لماذا لا يشعر المواطن المصري بثمار التنمية؟.. رئيس معهد التخطيط القومي يجيب    محافظ الغربية يجتمع بقيادات شركة المياه لمتابعة مشروع شارع الجلاء في المحلة    الاتحاد الأوروبي يُعيِّن الفرنسي كريستوف بيجو ممثلًا لعملية السلام في الشرق الأوسط    عبد المنعم عمارة: المحكمة الرياضة قد تخالف ما اتخذته رابطة الاندية من قرارات    صرف بوسى شلبى من النيابة بعد التحقيق معها فى اتهام أسرة محمود عبد العزيز لها بالتزوير    بالصور.. يسرا وهدى المفتي من كواليس تصوير فيلم الست لما    وزير الصحة يبحث سبل تعزيز التعاون في المجالات الصحية مع وزيري صحة لاتفيا وأوكرانيا    «عبداللطيف» يشهد توقيع بروتوكول مع «التعليم أولًا» لرفع كفاءة العاملين بالمدارس الرسمية لغات    5 فرص عمل للمصريين في مجال دباغة الجلود بالأردن (شروط التقديم)    حملات مكبرة لغلق مغاسل السيارات المخالفة في الغردقة    توريد 544 ألف طن من الذهب الأصفر لشون وصوامع محافظة الشرقية    شقق متوسطى الدخل هتنزل بكرة بالتقسيط على 20 سنة.. ومقدم 100 ألف جنيه    تشديد للوكلاء ومستوردي السيارات الكهربائية على الالتزام بالبروتوكول الأوروبي    وزير الدفاع يشهد تنفيذ مشروع مراكز القيادة التعبوى للمنطقة الغربية العسكرية    محافظة القدس تحذر من دعوات منظمات «الهيكل» المتطرفة لاقتحام المسجد الأقصى    بعد دخول قائد الطائرة الحمام وإغماء مساعده.. رحلة جوية تحلق بدون طيار ل10 دقائق    أندوريل تكشف عن طائرتها القتالية المسيّرة المتطورة «فيوري»    "أونروا": المنظمات الأممية ستتولى توزيع المساعدات الإنسانية في غزة    بالصور- رئيس جامعة أسيوط يتفقد لجان امتحانات كلية الآداب    رونالدو يتقدم قائمة البرتغال رغم عدم مشاركته مع النصر    فرج عامر: يجب إعادة مباراة القمة.. واتحاد الكرة المسؤول عن هذة الأزمة    موعد والقناة الناقلة لمباراة الأهلي والزمالك في دوري سوبر السلة    سالم: نجهز ملف كامل حول أزمة القمة قبل الذهاب للمحكمة الرياضية.. ومتمسكون بعدالله السعيد    باو فيكتور: لم أفكر في مستقبلي مع برشلونة.. وسأتخذ القرار المناسب    جمال العدل: عقوبة الأهلي بعد انسحابه مهزلة.. والدوري المصري أصبح أضحوكة    كلوب يفاجئ الجميع.. أوافق على تدريب هذا الفريق    إصابة 12 شخصًا في سقوط أسانسير بمستشفى جامعة المنوفية    ب48 مصنعاً.. وزير الزراعة: توطين صناعة المبيدات أصبح ضرورة تفرضها التحديات الاقتصادية العالمية    استمارة التقدم على وظائف المدارس المصرية اليابانية للعام الدراسى 2026    الأرصاد: طقس