كردية فى الشمال السورى، ومن قبله موافقة روسيا على فيدرالية سورية، ما يمهد الطريق لتقسيم سوريا فعليًا! مع موافقة بوتين الضمنية على ضم إسرائيل للجولان، حينما لم يبدِ أى اعتراض على حديث نيتانياهو، وذلك على حد زعم صحيفة "يديعوت آحرونوت". وهو ما يبدو نتاجًا طبيعيًا على حد وصف صحيفة " هاآرتس "، من مدى استغلال نيتانياهو للصداقة الحميمية التى تجمعه ببوتين، فيما يفيد مصلحة بلاده. الغريب أن صحيفة "هاآرتس" ركزت فى تحليلها المهم لزيارة نيتانياهو لموسكو على مدى شغر بوتين للفراغ الذى تركه أوباما، وللاقتصاد الأمريكى الذى تراجع لصالح الاقتصاد الروسى، إسرائيليا، ومدى تطور العلاقات الاقتصادية الإسرائيلية الروسية فى المستقبل، ما يتوافق مع الرؤية الروسية من عدم توجيه الإصبع فى أعين الأمريكان بقدر الاستفادة من توطيد العلاقات مع إسرائيل، لكن من الواضح أن نيتانياهو هو الأكثر استغلالاً لهذه العلاقة، حيث حصل من بوتين على سبيل المثال على "دبابة" قد استولت عليها القوات السورية، فى العام 1982، فى معركة "السلطان يعقوب"، أثناء الاجتياح الإسرائيلى للبنان، وذلك بعدما زار رئيس الوزراء الإسرائيلى "متحف المدرعات" بموسكو، وطلب استعادتها. اجتماعيا: لم يكتف نيتانياهو بذلك، بل حصل من بوتين على رواتب معاشات التقاعد لعشرات الآلاف من الإسرائيليين من أصل روسى، الذين هاجروا من دويلات الاتحاد السوفيتى السابق، فور انهياره، حتى إن وزير الاستيعاب، زئيف ألكين (من أصل روسى، ومترجم الزيارة)، كان بصحبة نيتانياهو خلال زيارته للعاصمة الروسية، موسكو، لتوقيع الاتفاق مع الحكومة الروسية على ذلك، حيث قدرت المعاشات بمئات الملايين من الدولارات، التى تعد، بدورها، إنجازًا لنيتانياهو بين المهاجرين الروس، الذى يزيد عددهم فى إسرائيل على المليون ونصف المليون نسمة! دينيًا: الشاهد أن زيارة نيتانياهو لموسكو لم تقف عند حد ذلك كله، والواضح أنه من الأسباب السرية والخطيرة فى تلك الزيارة جلبه لمجموعة كتب "جينزبرج" اليهودية المهمة، والتى تناقش كثيرا من الشرائع اليهودية، أهمها قواعد الصلاة، وبعض الأحكام الدينية الأخرى، جزء منها مكتوب بخط اليد، أحد خطوط الكتابة فى اللغة العبرية، وتعود إلى القرن الخامس عشر الميلادي. وهى المجموعة التى شدد الرئيس الإسرائيلى، رؤوبين ريفلين، خلال زيارته المهمة للعاصمة الروسية، موسكو، فى السادس عشر من مارس الماضى، على استعادتها لتل أبيب بأى ثمن وفقًا لما ذكرته القناة السابعة الإسرائيلية أثناء الزيارة، فيما تعزى أهمية هذه المجموعة إلى كونها تضم 14 ألف كتاب مطبوع منذ القرن الخامس عشر، إبان إرهاصات عصر الطباعة، وآلاف المخطوطات باللغة العبرية اليدوية، ومقابلها باللغة العربية، أيضا، وهى المجموعة التى تعد الثانية من حيث أكبر وأضخم الكتب العبرية القديمة الموجودة حول العالم بعد مكتبة بودوليانا بجامعة أكسفورد، وخارج إسرائيل. اقتصاديا: احتل الجانب الاقتصادى أهمية كبرى فى زيارة نيتانياهو لموسكو، فقد وقَّع على العديد من الاتفاقيات المهمة، منها اتفاقية التجارة الحرة، وكذا فى مجالات الطاقة، والزراعة، وتطوير حقول الغاز الإسرائيلية بالبحر المتوسط، ناهيك عن اشتراك خبراء إسرائيليين فى تصنيع " طائرات سوبر جيت 100 " الروسية، وأنظمة إدارة السلامة، ودعم لوجستى لطائرات روسية، من نوع "MS 21". بيد أن زيارة نيتانياهو لم تتطرق إلى الحديث عن انضمام إسرائيل للاتحاد الأوراسى، برغم إشارة ريفلين إليها خلال زيارته المهمة لموسكو، فى مارس الماضى، فقد أكدت القناة السابعة الإسرائيلية، على موقعها الإلكترونى، أن روسيا تسعى لانضمام تل أبيب للاتحاد الأورو آسيوى الاقتصادى، أو الاتحاد الأوراسى (ويضم روسيا، وروسيا البيضاء، وكازاخستان، وقيرغيزستان، وطاجيكستان، مع احتمالية انضمام بعض دول الاتحاد السوفيتى السابق، لم تسم بعد)، والتى ستسهم، بشكل رئيسى، فى تنمية الاقتصاد الإسرائيلى. وبعد، فإن تعدد زيارات نيتانياهو لموسكو تأتى تكريسًا لمفهوم رفض التنازل عن الأراضى العربية التى احتلتها الآلة العسكرية الإسرائيلية فى حرب 67، ومحاولة الإبقاء على الوضع الراهن، خصوصا فى هضبة الجولان السورية المحتلة، كونها كنزا إستراتيجيا لإسرائيل، وهو ما حصل عليه "بيبي" من بوتين، وكأننا أمام وعد جديد بقضم المزيد من الأراضى العربية لصالح إسرائيل، أو ما يمكن تسميته ب "وعد بوتين"، على غرار "وعد بلفور"، مقابل كبح جماح إيران فى المنطقة، قدر المستطاع، مع استمرار التنسيق الأمنى الروسى الإسرائيلى فى سوريا. يبدو أن إسرائيل تدفع بروسيا قدمًا نحو الخروج بمبادرة روسية للسلام، بحسب المصالح الإسرائيلية، بدعوى أفول نجم الولاياتالمتحدة فى المنطقة، فى وقت نجح نيتانياهو فى الحصول على معاشات التقاعد، واحتمالية حصوله على مجموعة "جينزبرج" الدينية المهمة، ناهيك عن توقيعه للاتفاقات الاقتصادية الجوهرية، وقبلها محاولة ضم بوتين إسرائيل للاتحاد الأوراسى الاقتصادى، ليتأكد أن ثمة ملفات وقضايا نجح نيتانياهو فى الحصول عليها من بوتين، ما يمكن تسميته ب "وعود بوتين"!