محافظ الدقهلية يقرر تخفيض درجات القبول بالثانوي العام إلى 235 درجة    قرار جمهوري.. ماجد إسماعيل رئيسًا تنفيذيًا لوكالة الفضاء بدرجة وزير    سعر الريال القطرى اليوم الثلاثاء 19 أغسطس 2025 فى البنوك الرئيسية    النقل تختتم تدريب الدفعة الأولى من السائقين: فرص عمل للمتميزين    محافظ الجيزة يجازي مسؤولين بحي الهرم لتقاعسهم عن إزالة مخالفات بناء    وزير الري: تطوير مؤسسي ومنظومة إلكترونية لتراخيص الشواطئ    ارتفاع جماعي لمؤشرات البورصة بمستهل تعاملات اليوم    "الأوقاف": مؤسسات العالم في اختبار حقيقي لإدخال المساعدات لغزة    وزيرة التخطيط والتعاون تتحدث عن تطورات الاقتصاد المصري في مؤتمر طوكيو الدولي للتنمية    ريبيرو في اختبار مبكر.. الأهلي يبدأ الموسم بنزيف غيابات    فانتازي يلا كورة.. ارتفاع سعر كريس وود    حسن عابد مديرا لبطولة أفريقيا ل شباب الطائرة    "قصص متفوتكش".. 3 معلومات عن اتفاق رونالدو وجورجينا.. وإمام عاشور يظهر مع نجله    بعد لدغ طالبة قنا.. برلماني: طهروا المدارس من الزواحف والعقارب    أخبار الطقس.. 4 ظواهر جوية تضرب المحافظات خلال ساعات    قرار جديد من وزارة الداخلية بشأن إنشاء مركز إصلاح (نص كامل)    تموين المنيا تواصل حملاتها المكثفة وتضبط 318 مخالفة متنوعة    ضبط 433 قضية مخدرات فى حملات أمنية خلال 24 ساعة    ضبط 108780 مخالفة مرورية متنوعة خلال 24 ساعة    "بدلة أنيقة".. دينا الشربيني تتألق في أحدث ظهور (صورة)    أوس أوس ضيف برنامج فضفضت أوى على watch it غداً الأربعاء    " ارحموا من في الأرض" هل هذا القول يشمل كل المخلوقات.. أستاذ بالأزهر يوضح    واعظة بالأزهر: الحسد يأكل الحسنات مثل النار    نائبة وزير الصحة ووفد "يونيسف" يتفقدون منشآت صحية بشمال سيناء    53 مليون خدمة.. ماذا قدمت حملة "100 يوم صحة" خلال 34 يومًا؟    هل يمكن أن تسبب المشروبات الساخنة السرطان؟.. اعرف الحقيقة    جولة للجنة التفتيش الأمنى والبيئى بمطارى مرسى علم والغردقة الدوليين    80 قطارًا.. مواعيد انطلاق الرحلات من محطة سكك حديد بنها إلى المحافظات الثلاثاء 19 أغسطس    خلاف علي 50 جنيها.. تفاصيل مقتل ترزى علي يد صاحب محل بالوراق    وظائف وزارة الأوقاف 2025| تعرف على الشروط وطريقة التقديم    إلغاء إجازة اليوم الوطني السعودي ال95 للقطاعين العام والخاص حقيقة أم شائعة؟    «ضربة قوية».. الأهلي يعلن نتيجة الأشعة التي أجراها ياسين مرعي    «التأمين الشامل».. تشغيل عيادة علاج طبيعي للأطفال بمركز طب أسرة العوامية بالأقصر    كونتكت المالية تحقق نتائج قوية خلال النصف الأول من 2025    5 قرارات جمهورية مهمة وتكليفات حاسمة من السيسي لمحافظ البنك المركزي    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 19-8-2025 في محافظة قنا    وزيرا الإسكان والسياحة ومحافظ الجيزة يتابعون مخطط تطوير منطقة مطار سفنكس وهرم سقارة    رئيس الوزراء يلتقى وزير الدولة للاقتصاد والتجارة والصناعة