حوار – أحمد سراج بين حقول ثلاثة يتحرك عمار علي حسن؛ فمن الباحث السياسي إلى الصحفي إلى الخبير في الجماعات الصوفية.. ومما يميز هذا التحرك أنه تحرك من مرتكز واضح؛ المثقف العضوي الطليعي الذي لا يفتأ يواجه أي سلطة طاغية، لكن ما يميز عمار هو استفادته من هذه الحقول واستخلاص ما فيها في أثناء صياغته لأعماله السردية.. ومنها روايته "جبل الطير" التي يظهر فيها التنوع المعرفي والقدرة على "سبك ما لا يأتلف" فليست القضية رحلة رجل من الجهل إلى العرفان، وليست ذلك الصراع الدائر بين معتنقي الأفكار المختلفة، وليست تلك المشكلات التي تواجه المجتمع يوميًّا.. وتجعله قنبلة نزع فتيلها.. إنها الفن حين يختط من الجماليات طريقًا مملوءًا بالمعرفة والإقناع والمتعة. هنا حوار مع "د. عمار علي حسن" فإلى التفاصيل. تسير روايتك "جبل الطير" في طريق لطالما نأت عنه الروايات والدراما: الاعتراف بالخوارق.. والسكوت عنها.. فما دافعك إلى ذلك؟ أحاول أن أفجر طاقة مكبوتة في تاريخنا الحكائي، كانت قوية عفية في القرون الغابرة، ثم ران عليها غبار كثيف حتى صار طبقة سميكة من تراب، فلم نعد نراها، إن الغرائبية والعجائبية أو حتى الواقعية السحرية هي مسار أصيل في الحكي المصري والعربي القديم، وآن لنا أن نستعيد هذا الدرب، الذي سلكه أدباء أمريكا اللاتينية، مستفيدين مما أهملناه نحن، علاوة على هذا فإن معرفتي وانشغالي الصوفي يقربانني من أن ألمس ما يتردد عن هذه الخوارق، وما يثار حولها من حكايات بعضها يقفز إلى حد الأساطير مكتملة الأركان. اعتمدت في بناء الرواية على خمسة أقسام.. فإلى أي حد تأثر بناء الرواية عموما بالكتب المقدسة وبالتراث الإنساني؟ الأقسام الخمسة في روايتي ليس فيها تقليد لأي أسفار أو أقسام في الكتب المقدسة، هذا لم يدر بخلدي، لكنها الضرورة الفنية والمضمونية التي ترتبط بالطبقات الحضارية والثقافية لتاريخ مصر الاجتماعي، الفرعونية والمسيحية والإسلامية والراهنة والآتية، من جهة، والأماكن التي تنقل فيها بطل الرواية، فهي خمسة أماكن متتابعة. قطاع عريض من القراء ينظرون بريبة تصل حد الاتهام إلى التصوف.. فلم أقدمت على هذه المغامرة؟ أنا على النقيض من هؤلاء، إذ أرى أن التصوف، سواء بمعانيه الدينية أو الفلسفية أو الإشراقية أو تجلياته الاجتماعية متمثلة في الطرق الصوفية، علاوة على تراثه اللغوي الثري وقيمه العميقة ورؤيته الرحبة للعالم، يعد مصدر إلهام مهماً للأدب، شعرا ونثرا، وهناك كثيرون يتقفون مع هذا الرأي. الرواية الضخمة.. أو بتعبير أحد النقاد الكبار "عمار عاوز صحة علشان تقراه" ألا ترى الحجم عبئا؟ لم أقصد كتابة رواية طويلة حين شرعت في "جبل الطير"، لكن قانون تداعي الأحداث والمعاني، وتعدد الأمكنة وامتداد زمن الرواية لآلاف السنين من خلال ترحال بطلها في القرون الغابرة وصولا إلى أيامنا، جعل الرواية تتسع أمام قلمي، وأنا ألهث وراء بطلها الجموح، وأمعن النظر في مراجع وكتب تخص مختلف الحقب التاريخية والطبقات الحضارية المصرية حتى يكون بوسعي تدقيق سياقات الرواية، من حيث صور البيئة وطبائع الناس ونوع الأزياء وشكل الطقوس ومضمونها والأساطير الشعبية المتداولة والرموز الدينية المعروفة والراسخة. أعتقد أن كل رواية تختار لغتها وبناءها أو شكلها وكذلك حجمها، والعبرة في النهاية بما إذا كانت الرواية مُحكمة من عدمه، فإذا كان من الممكن حذف أجزاء من الرواية دون إخلال