السيد رشاد قبل نحو عشرين عاما، وتحديدا عام 1996 كنت أقطع مسرعا «كل يوم»، بعد أن التحقت بمؤسسة الأهرام وقتها، المسافة ما بين منتصف شارعى الجلاء، و26 يوليو، لكننى كنت أجد نفسى وبصورة عفوية أخفف الخطو، فور وصولى إلى تقاطع الشارعين، وتحديدا عند الناصية التى تضم هذا المبنى الضخم، الغامض، «مبنى القنصلية الإيطالية»، وكأننى كنت أخشى أن يجرح الكعب النحاسى صمته المهيب، أو يخدش ضجيج السير غموضه الساحر، وقد كنت محقا، فهنا داخل هذا المبنى بطرازه المعمارى الأوروبى الفريد، يقبع معهد ليوناردو دافنشى للفنون الجميلة والعمارة، ولأننى أعشق الاثنين: دافنشى أيقونة إيطاليا، والفن التشكيلى الإنسانى كله، وأسطورة عصر النهضة، فنانا وعالما، كما أننى من مغرمى الفنون الجميلة، بكل تجلياتها، ومعطياتها، ولأن كليهما اجتمعا معا «دافنشى والفن»، داخل هذا المبنى العريق، فكان لابد أن أخفف الخطو، لأقف متأملا تعانق عيناى هذه اللافتة النحاسية البديعة التى توجد بجوار إحدى بوابات المبنى من ناحية شارع الجلاء، وتحمل اسم دانتى أليجرى، ابن فلورنسا، المدينة التى تصادف أن احتضنت الفرعون المصرى الموهوب محمد صلاح نجم ناديها فيورنتينا، ومسقط رأس شاعر إيطاليا المولود عام 1265، وصاحب الكوميديا الإلهية، والذى أطلق اسمه على هذه المؤسسة الثقافية الفنية الإيطالية، منذ تأسيسها فى روما عام 1889. والتى يحتضن ناديها الأشهر الآن موهبة صلاح فى حوار مصرى - إيطالى إبداعى من نوع آخر، لقد كانت القاهرة من أوائل مدن العالم التى تضم مؤسسة دانتى الثقافية، لكن فرع القاهرة، تفرد عن كل فروع الدنيا، بإنشاء معهد ليوناردو دافنشى بداخله فى مطلع ثلاثينيات القرن الماضى، وهو معهد أنشأته إيطاليا فقط فى مصر، فلا نظير له فى العالم كله، وفقط لمصر، تقديرا لدورها الحضارى، وريادتها الإبداعية، ورغبة فى تبادل، وتوثيق العلاقات الثقافية الفنية، بين روما حاضرة أوروبا العريقة والقاهرة حاضرة إفريقيا الكبيرة، وليتمكن المصريون، أصحاب أول حضارة تشكيلية فى هذه الدنيا، من دراسة اللغة الإيطالية وفنون التصوير، والرسم والعمارة والنحت، والاقتراب بحميمية من الثقافة والفنون الإيطالية.
وحين اندلعت الحرب العالمية الثانية توقف المعهد عن أداء دوره، حيث استخدمه المستعمرون البريطانيون، معتقلا للجالية الإيطالية المقيمة فى مصر، أو النازحة إليها هربا من رعب الحرب وشرورها فى أوروبا إلى أمان المحروسة، وكان بالطبع من بين النازحين فنانون إيطاليون كبار، ومدرسون، وباحثون، ومؤرخون للفنون، وكما تفنن الإنجليز فى مطاردة الإيطاليين المقيمين بالقاهرة واعتقالهم فى مبنى المعهد، تفنن المصريون فى حماية الإيطاليين، وتضليل المحتل الإنجليزى «العدو المشترك». وقد دفع العديد من المصريين حياتهم ثمنا لإخفاء صديق إيطالى، أو أسرة إيطالية تسكن فى الجوار، خصوصا فى منطقة بولاق أبو العلا المجاورة، لكن هذا لم يمنعهم من ممارسة هذا الدور، ربما نكاية فى المستعمر الإنجليزى البغيض، وربما لشعور المصريين بهذا التقارب الحميم فى الشكل والطباع، بينهم وبين الإيطاليين سكان الضفة الأخرى من المتوسط بوجوههم الخمرية، وطباعهم الحميمية الحارة، وعواطفهم الجياشة، مقارنة بالبرود والصلف الإنجليزى الشهير.
وبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، ورحلت معها شرورها استعاد المعهد نشاطه العلمى والفنى تحت رعاية القنصلية الإيطالية مباشرة، وبدأ فى تقديم دورات مسائية للراغبين فى دراسة الفنون الجميلة، وقد كان المعهد يحتوى على قسمين رئيسيين هما: الفنون والعمارة، ويمنح الدارسين شهادة معتمدة فى كل قسم على حدة، وقد قام بتخريج نخبة كبيرة من الفنانين والمصورين والمعماريين المصريين، معظمهم أصبحوا رموزا فنية فى مجالاتهم، وكانوا قاعدة مهمة لحوار إيجابى خلاق بين الثقافتين المصرية والإيطالية، خصوصا أن أعدادا غير قليلة من المدرسين والفنانين الإيطاليين رفضوا العودة مجددا إلى أوروبا بعد انتهاء الحرب وفضلوا البقاء فى القاهرة، فقام المعهد بتوظيفهم سواء للتدريس، أم لحفظ وتوثيق الكنوز الفنية من مقتنيات المعهد، وبين المدرسين الإيطاليين والتلاميذ المصريين نشأت صالونات وملتقيات فكرية وإبداعية مهمة، تجاورت وتمازجت من خلالها الحضارتان والثقافتان، مما جعل المعهد يصبح أحد الأرقام الجميلة التى أثرت فى تشكيل الذائقة الفنية الحداثية لقطاعات كبيرة من الشباب المصرى وقتها، خصوصا حين حرص المعهد على تقديم أنشطة ثقافية وفنية متنوعة بجوار دوره العلمى والفنى، مثل عروض للأفلام الإيطالية والحفلات الموسيقية وتنظيم المحاضرات والندوات، والزيارات للأماكن الأثرية والتاريخية فى كل من مصر وإيطاليا، إضافة إلى ترجمة العديد من المراجع والكتب المهمة من الإيطالية إلى العربية، مما فتح نوافذ واسعة على الثقافة الإيطالية والأوروبية والعالمية أمام الشباب المصرى، سواء من رواده، أم خريجيه، وربما لهذا الدور المهم، شعر الكثيرون بالأسى لتوقف معهد ليوناردو دافنشى عن أداء مهمته العلمية الفنية لأسباب متضاربة، لكن هذا التوقف لم يمنع استمرار تأثيره التنويرى من خلال أساتذته وخريجيه من المصريين، وهو ما أكده لى الفنان التشكيلى الرائد محمد الطحان، أحد أبرز خريجى المعهد، حيث تخرج فى دفعته الأولى قسم تصوير وفنون، بعد اعتماد ومعادلة شهادة المعهد بكليات الفنون الجميلة المناظرة له فى مصر، وذلك عام 1971، وأضاف أن سر اختياره الالتحاق بمعهد دافنشى هو عشقه للفن الإيطالى، إضافة إلى تشجيع عمه الفنان الكبير سيد عبدالرسول الذى كان أستاذا بالمعهد، مشيرا إلى أن ما ميز المعهد مقارنة بكليات الفنون الجميلة المصرية هو وجود مدرسين إيطاليين ومناهج شاملة رفيعة المستوى، كانت تفتح أمامنا آفاقا واسعة على الفنون الإيطالية والعالمية، مما منحنا ثقافات تشكيلية كبيرة وواسعة، وقت أن كانت وسائل الاتصال محدودة ، حيث لا يوجد إنترنت ولا غيره، وربما لهذا السبب، كان خريجو المعهد يحصدون كل جوائز الفن التشكيلى فى مختلف فروعه تقريبا، حتى بعيدا عن تخصصهم الأصلى، فمثلا أنا، يواصل الفنان محمد الطحان. حصلت على جوائز كبرى فى الحفر والخزف، برغم أن تخصصى الأصلى التصوير، وذلك يرجع إلى مناهج معهد دافنشى الشاملة، والتى تؤهل بشكل رائع خريجيها على أعلى مستوى، ولهذا كنا، ولا نزال، نشعر بالفخر لأننا خريجو هذا المعهد الراقى.