الياباني    وزيرة التنمية المحلية: الانتهاء من التأثيث النمطي ل332 مجمع خدمات حكومية    الأهلي يواصل استعداداته لمواجهة غزل المحلة    وزير الخارجية يعرب لنظيره الهولندي عن الاستياء البالغ من حادث الاعتداء على مبنى السفارة المصرية    السبت.. عزاء الدكتور يحيى عزمي عقب صلاة المغرب في مسجد الشرطة ب6 أكتوبر    عماد أبوغازي: هناك حاجة ماسة لتغيير مناهج التاريخ فى الجامعات    سقوط 21 شهيدا بنيران جيش الاحتلال في عدة مناطق بقطاع غزة منذ فجر اليوم    وزير الخارجية الألماني يطالب بوتين بالموافقة على وقف إطلاق النار    ياسمين صبري ناعية تيمور تيمور: «صبر أهله وأحبابه»    رئيس وزراء السودان يطالب الأمم المتحدة بفتح ممرات إنسانية في الفاشر    أبرز تصريحات لقاء الرئيس السيسي مع الشيخ ناصر والشيخ خالد آل خليفة    رسميًا.. 24 توجيهًا عاجلًا من التعليم لضبط المدارس قبل انطلاق العام الدراسي الجديد 20252026    «عارف حسام حسن بيفكر في إيه».. عصام الحضري يكشف اسم حارس منتخب مصر بأمم أفريقيا    رابط نتيجة تقليل الاغتراب 2025 بعد انتهاء تسجيل رغبات طلاب الثانوية العامة 2025 للمرحلتين الأولي والثانية    فرصة لطلاب المرحلة الثالثة.. تعرف الجامعات والمعاهد في معرض أخبار اليوم التعليمي    هناك الكثير من المهام والأمور في بالك.. حظ برج العقرب اليوم 19 أغسطس    «زي النهارده».. وفاة الكاتب محفوظ عبد الرحمن 19 أغسطس 2017    جمال الدين: نستهدف توطين صناعة السيارات في غرب بورسعيد    حقيقة إصابة أشرف داري في مران الأهلي وموقف ياسين مرعي من مباراة غزل المحلة    ما علاج الفتور في العبادة؟.. أمين الفتوى يجيب    هل يجوز قضاء الصيام عن الميت؟.. أمين الفتوى يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجماعات المتشددة.. من السراديب إلى العنف السياسى.. القوة هى وسيلة التغيير لدى سيد قطب وكل من سار على نهجه
نشر في الأهرام العربي يوم 19 - 04 - 2015


حازم محفوظ
لعل من اللافت للنظر ظهور عدد من الجماعات المتشددة بصورة مؤثرة عربياً وإقليمياً وعالمياً، وقد حاولت هذه الجماعات الانخراط فى العمل السياسى بشكل مباشر أو غير مباشر، واستخدمت آليات وأساليب ونظم للدخول فى مواجهات مع المجتمع تارة، ومع السلطة السياسية تارة أخرى، وقد تعددت وتنوعت هذه الجماعات بحيث شكلت ظاهرة لها وجود فاعل، ولا يمكن اعتبارها مجرد ظاهرة عارضة لدى عدد محدود من الأفراد أو الجماعات.
قد تبنت هذه الجماعات عدداً من المفاهيم التي تعود مصادرها وأصولها إلى بعض المفكرين المحدثين مثل أبو الأعلى المودودي وسيد قطب وأبو الحسن الندوي، وبين الأقدمين عند الخوارج بفرقهم المتعددة (الأزارقة، النجدات، اليزيدية، والأباضية... إلخ)، كما توجد هذه المفاهيم في مجموعة متفرقة من الكتابات أهمها اجتهادات شكري مصطفى التي جمعها تحت اسم (توسمات)، وفى كتاب (الفريضة الغائبة) لمحمد عبد السلام فرج، وفى كتاب الخلافة المنسوب إلى جماعة التكفير والهجرة.