بمضمونها وسير أحداثها فهذا معناه أن الطول غير مبرر، وأن الكاتب قد أشبع سرده حتى صار متورما، أما إذا كان أي حذف يخل بالمعنى وسير الوقائع الروائية، فهذا معناه أن الكاتب معذور في إطالته، أو أن هذه الإطالة مبررة، لأن المعالجة الفنية والمضمونية فرضت هذا عليه. كما أن القارئ يمكن أن يجد صعوبة في قراءة رواية قصيرة الحجم لكنها معقدة أو غير مترابطة أو لا يشعر بالمتعة وهو يطالعها، وقد تتيسر أمامه القراءة، رغم طول الرواية، إن كانت جيدة من الناحية الفنية، وجذابة وممتعة. كأن جبل الطير حي يتجدد.. والأشخاص على مدى التاريخ صور لمعركة بين الحقيقة والشريعة والمصالح.. كيف نخرج من هذه الدائرة الجهنمية؛ الاستبداد والإقصاء وحروب المختلفين؟ لا خروج منها إلا بإصلاح ديني يقوم على خمسة شروط: الإيمان مسألة فردية فلا وسيط بين العبد وربه، والعقل يكمل مسيرة الوحي، والوعي الأخلاقي، والتمييز التام بين الدين والسلطة السياسية، والإصلاح الاجتماعي. علاوة على هذا نحتاج إلى تعزيز الوعي بالمستقبل والانشغال به وليس الانشغال بالماضي، ونحتاج أيضا إلى التفرقة بين الدين والتاريخ الاجتماعي والمعرفي لأتباعه. "مشقة المعرفة" كيف تتحملها.. وكيف تجنبها للقارئ؟ أي رواية بلا رؤية تفتقر إلى العمق، حتى لو كان تعميقا في الفن وتجديدا في الشكل، وهناك فارق بين المعرفة وبين المعلوماتية، والتحدي هو كيف نقوم بتذويب الرؤى والمعلومات في ثنايا النص، سواء في الوصف والسرد أو في الحوار بين الشخصيات، تذوب فلا ترى، ولا نشعر بثقلها. والمسألة تختلف من رواية إلى رواية، فهناك روايات كثيرة لى ليست فيها هذه الناحية، بينما في روايات أخرى توجد، لكنها لا تمثل نتوءات أو زوائد، إنما تدخل في باب الضرورات أحيانا. يبدو أن هناك تبادلا للخبرات بين تخصصك الأكاديمي وعملك الصحفي وثقافتك وإبداعك.. انعكس ذلك على أبحاثك ومقالاتك وسردك..وهي نتيجة قد لا يصل إليها الكثيرون.. فما الوصفة السحرية التي هيأت لك ذلك؟ أنا أفرق بين هذه العوالم في الأساليب، فالكتابة البحثية يعلو فيها البرهان، وفي الكتابة الأديبة يعلو البيان، وكتاباتي الصحفية تبدو خليطا وإن كانت بأسلوب مختلف يناسب قارئ الجريدة. والوصفة السحرية التي دربت نفسي عليها منذ زمن هي ما أسميها "نظرية الراديو"، ففيه محطات عديدة، تبث أخبارا وأعمالا درامية وحوارات وبرامج متنوعة. إن ظروف حياتي جعلتني أتنقل بين هذه المحطات، وأسعى إلى أن أعطي كل محطة حقها من الإجادة، فالعمل يدفعك في اتجاه، والرغبة في اتجاه، والموهبة في اتجاه، وحتى لا يقتلني الاغتراب أوظف كل هذا في خدمة مسار، جزء منه عابر للأنواع. والعبرة كما قلت هي في حكم الناس على قيمة ما تقدمه هنا وهناك، والمردود حتى الآن يرضيني، وأسعى للمزيد. في كتاب "عشت ما جرى" اصطدمت بقوة مع أنظمة ما بعد يناير.. وفي التنشئة السياسية ثار صوفيون كثر.. وفي رواياتك التحمت في معركة مباشرة ضد التطرف والفساد.. دعك من خشية المواجهة أو جدواها.. ما دوافعك التي وصلت بك رفض وزارة الشباب؟ رفضت وزارة الشباب، ومن بعدها الثقافة، كما أنني رفضت مناصب أخرى في رئاسة مؤسسات مهمة، ليس تهربا من تحمل المسئولية، كما يحلو للمتعجلين أن يقولوا، إنما أشعر أن مسئوليتي الرئيسية هي في إيقاظ الوعي، والمساهمة في المواجهة الفكرية ضد التطرف والإرهاب، والمناصب ستقيدني، كما أنني كنت أستشعر أن المسار لن يمضي في الطريق الذي كنت أحلم به وقت انخراطي في المعارضة ضد نظام مبارك، ومن بعده مواجهة الإخوان، وهو ما جرى فعلا. لاحظت أنك تفرض على نفسك أن تكتب عن إبداعات الأدباء.. كأنه واجب مقدس.. فلم تفعل هذا؟ طبعا، من الضروري أن أتابع أعمال غيري، ولا أكتفي بقراءتها، إنما بالكتابة عنها بروح "مُحبة"فأنا أستفيد من كل نص قرأته، وأكون ممتنا حين أرد الجميل لصاحبه بالكتابة عنه. أين تكمن أزمة الثقافة المصرية؟ المشكلة أن لدينا مثقفين لكن ليست لدينا ثقافة، إنها حالة أشبه بديمقراطيين بلا ديمقراطية، والوزارة تحولت إلى وزارة للمثقفين، تتعامل معهم كأنهم زبائن في متجر كبير، دون إنتاج معرفي ينحاز إلى الناس والمستقبل والحقيقة، فالنزعة إلى النقد من أجل التغيير إلى الأفضل، وترجمة أشواق الناس إلى الحرية والكرامة والعدالة، والنظر إلى الأمام بوعي وفهم وإرادة، هو ما ينقصنا، فإن امتلكنا هذا، نكون قد وضعنا يدنا على مشروع ثقافي ينهض بأحوالنا. كيف ترى أثر قنوات التواصل الاجتماعي في العالم العربي؟ قد تكون هي تكنولوجيا للتحرر، لكن يمكن للأنظمة أن تستغلها من أجل تعزيز قبضتها على كل شيء، فهي فضاء مفتوح أمام الثائر من أجل الحرية، والخائف منها، والراغب في تبرير الاستبداد والفساد والمستفيد منهما. إلى أي مدى ترى أن هذه العبارة صادقة: يشهد الأدب المصري تطورًا كبيرًا بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير؟ الثورة سرت سريعا في شرايين الإبداع الشعري والنثري فوجدنا قصائد وقصصا وروايات ومسرحيات وشهادات وأعمالا فكرية وبحثية، لكن فعل الثورة الأكبر سيأتي فيما بعد، إن الأدب يختزنه الآن، وسيجود به، ليس بالضرورة بطريقة مباشرة، إنما ستؤثر في مستواه وشكله وموضوعاته طيلة السنوات المقبلة. كيف يمكن تفسير تنامي قدرات المتطرفين واتساع نفوذهم؟ لأننا طيلة الوقت نواجه المتطرفين ولا نواجه التطرف، ونقاوم الإرهابيين ولا نقاوم الإرهاب. كما أن العوامل التي تغذي التطرف لا تزال سارية، منها تأخر التغيير السياسي، وعدم القيام بالإصلاح الديني، وحاجة بعض الأنظمة الحاكمة إلى التنظيمات الدينية كي تؤدي لها خدمات تعينها على البقاء في السلطة، وضعف البديل المدني، وتعويل أطراف في الخارج على هذه الجماعات في خدمة مصالحها، وتردي التعليم، وقسوة الظروف الاجتماعية والاقتصادية. هل يرتبط الإسلام السياسي بالعنف لدرجة أن يرى الناس العنف مكونا رئيسيا له؟ هناك حمولات فكرية وفقهية لدى هذا التيار تدفع إلى العنف وتبرره، علاوة على ظروف موضوعية تجعله قادرا على تسويق عنفه هذا لدى بعض الأوساط الاجتماعية. حين تُراجع ما جرى.. ما الذي قادنا إلى هذا؟ المشكلة الرئيسية التى واجهتنا، ومن دون مواربة، هى أن الثورة السياسية سبقت فى بلدنا الثورة الفكرية التىهى مقدمة لازمة للإصلاح الدينى، فبعدهما يصير الأمر سهلا، حين تتذلل كل العقبات التى يصنعها الجهلاء والمغرضون والقابلون لتزييف الوعى والإرادة أمام الذين يطالبون بعقد اجتماعى جديد بين الناس والسلطان. ومنذ البداية كان أمام السلطة التي تنازل لها مبارك طريقان للحفاظ على الدولة، الأقصر هو الانتصار لمطالب الثورة، والأطول هو تصفيتها بمساعدة الإخوان، فاختارت الطريق الثانى، وسنظل ندفع ثمن هذا الاختيار، الذى لا تزال آثاره سارية حتى اللحظة الراهنة. وإذا أردنا أن نعبر الأزمة التى نمر بها علينا أن نعود لنسلك الطريق القصير ففيه السلامة.