انتشرت الفكرة فى ذهنه وقلبه كما تتشظى حبات لوح زجاج رقيق أُلقى به من علٍ على أرض صخرية. كان يشعر بأصدائها فى كل ناحية من نفسه؛ أصداءٍ بارزة، ناتئة ليس له أن يتحداها، عليه فقط - إذا كان يملك القدرة على ذلك - أن يُفلت منها، أن يمرر قدميه الحافيتين بين مئات قطع الزجاج المستعدة لإسالة دمه فى كل نقلة قدم..أحسّ بدمه يصخب فى عروقه كماء حنفية الشارع الذى تطل عليه شرفته، يهدر مثلما تهدر منذ أفسدها صبية الحى..قفز برشاقة لم يعهدها فى جسده من قبل، فى ثوان كان قد غادر مقعده الخشبى ليقف لصق فتحة الشيش الموارَب على الشارع. أطلّ بحدة من خلال الشباك، هدأ عندما رأى القطة الصغيرة تمرح فى المياه، تبرد جسدها الضعيف من ثورة الحر التى أصابت المدينة هذه الأيام. تمنى لو يشاركها اللعب هناك، ويترك للحنفية أن تمتص من دمه تلك الحرارة التى تكاد تخنقه. دفع ضلفتى الشيش بسرعة، فاصطفقت كل واحدة فى جدار الحائط المثبتة إليه وارتدت، تراجع برأسه إلى الخلف فى محاولة فاشلة لتفادى ضربتين. ارتج رأسه بهواء الغرفة الذى جف من شدة الحرارة والصمت، ارتد بأنفه ليصطدم بإطار النافذة المغلق الذى تناثر زجاجه على أرض الغرفة المرسومة بالأبيض والأسود كمربعات الشطرنج، شظايا مختلطةً بدم. بهدوء، عاد إلى مقعده الذى كان قد تحرك عن مكانه مسافة ليست بالقصيرة، عندما غادره فى وثبة قط انطلق صوب فريسة، لم يفلح فى تصويب جلسته، أدرك نفسه قبيل السقوط؛ فقذف بنهاية مؤخرته إلى الحافة الصغيرة، أصدر المقعد صريراً وهو يستقبل صاحبه فاقدَ السيطرة، بدا له كالصوت الذى يصدره سرير جارته كل ليلة منذ أن تزوجت. لكنتُ قلت إن صوت الكرسى يشبه صوتَ أنيني، لولا أننى سمعت الصوت نفسه من غرفتكما ليلة العرس، وفى كل ليلة تلتها. حضر عرسها وسط جماعات رجال التقى بهم للمرة الأولى فى «صوان» الفرح. بعد طول تمنع، شاركهم احتساء البيرة وجذب أنفاس الحشيش، تبادل معهم الدعابات القذرة حولها وحول البغل، عريسها. مدفوعاً بالنشوة، صعد إلى الكوشة ليهنئها، قبّل البغل من وجنتيه وشدّ على كفيه بحرارة، احتضنه وقرّب فمه من أذنه، متجاوزاً نفوره من رائحة عرقه النفاذة، تمتم متمنياً له التوفيق. بدت له -وقتها - مثل تلك الأسماك التى تعلق فى سنارته عندما يذهب للصيد، قتلاً لوقت لم يعد يملك أكثر منه منذ أن كسدت السياحة، وفقد مصدر رزقه الصغير فى بازار الحاج رشيد. بعينيها المرسومتين بالكحلة، ووجنتيها الملونتين بالأحمر، والعرق الذى أسال خليطَ الألوان على جبينها ورقبتها، كان فمها أقرَب إلى فم البلطية الكبيرة الحمراء الضاربة إلى الخضرة، قبل أن تقضم خيط سنارته لتسقط فى الماء، وقد أوشك أن يلتقطها ليضعها فى السلة الخوص الراقدة على مقربة منه، تطل من حوافها ورقات الخس الخضراء، تحفظ للسمك رطوبته إلى أن ينتهى من الصيد. التفت ليهنئها، ردد عدداً من كلمات التحية خرجت من بين شفتيه وكأنه يتفلها. احتار من تلك