غداً الأربعاء حار نهاراً معتدل ليلاً    شوفنا الدم على هدومه.. جيران يكشفون تفاصيل ذبح أب على يد ابنه بأسوان    عامل يشرع في قتل صاحب ورشة بسبب الخلاف على أجرة إصلاح موتوسيكل بسوهاج    وزير التعليم العالي: طفرة كبيرة بالمنظومة التعليمية في عهد السيسي    محافظ بورسعيد: المحافظة ظلمت بسبب إدراجها ضمن المدن الحضرية    ذكرى رحيل سمير صبرى وسمير غانم فى كاريكاتير اليوم السابع    بإطلالة أنيقة.. ياسمين صبري تخطف الأنظار في أحدث ظهور    مدير مكتبه الإسكندرية للنواب: نستقبل 2000 زائر يوميا ونحتاج دعم لتجديد البنية التحتية    الإفتاء توضح فضل صيام التسع الأوائل من ذي الحجة.. وغرة الشهر فلكيًا    الأزهر للفتوى يوضح حجم الحجر الأسود وفضل استلامه ومسحه    جامعة القاهرة تستقبل وفدا صينيا بمستشفى قصر العيني الفرنساوي    إنجاز طبي بمستشفى أطفال مصر: إنقاذ رضيعة بتوسيع الصمام الأورطي بالبالون    طريقة عمل القراقيش بالملبن بخطوات بسيطة    هل يجوز الحج عمن مات مستطيعًا للعبادة؟.. دار الإفتاء تُجيب    ماذا تفعل المرأة إذا جاءها الحيض أثناء الحج؟.. أمينة الفتوى ترُد    المغرب: حل الدولتين الأفق الوحيد لتسوية القضية الفلسطينية    مكتب الإعلام الحكومي بغزة: تصريحات يائير جولان إقرار واضح بجريمة الإبادة الجماعية ضد شعبنا    الجيش السوداني: نقترب من السيطرة الكاملة على الخرطوم    قبل امتحانات آخر السنة 2025.. ما هو الاختيار الأفضل لتحلية الحليب لطفلك؟ (أبيض ولا أسود)    نقابة الفنانين السورية تنعي بطلة «باب الحارة»    الحبس 3 سنوات لعاطلين في سرقة مشغولات ذهبية من شقة بمصر الجديدة    أنطلاق فيلم المشروع x بطولة كريم عبد العزيز ويامسين صبري بدور العرض السينمائى    دينزل واشنطن يوبخ مصورا قبل حصوله على السعفة الذهبية الفخرية في مهرجان كان    عاجل- الصحة العالمية تُعلن خلو مصر من انتقال جميع طفيليات الملاريا البشرية    بعد تداول فيديو.. ضبط قائد سيارة حاول الاصطدام بسيدة على محور 30 يونيو    صعود جماعي لمؤشرات البورصة في بداية تعاملات الثلاثاء    جامعة جنوب الوادي تدعو طلابها للمشاركة في "مسرح الحياة" لتعزيز الدمج المجتمعي    المركزي الصيني يخفض أسعار الفائدة إلى مستويات قياسية    الإفتاء: لا يجوز ترك الصلاة تحت اي ظرف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حياة نزار (5).. د. يحيى الرخاوى يغوص داخل شعر نزار ويحلل شخصيته: نزار مقاتل جسور يحطم القيود وبداخله امرأة راقية وجذابة!
نشر في الأهرام العربي يوم 10 - 06 - 2016