وفى البداية يجب التأكيد على أن ظاهرة التشدد الديني سواء أكان ذلك على مستوى الأقوال أم على مستوى الأفعال، ليس ظاهرة جديدة ولا طارئة على المجتمعات بشكل عام، ولا يمكن نسبتها إلى عقيدة أو دين بعينه؛ فهي ظاهرة تعرفها الأديان جميعاً، إذ أن كل الأديان السماوية وغير السماوية لها أتباع يتسم بعضهم بالتشدد، حيث ينطلق التشدد أحياناً من أجل نشر الفكرة والدعوة إليها، أي الخروج إلى المجتمع والدعوة إلى حركة اجتماعية ذات أهداف تتفق مع هذه النظرة المتشددة.
ومن هذا المنطلق تتداخل ظاهرة التشدد القائمة على الدين أو العقيدة أو الفلسفة، والأواصر الرابطة بينهم هى إخراج الأفكار من محيط الجماعة إلى أفق المجتمع من أجل تغييره وفقاً لرؤيتهم الخاصة.
وإذا كانت الدراسات السابقة قد ركزت على أن ظهور هذه الجماعات مرتبط بضعف المجتمع، فمن الواضح أن هذه الوجهة من النظر خاطئة، فقد باتت الجماعات المتشددة تظهر حتى فى أكثر الدول تقدماً. والسؤال هو: من أين يستمد التشدد مدده؟ أو بمعنى آخر ما الأصول الفكرية لظاهرة التشدد والتطرف فى مجتمعنا؟ وما المنهج الواجب التعامل به معها؟
فى الواقع، إن أحد أهم العوامل والأسباب لظاهرة التشدد والتطرف يأتي مستنداً على التنظيرات الفكرية الأصولية التى قدمها تيار الإسلام السياسي، وعلى رأسها مؤسسو جماعة الإخوان المسلمين التى جعلت الأرض صالحة لنمو التعصب وازدهاره، ومنها انبثقت التيارات التكفيرية المعاصرة، ولعل من أهم التنظيرات الفكرية تلك التي قدمها سيد قطب.
فإذا كان "حسن البنا" هو المؤسس لهذه الجماعة، فإن "سيد قطب" هو منظرها الأول، ويعتبر امتداداً لفكر البنا، فهما ينتميان إلى حقل معرفى متشابه، يكون الوحى دلالاته وتعاليمه، وإلى إطار سياسى واحد هو تنظيم الإخوان المسلمين، إلا أنهما يفترقان فى أمور كثيرة على مستوى النظرية والممارسة. فالبنا بقى داعية ومرشداً، ونادى بأممية إسلامية، أما سيد قطب، فقد اتصف بأنه منظر وأيديولوجى، فطغى على منطقه أسلوب القياس الجدلى، واتجه إلى العقول يحلل ويقارن ويفاضل، وصار مع الوقت منظر للحركات الإسلامية الأصولية.
وتنطلق أصولية سيد قطب من حاجة ملحة إلى المنهج، ولكن تبرز صعوبات كبيرة لديه، فالمنهج ليس أداة المعرفة أو الطريق لبلوغ الحقيقة، وإنما هو معطى قبلى.
والمنهج مرتكز حياة الأمة المسلمة وله ركنان: الإيمان بالله ورسوله والعمل بسنة النبى محمد، فالقاعدة، إذن "شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله"، فالإسلام "ليس نظرية تتعامل مع الفروض، إنه منهج يتعامل مع الواقع، فلابد أولاً أن يقوم المجتمع المسلم الذي يقر عقيدة: أن لا اله إلا الله، وأن الحاكمية ليست إلا لله". فهذه العبارة القصيرة يعبر فيها سيد قطب عن رؤيته للمجتمع من خلال مفهوم الحاكمية.
ويترتب على هذا المفهوم موقف سيد قطب من النظام السياسى ومن المجتمع، فهو يدعو لتغيير المجتمع جذرياً حتى تكون الحاكمية فيه لله، فيقول فى كتابه (معالم فى الطريق): "ليس لأحد أن يقول لشرع يشرعه الله: هذا شرع الله، إلا أن تكون الحاكمية لله معلنة، وأن يكون مصدر السلطات هو الله سبحانه لا الشعب ولا الحزب ولا أى بشر".