النظرة الساكنة فى عينيها، كانت نظرةً ميتة إلى حد مخيف، أو حية إلى حد مرعب. شعر بكثافة دخان الجوزة الممزوج بالحشيش الرخيص فى حلقه وحنكه، وعندما فتح فمه ليتخلص من تلك اللزوجة، ارتج بداخله ضحكٌ خشى أن ينفلت؛ فاستعجل النزول من على الكوشة ليتفل فى أقرب مكان صادفه، ويوارى تفلته اللزجةَ الصفراء فى التراب بطرف حذائه الأسود القديم. ما إن لمحه رفاق الجوزة حتى ارتفع صياحهم، لقد منحهم اليوم روحاً جديدة. جذبه أقصرهم من حزامه وسحبه إليه ليجلس، وأعلن كالمنتصر: منذ أكثر من خمس عشرة سنة ما ورد علينا زبون مثلك. ارتج الرفاق بالضحك، كان كل واحد منهم يعتبره ضيفه الخصوصي، ويرى أنه المسئول عن مهمة تعبئة دماغ الوارد الجديد. انشغلوا به عن العرس والعروس والعريس والكوشة، لم تفرغ يده من زجاجة بيرة، ولم يخل أنفه من نفثة حشيش. أعاد أقصرُهم جذبه وأفرغ فضوله القاتل فى سؤال: ما الذى تمتمت به فى أذن البغل جعلك ترتجف من شدة الضحك هكذا؟ وكأنما ضغط القصير على زناد الضحك عند يوسف، انفرط فى قهقهة هستيرية، كان بالكاد يلتقط أنفاسه فيرمى بالكلمات رمياً، ولأنهم كانوا فى ذروة اليقظة التى يصنعها الحشيش فى أصحابه، فقد نجحوا فى استيعاب كل كلمة تفوّه بها وسط سيل الضحكات الهادر، فزادتهم الكلمات ضحكاً، لم ينتظر يوسف ليواصل رمى كلماته: كانت أسنان البغل تلمع بصورة زائدة. فكرت - وأنا أشد على يديه وأهمس له شد حيلك - أن أسأله بم طليت أسنانك! ولكننى خفت، فحشيشتكم الملعونة، وتلك البيرة أطلقا عنان خيالاتي، وخشيت أتمكن من السيطرة على ضحكى المكتوم. تعالت الضحكات، ودارت معها الأنفاس، ولكن يوسف تشبث بسيجارته ولم يقبل تمريرها، فازداد الرفاق إمعاناً فى الضحك، وحرصوا على عدم مضايقته، يعرفون بخبرتهم أن هذا الزبون هو نجم الجلسة، فإذا كانت الليلة هى دخلة منصور على عروسه، فهى كذلك ليلة دخلة النشوة على خيال يوسف البكر، ولا شك فى أن خيال هذا الأفندى ابن الناس، لن يصمد أمام سطوة عريس الغفلة هذا وهو يدك حصونه ويستخرج من مكنوناته ما يهتز له الحجر طرباً، فلا بأس إذن من هز الجزع طمعاً فى الرطب، قال قصيرهم المكير: لابد وأن لك خيالاً فاجراً يا رجل، أضحكنا معك. انطلقت عقدة لسان يوسف، ترنح قابضاً زجاجة البيرة بيد، والسيجارة بيده الأخرى، وراح يضبط إيقاع كلماته على قدر انفعالات الوجوه التى تراقبه: تصورت البغل، وقد انفرط كرشه أمامه بعد أن فك رباط حزامه، رأيت أمل وقد تراجعت فزعاً أمام كتلة اللحم النافرة التى كانت مستترة قبل دقائق فى بدلة العرس الفاخرة، تخيلوا ملامح وجهها وقد كساها تساؤل ضخم عن الكيفية التى سوف يجتازان بها هذا العائق الكبير! انهار الجميع فى ضحك هستيرى دفعت حدَّتُه قصيرَهم إلى التلصص حوله خوفاً، ولما اطمأن إلى أن جلستهم فى نهاية «الصوان» تمنحهم الأمان، قال مستملحاً رطب يوسف: احمد ربك يا أفندى، لولا انشغال المعازيم فى مراقبة كتل تلك الراقصة التى تتلوى على ضجيج العازفين، لما مرت ليلتُك على خير. نهر الجميعُ القصيرَ، مدفوعين بقلقهم من أن يثير كلامُه خوف الزبون فيفسد عليهم الجلسة، واستدرك أحدهم الموقف مانحاً يوسف المزيد من أسباب الضحك، وما كان بحاجتها: لكن، كيف لهذا الخرتيت أن يقتنص تلك الغزالة؟ تألم يوسف للوصف، لكنه شعر كأنّ من تألم شخص آخر، شخص يختبئ خلف جلده ويرتدى ثيابه نفسها، لكنه فى تلك اللحظة بعيد بما يسمح له بأن يسبه ويركله ويركض، ففعل: رأيت الخرتيت الضخم يهجم -نافد الصبر- بكامل ثقله، فتغيب الغزالة بين كتل اللحم .. لكن كيف بربك تحتمل هذه العروس الرقيقة هذا البغل الكبير؟ طعنه بها القصير أيضاً، لكنه كان قد فقد السيطرة تماماً، سواء على نفسه أم على المختبئ خلف جلده هناك. ارتمى على الأرض وراح يلوح بساقيه فى الهواء ناقلاً عدوى الضحك إلى الرجال الذين كادت أنفاسهم تتوقف، وعندما استعاد السيطرة على نفسه، خرجت كلماته من بين شفتيه كأنها فئران تنجو بنفسها من سفينة تغرق: لابد وأنها بين كل ثلاث هزات لحمية سوف تمد طرف أنفها من أى ثقب يتوفر لتستنشق الهواء قفز القصير محاولاً السيطرة على ضحكات تقطعت بها أنفاسه كأنها فراش يتطاير، صرخ وقد بلغ به الطرب مبلغاً لم يحلم يوماً ببلوغه: ولماذا ثلاث هزات.. كن كريمًا يا رجل .. اجعلها خمسة تحامل يوسف على نفسه، شعر بأنه يبذل جهداً خارقاً فقط لكى يحدد من يكلمه، وما إن ظن أنه حدد شخصه، حتى بادله الصراخ بصراخ ارتجت له طبلتا أذنه شخصياً، وهو يركز عينيه على طرف سبابته التى راحت تشير فى الهواء: نظرية الثلاثة بواحد. وما تلك النظرية البديعة! لم يأبه من أى فم صدر السؤال، فقد كان يستجمع طاقته كلها ليشرح لهم نظرية صديقه العظيمة التى سكنت عقله منذ أن سمعها فى بداية مراهقته: حدثنى إياد، صاحب الخبرة الطويلة فى النساء بأن ثلاث طعنات سريعات متلاحقات تعقبها سكتة قصيرة، فطعنة راسخة، قادرة على إذابة أعتى النساء وأكثرهن ثباتاً. دُم دُم دُم، تك... امتلأت أذناه بإيقاع الطعنات، دُم دُم دُم.. تك، هز جسده عدة مرات يميناً ويساراً مستعيداً الصوت الذى أصدره المقعد، لم يطاوعه العنيد، انطلقت منه نغمات كثيرة شاذة، لم توافق إحداها رغبةَ العازف. ** اشتدت رغبته فى استعادة ذلك الصوت، راح يدفع بخصره ومنتصف جسده الأسفل، إلى الأمام وإلى الخلف، راقصاً بمؤخرته فى كل الزوايا علَّه يصادف الزاوية التى جادت به. اندفعت الدماء فى عروقه من الغيظ والكبت مثل جراء صغيرة فقدت أمها وانطلقت صوب رائحتها القادمة إليها من بعيد قبل أن تراها. ازدادت حرارة الغرفة، وحلَّ صمت مريب، أرهفت الجدران والسرير والأشياء كلها السمع لهذا الدافق فى عروق راقص المقعد. فى الثوانى الأخيرة، وقد بدا أن روحَ الخشب قد استيقظت للنداء، انهار المقعد مصدراً الصوت الأخير فى سجل تاريخه الحافل، وانتثر دافعُه المستميتُ على بلاط الغرفة الشطرنجي، بيدقاً ضحت به الملكة.