تصوير عماد عبدالهادى

- قادر على اقتحام ساحة الحب والحرب ومثل النحات التشكيلى نثره شعر وشعره حياة

- هو معجون بعصارة حب حقيقى قوى قوة النار، رقيق رقة رذاذ المطر، جميل جمال الزهرة، مُرّ مرارة الدواء الناجع الضرورى!

- التناقضات التى تظهر على سطح شخص نزار ليست تناقضات بمعنى التضاد أو التضارب، وإنما هى إعلان عن زخم الحركة التى تضطرم فى وجدانه

- نزار قد واجه أقسى المآسى بإنكارها، و يكاد ينكر موت من لا يريد ذهابه، وعبر عن ذلك بوضوح فى رثاء ابنه وزوجته أيضا.

- انتحار أخته كان مبعث ما أطلّ فى قصائده دفاعا عن حق المرأة العربية فى الحرية والاختيار .. فراح يهجو الرجل العربى بأقبح الهجاء على لسان امرأة

الحديث مع الدكتور يحيى الرخاوى عن التحليل النفسى لشخصية شاعر الحب والمرأة نزار قبانى ممتع بل أكثر من رائع، د. الرخاوى ليس مجرد طبيب نفسى بل قامة ثقافية وفكرية كبيرة، فهو يجمع بين أكثر من بضاعة فى آن واحد بين الأدب والنقد والطب النفسى ، بمجرد أن هاتفته لإجراء هذا الحوار الذى بين أيديكم سرعان ما عكف على قراءة أغلب دواوين نزار وهذا قلما يحدث فبرغم الزحام الشديد الذى يملأ يومه، فهو يرى أن قبانى شاعر له حضور قوى فهو يخلق الحياة بتشكيل كلماته فى معركة الموت والبعث طول الوقت، ذلك الشاعر الثورى المتمرد العنيد المحب الحنون الذى تعرض للكثير من المآسى فى حياته، المجنون السابح فى عالم النساء ليصور المرأة فى أبهى صورها، وليضعها فى أجمل تصنيف ما أهله ليلقب بشاعر المرأة وهذا ظهر جليا فى ديوانه «هكذا أكتب تاريخ النساء».

مبكرا عرف نزار قبانى الشهرة الواسعة فهل أصابته بمرض العظمة؟
نزار قبانى شاعر جميل، ومن حقه أن يشتهر، لكننى لا أرى أن شاعرا بهذا الحضور، وهذا الوعى يكون هدفه من شعره أو حتى من حياته أن يشتهر، حين تكون الشهرة مطلبا قد تصيب من ينالها ليس فقط بأوهام العظمة، وإنما بالعمى عن معنى شهرته وأمانة توظيفها، أما حين تكون الشهرة نتيجة لعمل فائق وإبداع خارق، تصبح بعضَ حقه فى التقدير والحب والإعجاب بقدراته وشجاعته وهو يخلّق الحياة بتشكيل كلماته فى معركة الموت والبعث طول الوقت، هذا هو الشعر.

أين يقع نزار من منظورك شخصيا، وفى رأيك مختصا؟
ليس من حقى مختصا أن أحكم على شاعر بهذا الجمال وهذه القدرة، لكن بما لى من خبرات فى النقد ومحاولات متواضعة فى قرض الشعر دعينى أبدأ من منطلق ما أفادنى به تخصصى فى مجال النقد، وبالذات نقد الشعر والشاعر.
حين أقرأ نزار أو حتى أستمع لغناء مَنْ شدا بشعره، أشعر بفخر بعروبتى اللغوية الإبداعية، وفى نفس الوقت أخجل من عروبتى البدائية التدهورية الغبية، الحضارة التى تخلى - أغلب أهلها عن حمل أمانتها - هذه اللغة كما أحياها الشعر الأصيل ممثلا فى نزار، وهو يذكرنا كيف أنها تمثل حبات جواهر أصيلة، يصيغ منها الشاعر عقود اللؤلؤ، أو يفجرها لتكون صواريخ إنارة، وأنه لا كيان لنا إلا بها، وهم – الأعداء والأوغاد – يحاولون تفكيك جمودنا ليعيدوا صياغتنا تابعين مشرذمين وعلينا أن نحتمى بها وبإيحاءاتها شعرا وإبداعا، نزار يمثل لى أغلب إن لم يكن كل ما أحبه فى لغتى وفى تاريخى، وفى نفس الوقت هو يمثل لى كل ما تعنيه عندى ماهية وعمق ما هو الشعر ومن هو الشاعر.

ماذا عن التناقضات التى اشتهر بها؟
التناقضات التى تظهر على سطح من هو شخص نزار ليست تناقضات بمعنى التضاد أو التضارب، وإنما هى إعلان عن زخم الحركة التى تضطرم فى وجدان هذا الشاعر العربى المبدع النادر القوى العنيد الجميل معا.