وإذا كان "أبو الأعلى المودودي" هو أول من طرح مفهوم الحاكمية، حين قال: إن الدولة الإسلامية هى "دولة مهيمنة أو مطلقة محيطة بجميع فروع الحياة ونواحيها، ولكن أساس هذه الهيمنة والإحاطة التامة، إنما هو القانون الإلهي الجامع الواسع الذي وكل إلى الحاكم المسلم تنفيذه في الناس"، فإن سيد قطب أحد الذين رسخوا هذا المفهوم في الثقافة العربية بحيث غدا مفهوماً مركزياً في الفكر الأصولي، وعليه يرى سيد قطب، أن الأنظمة السياسية الموجودة على الساحة من مخلفات الغزو الصليبى لبلاد المسلمين فى القرن التاسع عشر، وأن هذه الأنظمة جاهلية لأنها لا تقر لله بالحاكمية، وإنما تعتدى على سلطان الله، وتدعى لنفسها الحاكمية، فما تحله لنفسها فهو الحلال، وما تحرمه لنفسها فهو الحرام، فهى جاهلية معاصرة إن صح التعبير.
فلقد حاول سيد قطب أن يوجد سبيلا ينزع من خلالها كل سلطة ممكنة اللهم إلا سلطة الجماعة، وكان يجب أن تتوافر في هذه السبيل القدرة على جذب عامة الناس، لفكرته ودعوته، ووجد قطب ضالته المنشودة في مفهوم الحاكمية، هذا المصطلح الذى يلغي كل إرادة ممكنه للبشر في تسير أمورهم بدعوى أن الحكم لله والحاكم هو الله.
وواقع الأمر أن تعبير "حاكمية الله" هو نوع من الصياغات الخطرة، لأنه يفتح الباب لإساءة استخدام اسم الله وسلطانه سبحانه وتعالى، فضلا عن أنه يتسع لتقديرات وتفسيرات مختلفة، قد يختلط فيها حق الله بحق الحاكم وحق الأفراد، وهو اختلاط يدفع ثمنه أفراد المجتمع فى النهاية، فهو تكريس للسلطة الدينية، ودعوى للحكم باسم الله. كما أن تلك النظرية - نظرية حاكمية الله فى السياسة – يترتب عليها، بشكل طبيعى ومنطقى ما تنادى به تلك الجماعات من تكفير المجتمعات الإسلامية المعاصرة، وتكفير المسلمين المعاصرين، من غير أعضاء هذه الجماعات.
ولا شك أن فى هذا رفضاً صريحاً لكل أشكال النظم الديمقراطية بمضمونها الحديث، فلقد اختار سيد قطب؛ طريقاً يرفض كل ما هو قائم على أساس أنه جاهلى، فكل ما هو قائم سواء أكان مع الاشتراكية أم ضدها فهو جاهلى، مع الديمقراطية أو الديكتاتورية أيضا هو جاهلى، فرفض النظام من جذوره أياً كانت الأفرع.
فالديمقراطية وفقا لرأى سيد قطب لا تسمح بوحدة المجتمع، بل تؤسسه على قواعد خلافية أيديولوجية، إذ أنه يريد توحيد قوى المجتمع والدولة تحت إطار أيديولوجى دينى، ولذلك يرفض قطب الديمقراطية والتعددية. وكما رفض الديمقراطية، يرفض أيضاً الأحزاب، خاصة حزب الوفد، ولقد دعا الشباب إلى أن يبتعدوا عن الأحزاب، وهذا ما كشف عنه فى مقال له فى "روزاليوسف" عدد 29 سبتمبر 1952 بعنوان (هذه الأحزاب غير قابلة للبقاء)، إذ يرى أن تلك الأحزاب "أخذت تتحول إلى تروس صدئة فى الجهاز الاجتماعى الفاسد الذى يكافحه الشعب".