ويتفق معه الفنان التشكيلى الكبير محمد الشفيعى خليل، وهو من خريجى المعهد دفعة 1975، الذى يوضح أن الطلاب المصريين كانوا يدرسون تخصصات فنية مختلفة داخل المعهد، لا توجد فى الكليات المصرية المناظرة، فمثلا كنا ندرس فنون الديكور والمناظر والملابس المسرحية، والمنظور الهندسى، والزخرفة، والحفر، والتشريح، إضافة إلى مناهج الفنون الجميلة المتخصصة، وهو ما جعل خريجى المعهد متعددى المواهب والثقافات، كما كان المعهد يحظى باهتمام علمى ورسمى كبيرين، إلى حد أن قنصل إيطاليا العام فى مصر، كان يحضر الاختبارات الشفهية بنفسه، ويشارك فى توجيه الأسئلة، وتقييم الطلاب.
ويضيف الفنان محمد الشفيعى، إضافة إلى الدور العلمى، كان المعهد وسيلة لتعميق الروابط الفنية والثقافية والاجتماعية بين المصريين والإيطاليين، سواء على مستوى النخبة من خلال إقامة معارض مشتركة لفنانين مصريين وإيطاليين، فى كلا البلدين، وتنظيم ملتقيات إبداعية وثقافية، لتبادل الآراء والأفكار، وجلب رموز وأساتذة الفن الإيطالى لتنظيم محاضرات وندوات، جعلتنا ملمين بالثقافة والفن الإيطالى منذ عهد النهضة وأسطورته دافنشى، حتى أحدث المعطيات العالمية لحظتها. أيضا لعب المعهد دورا مؤثرا على مستوى العلاقات المجتمعية، سواء عبر خريجيه الذين نقلوا إلى أسرهم ومجتمعاتهم الصغيرة، ما اعتادوا عليه من قيم إيجابية مثل ثقافة العمل الجماعى، واحترام الوقت، وتقديس العمل، والحرص على النظام وحسن الأداء، وغيرها من ثقافات أوروبية إيجابية، أسهم فى تعميق ذلك، تلك العلاقة الأبوية والأسرية التى كانت تجمع الأساتذة الإيطاليين، وتلاميذهم المصريين، حيث كنا نمكث للدراسة بالمعهد من الثامنة صباحا حتى الثامنة مساء، وكان الطلاب المصريون حريصين على إحضار صوانى الطعام من منازلهم ومشاركة المدرسين الإيطاليين فى تناولها، خصوصا الأطباق المصرية الشهيرة التى كان يعشقها الإيطاليون مثل الكشرى والفلافل والمحشى وغيرها، وقد أثمر هذا التقارب الإنسانى علاقات فنية وثقافية واجتماعية صحية ومؤثرة وإيجابية، أسهمت ضمن ما أسهمت فى عشق المصريين للفنون والثقافة الإيطالية من ناحية، وزيادة الاهتمام والحرص على التواصل مع الإبداع الفنى والثقافى المصرى الحديث من جانب الإيطاليين من ناحية أخرى، لهذا أنا تألمت كثيرا لتوقف معهد ليوناردو دافنشى عن آداء رسالته فى تقوية العلاقات المصرية - الإيطالية، فضلا عن أننا فقدنا قيمة فنية وعلمية رفيعة المستوى، ولم تتمكن أى كلية فنية مصرية حتى الآن من سد الفراغ الفنى والعلمى الذى تركه المعهد.
ويدعو محمد الشفيعى، ونحن معه بالطبع المسئولين فى كل من مصر وإيطاليا إلى إزالة العراقيل التى تمنع إعادة المعهد لممارسة دوره الفنى والعلمى والحضارى مجددا، باعتباره بشارة إيطاليا الفنية التى احتضنتها مصر بحب واحترام يليق بصداقة الشعبين والتاريخ الحضارى العريق للبلدين «مصر وإيطاليا».