وهل يدل ذلك على شخصية نزار بوجه خاص، هل يمكن التعرف من خلال ذلك على شفرة شخصيته؟
لم يعد هناك فى العلم شىء اسمه «شفرة الشخصية»، هذه مقولة بدت علمية فى الأربعينيات والخمسينيات، ثم تقدم فهم جدلية النمو البشرى، الذى أظهر كيف أن الشخصية البشرية الأصلية تظل فى «حالة تَكّون مستمر»، فإذا كان الشخص العادى فى حالة تكون مستمر فما بالك بالشاعر الذى يولد من جديد مع كل قصيدة، بل فى كل لحظة وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة للشعراء المجيدين عامة، فما بالك ب نزار قبانى بكل طوله وعرضه وكل ما يزخر به داخله من الصور والناس! حكاية «شفرة الشخصية» أو «مفتاح الشخصية» اشتهرت بها أعمال الراحل عباس محمود العقاد فى عبقرياته ونقده، لكنه بالغ فى تطبيقها وامتدت إلى نقده للشعر خاصة، فنجح جزئيا فى نقده لابن الرومى لكنه أخفق كثيرا فى قراءته لأبى نواس (الحسن بن هانئ).

كتب نزار «قصتى مع الشعر» و«ما هو الشعر» فهل لذلك علاقة بتركيبته النفسية؟
طبعا توجد علاقة وبالذات فى حالة نزار الذى كتبه الشعر أكثر وأعمق مما كتب هو الشعر، ثم إن الشاعر ليس فقط هو من يكتب الشعر، بل هو المبدع المغامر الذى يجدد نفسه فيجدد الحياة، ثم تختلف الأدوات، وقد عرفت ذات مرّة أن أينشتاين كان شاعراً بالأساس، وكتبت مقالا فى الأهرام بتاريخ 30/5/2005 بعنوان: «إينشتاين شاعرا» قلت فيه: «.... رحت‏ أقرأه‏ شاعرا‏: لا‏ فى ناتج‏ إبداعه الرياضى‏، وإنما‏ من‏ موقف‏ حركية‏ وجوده‏، وهو‏ القائل‏: «... إن‏ أجمل‏ ما‏ نعايشه‏ هو‏ الغموض‏..، ومن‏ لا‏ يشعر‏ بهذه‏ العاطفة‏، فلا‏ يتوقف‏ ويحتار‏ ويقف‏ مأخوذا‏ فى دهشة‏، ليس‏ إلا‏ ميتا‏ مغمض‏ العينين‏». أليست‏ هذه‏ الدهشة‏ هى أصل الشعر‏ ‏سواء‏ كان‏ ناتجها معادلة‏ رياضية‏ أم‏ موقفا‏ وجوديا؟‏ ونزار أعظم من يمثل ذلك كله، فأنا أعتبر كل إنتاجه سواء أكان نثرا أم شعرا هو شعر خالص بل لعل حياته هى أيضا قصيدة بديعة.

كيف يكون نثر نزار شعرا؟
نثر نزار هو أقرب إلى شاعريته من دبلوماسيته المهنية المهذبة، والتوفيق بين زخم الشعر بداخله ليتدفق إبداعا، ومطالب الدبلوماسية فى أدائه واجبه اليومى فى الحياة يمثل إعجازا خاصا، علما بأننى تعرفت على معالم هذه المعادلة الصعبة من المدخل المفترقى بين العلاقة، الحلم والجنون إلى الشعر.