وإذا كان البعض قد رأى أن سيد قطب فى (معالم فى الطريق) بلغ قمة الرجعية لأنه حكم على مجتمعنا كله بالجاهلية، فإن فهم ذلك الكتاب يكشف بوضوح أنه لم يغل فى الرجعية فقط بل غلا فى المقاومة، لأنه بذل مجهوداً كبيراً فى إيضاح كيفية إعداد كتيبة الصدام، وطالب فى "لا إله إلا الله" بضرورة الانعزال عن المجتمع الحاضر بكل قيمه ومؤسساته ورموزه، لذلك نجده يؤكد على المهمة الأساسية لدى الجماعة بقوله "إن مهمتنا الأولى هى تغيير واقع هذا المجتمع. مهمتنا هى تغيير هذا الواقع الجاهلى من أساسه، هذا الواقع الذى يصطدم أساساً بالمنهج الإسلامي، وبالتصور الإسلامي". فالقوة إذن هي وسيلة التغيير لدى ذلك المفكر ومن صار على نهجه، وهذا أخطر ما فى الأمر.
ويخصص سيد قطب فى كتابه "نحو مجتمع إسلامى" فصلاً للحديث عن طبيعة المجتمع الإسلامى، والغرض منه إعلان فرادة الاجتماع فى الإسلام مقابل الاجتماع فى الأديان الأخرى والمذاهب الوضعية؛ فأهل الكتاب وفقاً لتصوره ليست لهم أية حقوق سياسية، وإنما لهم بعض الحقوق المدنية، أهمها الاحتكام فى أحوالهم الشخصية إلى شريعتهم، بل إنه يحذر المسلم من أن يشعر مجرد شعور برابطة ولاء أو تناصر معهم، وهكذا تسقط فكرة المواطنة.
ويلخص سيد قطب طبيعة المجتمع الإسلامى وماهيته، فيقول:"أنه مجتمع دينى، استخلافى، ربانى، يفضل سواه من المجتمعات، وتصل وثوقية العقيدة بقطب إلى التنبؤ القاطع بحتمية قيام المجتمع الإسلامى لإحلال العدل والسلام على الأرض قاطبة، ما دام ما حصل مرة يمكن أن يحصل مرة أخرى". وهنا يبرز سؤلا جوهري هو: كيف يكون المجتمع دينيا استخلافيا ولا يكون مجتمعاً دينيا ؟! ناهيك أنه تخطى بهذا التعريف إطار المجتمع المدنى الحديث.
وعلى ذلك، يصور سيد قطب المجتمع الذى ينشده على أنه ضرورة يصير إليها العالم ليحققها، لأنه على حد قوله "لو لم يكن موجوداً، لبحثت عنه الإنسانية ولابتدعت نظاماً يشبهه". وهنا قد يخيل إلينا أن ما يتطلع إليه سيد قطب هو الوصول بالمجتمع الإنسانى إلى حالة الكمال الأخلاقى غير أن الأمر على خلاف هذا تماماً، فالمجتمع الذى يطالب به سيد قطب ليست به ثقافة الاختلاف، وإنما مجتمع يهدف إلى تحويل المختلف إلى متحد معه، وهذا الفهم لا يتماشى مع ما يقره القرآن الكريم من وجود الاختلاف، فالآية تقول "وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً" (الشورى، 8)، وتقول الآية الأخرى: "وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ" (هود، 118).
وتأتى نظرة سيد قطب إلى الدولة متماشية تماماً مع نسقه الفكرى ومنهجه الاعتقادى، "فالدولة فى الإسلام ليست سوى إفراز طبيعى للجماعة وخصائصها الذاتية، والجماعة تتضمن الدولة وتنهض وإياها لتحقيق المنهج الإسلامى وهيمنته على الحياة الفردية والجماعية". وهنا خلط ومغالطة علمية؛ فالحقيقة المستقرة في علم السياسة أن الدولة أكبر من أي جماعة، فالجماعة جزء من الكل (الدولة).
وقد تواصل هذا الفهم عند الجماعات المتشددة، فأصبح هدف هذه الجماعات هو إقامة الدولة الإسلامية لإعادة الإسلام لهذه الأمة بالقوة، فنرى "محمد عبد السلام فرج" يقول فى كتابه (الجهاد: الفريضة الغائبة) "قيام الدولة الإسلامية فرض على المسلمين، لأن ما لم يتم الواجب إلا به فهو واجب"، ومن أجل إقامة الدولة الإسلامية ينادى ب "القتال ضد الحكام المرتدين واستئصال طواغيت لا يزيدون على كونهم بشراً لم يجدوا أمامهم من يقمعهم بأمر الله سبحانة وتعالى".
فى الواقع، عندما يتم اللجوء إلى القوة والعنف للوصول إلى السلطة تهدر كل قيم الدين والقانون والدستور، وتصبح الدولة نهباً لمن يستطيع أن يفرض قوته وسيطرته عليها، وهذا رده إلى ما كان يسمى حالة الطبيعة التى كانت تسبق قيام الدولة.
وإذا كانت الدولة لا تتدعم إلا بالدستور فإن سيد قطب يرى أن دستور الدولة المسلمة لا يضعه البشر ويتوافقون عليه لأنه دستور إلهى، "والله سبحانه يتولى الحاكمية فى حياة البشر عن طريق تصريف أمرهم بمشيئته وقدره من جانب، وعن طريق تنظيم أوضاعهم وحياتهم وحقوقهم وواجباتهم، وعلاقاتهم وارتباطاتهم بشريعته ومنهجه من جانب آخر". وتصور الدولة على هذا النحو هو تصور ديني محض.
وعلى الرغم من أن قطب يؤكد أن الثيوقراطية، أو حكم رجال الدين، لا يمكن أن تكون شكلاً من أشكال الحكم الإسلامى الصحيح، إذ إن الإسلام لا يمنح أى مجموعة من الناس، أى حق فى التمثيل الإلهى، فإن هذا يتناقض صراحة مع قوله سالف الذكر من أن المجتمع الإسلامي مجتمع ديني استخلافي، وهذا تأكيد على أن وجهة النظر القطبية مرتكزة على الحكم الثيوقراطى.
أما عن العلاقة بين الحاكم والمحكومين يقول سيد قطب فى كتاب "السلام العالمى والإسلام" "نظام الحكم فى الإسلام كفيل بإقرار العلاقات بين الراعى والرعية على أسس من السلم والعدل والطمأنينة، ينهض عليها بناء السلام الاجتماعى سليماً راسخ الأركان"، هنا لنا أن نسأل وفق أي مذهب ستكون العلاقة بين الحاكم والشعب، هل على أحد المذاهب السنية أم الشيعية أم أن هناك مذهباً بوسعه أن يجمع بين هذه المذاهب، وإن كان فهو لم يحدثنا عنه، زد على هذا، أنه يجب ملاحظة استخدام مصطلحات لها دلالتها مثل الراعي والرعية، وبما يتناقض تناقضاً صريحاً مع ما هو معروف عن طبيعة الدولة الحديثة التي يحكمها العقد الاجتماعي، فضلاً عن كل هذا، فإن الباب يبقى مفتوحا على مصراعيه حال تبني رؤية أحادية أمام التكفير للمجتمع؛ فالكفر يتحقق بمجرد اللجوء إلى أية سلطة بشرية عدا سلطة من يزعمون أنهم مطبقو الشريعة الإلهية.
فى حقيقة الأمر، لقد انبثق عن كل هذه الأفكار، كل الجماعات التكفيرية الموجودة الآن، إذ إن تلك التنظيرات، والأيديولوجيا التي أسس لها "سيد قطب" تحولت إلى تيار "جهادي" لا يكتفى بتوسيع نطاق التكفير إلى أبعد حد، بل أصبح يمارس الأفعال انطلاقا من رؤيته، ولعل شكري مصطفي الذي كان تلميذاً نجيباً لفكر الإخوان، واتصاله المباشر بسيد قطب حين أفتى بضرورة طلاق المرأة من زوجها حال انضمامها لجماعته ورفض زوجها الانضمام إليه، كان خطوة وتطوراً خطيراً في هذه الاتجاه، وسار الأمر خطوات أبعد فبدأت جماعات أخرى تنفذ العقوبة على من يتصفون فى رأيهم بالكفر، فيصبح دمهم مستباحاً وقتلهم حلالاً، وهم في كل هذا يستمدون أساسهم من قطب، يقول إيمن الظواهرى فى كتابه "فرسان تحت راية النبى"، «وأصبح سيد قطب نموذجاً للصدق في القول، وقدوة للثبات على الحق»، ويضيف "وبعد مقتله تكونت النواة التي ينتمى إليها كاتب هذه السطور (جماعة الجهاد)".