ولكن ما وجه الشبه بين الحلم والشعر عند نزار؟
يقول أدونيس: (... ول نزار قصص ومواقف معه) – إن ظاهرة الشعر بوصفها مثالاً للإبداع فى أعمق مستوياته هى تشكيل التجليات الأرقى لظاهرة الحلم فى وعى فائق() وعندى أن نزار يمثل ذلك فى أرقى صوره برغم تواضع شهادة أدونيس له، وإذا كان أدونيس يمثل «العمق الصعب المستغْرَب»، فإن نزار يمثل «السهل الجميل الممتنع»، وعموما فما كل من سمّى ما يقوله شعرا هو شاعر.

ضحكت قائلة: إذن كيف ذلك؟
فى محاولاتى المتواضعة أردت أن أبرئ نفسى من هذا الادعاء فقلت فى ذلك يا ليت شعرى لست شاعرا.
لا‏ أضرب‏ الدفوف‏ فى مواكب‏ الكلام‏،‏
ولا‏ أدغدغ‏ النغم‏
لا‏ أنحت‏ النقوشَ‏ حول‏ أطراف‏ الجملْ،‏
أو‏ أطلبُ‏ الرّضَا‏.‏
ولا‏ أقولُ‏ ما‏ يقرّظ‏ الجمال‏
يحتضرْ‏.‏
نزار لم يكن يقرّظ الجمال، بل كان يخلّقه تخليقا حتى إذا لم يكن موجودا، كأن مثل النحات التشكيلى وهو يحيل كل ما يصله من طبيعة وبشر ووسائل إلى مخلوقات جديدة جميلة من إبداعه، إن كل ما تركه لنا نزار هو شعر خالص: نثره شعر، وشعره شعر، وحياته شعر، نزار لا يكتب الشعر بل يكتبه الشعر كما قلت.

هل العوارض النفسية التى تعرض لها نزار كانتحار أخته واغتيال زوجته بلقيس دفع به إلى التطرف فى مهاجمة العرب من خلال قصيدته السياسية؟!
الأرجح عندى أن نزار لم يهاجم العرب إلا أملا فيهم، بل وحبا لهم، وعموما فإن هذه المآسى الفادحة التى اعترت مسيرة حياته، برغم اتفاقها فى أنها كبدت هذا الكائن البشرى القوى الرقيق كل هذه المعاناة، هذه المآسى لم تحدث على وتيرة واحدة، وهذا أصعب: فقد كان الغدر سببا فى مقتل زوجته الثانية «بلقيس» فى انفجار بيروت قد أوجعه حزنا عليها وسخطا على القتلة، على حد سواء فهو الذى يقول فى رثائها: قتلوكِ يا بلقيس، ..أيَّةُ أُمَّةٍ عربيةٍ ..تلكَ التى تغتالُ أصواتَ البلابِلْ؟
أما انتحار أخته فقد قيل إنه كان بسبب أنها لم تستطع أن تتزوج بمن تحب، وربما هذا كان مبعث ما أطلّ فى نبض قصائده دفاعا عن حق المرأة العربية فى الحرية والاختيار فراح يهجو الرجل العربى بأقبح الهجاء على لسان امرأة حرة وهى تقول: فشرقُكمْ يا سيَّدى العزيزْ: يصادرُ الرسائلّ الزرقاءْ، يصادرُ الأحلامَ من خزائن النساءْ، يمارسُ الحَجْرَ على عواطف النساءْ
هذا عن زوجته وشقيقته فماذا عن رحيل ابنه فى ريعان شبابه؟
أعتقد أن هذا الحدث هو الأكبر بين كل هذه المآسى، حين مات توفيق ابنه – وهو المسمى على اسم أبيه – إثر مرض عابر وهو بعدُ طالب فى كلية الطب قصر العينى (ولعله كان أحد طلبتى سنة 1972) وعمره لم يصل العشرين، كتب نزار رثاء فى قصيدة بعنوان: «الأمير الخرافى توفيق قبانى» مليئة باللوعة والحزن وجزع الفقد
هكذا كان رثاء نزار لابنه، وقد تركه فى وحدة شديدة القسوة، وكأن الذى ذهب هو أبوه وليس ابنه.
ثم إن نزار قد واجه أقسى المآسى بإنكارها، وهو يكاد ينكر موت من لا يريد ذهابه، فهو يعبر عن ذلك بوضوح فى رثاء ابنه وزوجته أيضا.
ففى رثاء ابنه يقول:
وكل الأكاليل فوق ضريحك كذب...، ......، أحاول ألا أصدق أن الأمير الخرافى توفيق مات..، وأن الجبين المسافر بين الكواكب مات..، وأن الذى كان يقطف من شجر الشمس مات..
أما إنكار موت زوجته فهو يقول فيه:
هل تقرعينَ البابَ بعد دقائقٍ ؟، هل تخلعينَ المعطفَ الشَّتَوِيَّ؟، هل تأتينَ باسمةً ..، وناضرةً ..، ومُشْرِقَةً كأزهارِ الحُقُولْ؟، ......، حتى سجارتُكِ التى أشعلتِها، لم تنطفئْ..، ودخانُهَا، ما زالَ يرفضُ أن يسافرْ.