تداعيات التنظير الفكرى القطبى
الخلاصة، أن هذا التنظير الفكرى، وهذا المنحى هو الذي أسس أموراً منها:
تقسيم المجتمع إلى فئتين، فئة تضم كل من يؤمن ويعتنق فكر تلك الجماعات، وفئة أخرى هي المجتمع بأسره الذي ينتمي للجاهلية.
استحداث مفهوم العزلة عن المجتمع لأفراد تلك الجماعات، بحيث لا يتأثر أتباعهم بقيم المجتمع المحيطة بهم، مما يجعلها قادرة على اختراقه، وإجراء التغييرات المطلوبة فيه.
إدخال ثقافة الوعي الحركي كأصل جديد في تمييز أفكار تلك الحركات، وهو ما سمح بتحويل الاتجاه الديني البحت إلى منحنى أيديولوجي طبع في خطاباتهم وبرامجهم ومواقفهم وآرائهم حتى الفقهية منها.
وضع إستراتيجيات عملية للتغير الشامل للمجتمع، والطموح لقيادة العالم، وتغيير أنظمته.
ويمكن اقتراح عدة مداخل علاجية للتعامل مع الظاهرة التكفيرية مكملة لبعضها بعضا:
استقلال الأزهر باعتباره المؤسسة الدينية الرئيسية فى مصر عن السلطة تماماً، وتقديم جميع الضمانات لكى تعمل هذه المؤسسة فى استقلال تام عن السلطة. والقصد من هذه الخطوة أن يتمكن علماء الدين من الإدلاء برأى الدين فى القضايا المطروحة بكامل الحرية دون أن يكون هناك ظل شبهة من تأثر هذا الرأى باعتبارات سياسية وأن يكون تولي مناصبه ورئاسة مشيخته بالانتخابات. ومن شأن هذا أن يؤدى إلى استعادة الثقة كاملة بالأزهر باعتباره الهيئة العلمية الأكثر تأهيلا، لأن تقول رأى الدين وألا تترك هذه المسألة الخطيرة لمن يعرف ومن لا يعرف.
بيان مواطن الخلل فى أساليب عمل وأفكار الحركات التكفيرية مع التحرك الجاد نحو تطوير التصورات الفقهية، وتجديد الخطاب الدينى.
مواجهة شاملة وواعية لمنهج التعليم الدينى.
فتح الحوار الدينى الصريح مع الشباب نظرياً وتطبيقياً بهدف الإقناع والاقتناع.
زيادة المادة الدينية بالإعلام.
احترام حقوق الإنسان مع ضرورة إقامة مؤسسات سياسية فعالة تكفل للمواطن أن يشارك فى صياغة قرارات المجتمع.
إعادة النظر فى السياسات الاقتصادية والاجتماعية الموروثة من العقود الماضية. فلابد من العمل مثلاً على تصحيح التناقضات الصارخة وعلى رأسها الانفصام الواضح بين الأجر والعمل المنتج، إذ أن غياب العدالة التوزيعية فى الثروات والدخول والسلطة تعد من أهم الأسباب التى تولد الرفض والعنف والتمرد، ولعل التيار الدينى المتطرف قد نجح فى بعض الفترات فى استقطاب مناخ السخط الاجتماعى والمعاناة الاقتصادية لدى الفقراء بدرجة أكثر نجاحا وحركية من التيارات اليسارية على عكس بعض التصورات النظرية المسبقة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.