من وجهة نظرك ما سبب تركيزه على المرأة فى أشعاره: ثورتها، تمردها، حيث كانت الشغل الشاغل له يتفنن فى توصيفها يتخيلها كما يريد ويصورها كما يجمح له خياله؟
الناقد الباحث الجاد، يمكن أن يتعرف على حقيقه المرأة بكل إبداعها وأمومتها وأنوثتها ورقتها وحريتها فى حالة نزار، وسوف يجد المرأة أكثر وأوضح فى تركيبته الشخصية مما لو بحث فى علاقاته أو صاحباته، الأرجح عندى أن نزار كان بداخله امرأة رائعة حاضرة خلاقة طول الوقت، وهذا لا يعنى أية إشارة إلى أنثوية فى تكوينه الداخلى أو الخارجى، أو أنه يشير إلى أى خلل فى جنسانيته، وإنما هو يذكرنا كيف أن المبدع لا يبدع إلا تكاملا مع كل طبقات وعية وحسب كارل جوستاف يونج على الأقل، فإن كل رجل بداخله امرأة ولا يتكامل الرجل إلا بقبولها واحتوائها جدلا ناميا، هذا يتحقق أكثر جدا فى المبدعين خاصة، وهو كذلك فى المرأة المبدعة أيضا حين تحتوى وتتعهد الرجل بداخلها لتتكامل به فتطلق إبداعها الأصلى كما يليق بالمبدعين.
نزار يخلّق المرأة تخليقا وهذا قد يؤكد تصالحه الإبداعى مع امرأة جميلة بداخله، وهو يتناول المرأة الأم كما يتناول المرأة الحبيبة، والمرأة العشيقة، والمرأة الجنس برقة متناهية، بل عنده قدرة الفنان التشكيلى ليس فقط على الرسم بالكلمات بل على النحت بالكلمات، وهو يركز أحيانا – دون فيتيشيه – على بعض أجزاء الأنثى فيها لتحل محلها كلها، انظر مثلا علاقته «بعيون» هذه الحبيبة.
فى مرفأ عينيك الأزرق، شباك بحرى مفتوح ، وطيور فى الأبعاد تلوح، .. تبحث عن جزر لم تخلق
وفى قصيدة «طفولة نهد» يذهب كل مذهب بما أشعر معه ببعض الحرج – دون رفض – فأعدل عن اقتطاف ما تيسر، لكننى أكتفى بمقطع من قصيدة أقل ذيوعا يصف فيها النهد بشكل أرق يقول:
ورحتُ أخطّ كطفلٍ صغير، كلاماً غريباً على وجه دفترْ، ونهدُكِ.. تحت ارتفاف القميص، شهيّ.. شهيّ.. كطعنة خنجرْ
ثم يتأكد هذا المنحى وهو ينتقل من العيون إلى الشفاه: حين يركز عليها ويصفها كأنه يرسم تشكيلاً بكل ألوان الطيف النابضة ويقول:
مُنْضَمَّةٌ .. مُزَقْزِقة، مَبْلُولةٌ كالوَرَقَة، سُبحانَهُ مَنْ شَقَّها، كما تُشَقُّ الفُسْتُقَة
وقد يرسم المرأة أُمَّا دافئة محيطة، وعشيقة شهية، وطفلة شقية، وهو يقلب داخله أولا، دعينا نسمعه مثلا وهو يبحث عنها أُمَّا مرفأً، يقول:
على حرير شعرك الطويل كالسنابل.. ، كمركب أرهقه العياء ، كطائر مهاجر...، يبحث عن نافذة تضاء يبحث عن سقف له...، فى عتمة الجدائل...، مُنْضَمَّةٌ .. مُزَقْزِقه..

ما الحالة التى تصف فيها الحب عند نزار من الناحية النفسية ؟
ما وصلنى من تاريخ نزار، وأكثر من شعره هو أنه معجون بعصارة حب حقيقى قوى قوة النار، رقيق رقة رذاذ المطر، جميل جمال الزهرة، مُرّ مرارة الدواء الناجع الضرورى، كانت علاقة نزار بالحب علاقة جدلية رائعة مبدعة فهو قادر على تلقى الحب (أن يُحَب) بقدر ما هو قادر على أن يُحَبّ، هو لا يذوب فى محبوبته أو حبيبته بل يحافظ عليها كيانا جميلا مستقلا يسمح له بمساحة حركة ضرورية ذهابا وجيئة، كما يحفز فيه رفقة جديدة إلى حب جديد إلى ما بعده..
وهو يعرف كيف يتقدم إلى الحب مقتحما وهو يعطى ويذوب معا، كما يعرف كيف يقطع العلاقة بسكين بارد مثلما جاء فى قصيدته: «2000 تحت الصفر»:
ما عدتُ أقدرُ أن أكونَ مُهذَّباً .. ومُجاملا، كنتُ القتيلَ .. وجاء دَورى كى أكونَ القاتلا، فَقَدَتْ عَلاقتُنا طرافَتَها .. وجِدَّةَ شَكْلِها ..، وتحوَّلَتْ ضجراً .. ويأساً قاتِلا
إلى أن قال:
إنَّ البردَ كالسكين , يخترقُ الشراشِفْ، البَرْدُ يخترقُ العواطفْ، لم يبق فى عينيكِ لا ماءٌ .. ولا شَجَرٌ ..

هل كانت شخصية نزار تركز على حب المرأة أكثر؟
ما لفت نظرى هو هذه الخلاصة التى انتهيت إليها وهى: أن الذى يجرى فى عروقه لم يكن دما مثل البشر بل كان حبا خالصا لكل ما يستحق الحب، حب الأرض وحب الزعيم وحب الحق، وقد لاحظت أن حب الأرض ليست فيه أية رائحة شوفينية فهو يحب وطنه سوريا ابتداءً، ويحب دمشق، كما يحب غرناطة، أما حبه لمصر من أول أرضها حيث قضى بها نحبه فلذة كبده، حتى زعيمها وزعيم العرب جمال عبد الناصر مرورا بطه حسين، فقد كان فريدا فى نوعه.

كيف ترى قصيدته التى كتبها فى طه حسين؟
ما وصلنى من قصيدته فى طه حسين أنه – يعلن نوعاً نبيلا راقيا من الوجدان والعرفان الجميلين فقد رسمه ممثِّلا للإبداع والثورة والأصالة والعربية معا، قرأت قصيدته تلك وكأنها غزل فى أرقى مراتبه وهو يقول:
ضوءُ عينيكَ ... أم حوارُ المرايا .. أم هما طائران يحترقانِ؟
أيها الأزهريُّ .. يا سارقَ النارِ
ويا كاسراً حدودَ الثواني
وقد امتزج حبه لطه حسين بحب مصر حين يقول:
آهِ يا مِصرُ ... كَم تُعانينَ مِنهمْ
والكبيرُ الكبيرُ ... دوماً يُعاني
إلى أن كاد أن يفقد اتزانه من فرط هيامه بمصر:
مِصرُ .. يا مِصرُ .. إنَّ عِشقي خَطيرٌ ...
فاغفري لي إذا أَضَعْتُ اتِّزاني ...

هذا حين تتجسد مصر فيه فماذا عن مشاركته لنا فى معاركنا الرائعة وكفاحنا الصبور؟
دعينا نقرأ ما كتب بعنوان «رسالة جندى فى جبهة السويس»، وكأنه الأبنودى يكتب قصيدة: «رسالة من الراجل اللى فحت الكنال»
يا والدي! هذى الحروفُ الثائرهْ، تأتى إليكَ من السويسْ، تأتى إليكَ من السويسِ الصابرهْ،
إنى أراها يا أبي، من خندقي، سفنُ اللصوصْ، محشودةٌ عندَ المضيقْ، هل عادَ قطّاعُ الطريقْ؟ يتسلّقونَ جدارنا..، ويهدّدون بقاءنا..

- معارك نزار هل أثرت شخصيته، خصوصا معاركه الدينية وما سببته له قصيدة «خبز وحشيش وقمر» ؟
لا فرق بين معارك نزار الدينية ومعاركه السياسية ومعاركه الإبداعية، فهو شاعر وثائر طول الوقت، شعره ثورة وثورته شعر، وهذه القصيدة بالذات أخذت شهرتها لما ترتب عليها مما يشبه المحاكمة فى برلمان دمشق، مع أن نيرانها وقذائفها فى تصورى أقل كثيرا من لهيب وصواريخ قصائد له أخرى ربما لم يلتقط مدى تجاوزها المتربصون، هؤلاء الذين ركزوا مثلا على مقطع مثل:
ما الذى عند السماءْ؟ لكسالى.. ضعفاءْ..، يستحيلون إلى موتى إذا عاش القمرْ..
........
يتسلون بأفيون نسميه قدَر وقضاءْ..
فهو لا يقرن السماء هنا بالله عز وجلّ، ولا يسخر من القضاء أو يقلل من دور القدر الذى أُمِرْنا ألا نسبه، ولكنه يتكلم عن القضاء والقدر الذى نسلم له مصيرنا ونعلل به فشلنا طول الوقت.

من خلال قراءتك لشعره هل هو شخص شرس متمرد عنيد؟
هو شخص قوى مقتحم وهذه ليست شراسة وهو مقاتل جسور يحطم الجمود ليعيد بناء الإنسان (ونفسه) أرقى وأقدر، وهذا ليس تمردا، وهو حين يرى الحق حقا يتمسك به، ويصر عليه ليواصل مشواره حتى يتمكن من إعادة تشكيله إذا لزم الأمر، وهذا ليس عنادا.
فهو القادر على اقتحام المحال فى ساحة الحب كما فى ساحة الحرب، ففى ساحة الحب تعالى نسمعه.
أعرفُ أَنّى أُريدُ المُحاَلْ، وأَنَّكِ فوق ادّعاءِ الخَيَالْ، وفوقَ الحيازةِ، فوقَ النَوَالْ،
وفى ساحة الحرب نعايش اقتحامه فى قصيدة «أصبح عندى اليوم بندقية»
أصبحَ عندى الآنَ بندقيّة..، أصبحتُ فى قائمةِ الثوّار، أفترشُ الأشواكَ والغبار
وألبسُ المنيّة..، مشيئةُ الأقدارِ لا تردُّني، أنا الذى أغيّرُ الأقدار فهو فى الحب لا يتردد فى طلب المحِال وفى الحرب هو الذى يغيّر الأقدار.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.