"موديز" تخفض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة إلى AA1 مع نظرة مستقبلية مستقرة    ليبيا.. اجتماع طارئ للمجلس الرئاسي لمتابعة تطورات الأوضاع في طرابلس    تمارا حداد: مواقف ترامب تجاه غزة متذبذبة وتصريحاته خلال زيارته للشرق الأوسط تراجع عنها| خاص    جيش الاحتلال يعلن بدء عملية عسكرية برية في غزة    أموريم: شيء واحد كان ينقصنا أمام تشيلسي.. وهذه خطة نهائي الدوري الأوروبي    السقا: إذا استمر مودرن في الدوري سيكون بسبب الفوز على الإسماعيلي    جوميز: شعرنا بأن هناك من سرق تعبنا أمام الهلال    تفاصيل جديدة في واقعة اتهام جد بهتك عرض حفيده بشبرا الخيمة    اشتعال الحرب بين نيودلهي وإسلام آباد| «حصان طروادة».. واشنطن تحرك الهند في مواجهة الصين!    نجم الزمالك السابق يفاجئ عمرو أديب بسبب قرار التظلمات والأهلي.. ما علاقة عباس العقاد؟    محسن الشوبكي يكتب: مصر والأردن.. تحالف استراتيجي لدعم غزة ومواجهة تداعيات حرب الإبادة    محاكمة 3 متهمين في قضية جبهة النصرة الثانية| اليوم    شديد الحرارة نهاراً وأجواء معتدلة ليلا.. حالة الطقس اليوم    اليوم.. «جوته» ينظم فاعليات «الموضة المستدامة» أحد مبادرات إعادة النفايات    انطلاق فعاليات مؤتمر التمكين الثقافي لليوم الواحد بمطروح    أسعار الفراخ البيضاء وكرتونة البيض اليوم السبت في دمياط    جيش الاحتلال يبدأ ضربات واسعة ويتحرك للسيطرة على مواقع استراتيجية في غزة    برا وبحرا وجوا، الكشف عن خطة ترامب لتهجير مليون فلسطيني من غزة إلى ليبيا    ترامب والسلام من خلال القوة    الزراعة تكشف حقيقة نفوق الدواجن بسبب الأمراض الوبائية    رئيس شعبة الدواجن: نفوق 30% من الإنتاج مبالغ فيه.. والإنتاج اليومي مستقر عند 4 ملايين    عيار 21 الآن يعود للارتفاع.. سعر الذهب اليوم السبت 17 مايو في الصاغة (تفاصيل)    عالم مصري يفتح بوابة المستقبل.. حوسبة أسرع مليون مرة عبر «النفق الكمي»| فيديو    طاقم تحكيم مباراة المصري وسيراميكا كليوباترا    أكرم عبدالمجيد: تأخير قرار التظلمات تسبب في فقدان الزمالك وبيراميدز التركيز في الدوري    أحمد حسن يكشف حقيقة رحيل ثنائي الأهلي إلى زد    خبير قانوني: قرار تحصين عقوبات أزمة القمة غير قانوني ويخالف فيفا    رئيس اتحاد منتجي الدواجن ينفي تصريحات نائبه: لا صحة لنفوق 30% من الثروة الداجنة    رئيسا "المحطات النووية" و"آتوم ستروي إكسبورت" يبحثان مستجدات مشروع الضبعة    قرار عودة اختبار SAT في مصر يثير جدل أولياء الأمور    حريق هائل يلتهم أرض زراعية في قرية السيالة بدمياط    إصابة 4 أشخاص في حادث سقوط سيارة بترعة الفاروقية بسوهاج    اليوم| الحكم على المتهمين في واقعة الاعتداء على الطفل مؤمن    مصرع وإصابة 5 أشخاص في حادث انقلاب سيارة ميكروباص بمحور 26 يوليو    ضبط 25 طن دقيق ولحوم ودواجن غير مطابقة للمواصفات بالدقهلية    رئيسا «المحطات النووية» و«آتوم ستروي إكسبورت» يبحثان مستجدات مشروع الضبعة    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية السبت 17 مايو 2025    كل سنة وأنت طيب يا زعيم.. 85 عاما على ميلاد عادل إمام    السفير محمد حجازى: غزة محور رئيسي بقمة بغداد ومحل تداول بين القادة والزعماء    المنشآت الفندقية: اختيار الغردقة وشرم الشيخ كأبرز وجهات سياحية يبشر بموسم واعد    النمر هاجمني بعد ضربة الكرباج.. عامل «سيرك طنطا» يروي تفاصيل الواقعة (نص التحقيقات)    أجواء مشحونة مهنيًا وعائليا.. توقعات برج العقرب اليوم 17 مايو    بعد 50 عامًا من وفاته.. رسالة بخط سعاد حسني تفجّر مفاجأة وتُنهي جدل زواجها من عبد الحليم حافظ    داعية يكشف عن حكم الهبة لأحد الورثة دون الآخر    قبل الامتحانات.. 5 خطوات فعالة لتنظيم مذاكرتك والتفوق في الامتحانات: «تغلب على التوتر»    طب الأزهر بدمياط تنجح في إجراء عملية نادرة عالميا لطفل عمره 3 سنوات (صور)    لمرضى التهاب المفاصل.. 7 أطعمة ابتعدوا عنها خلال الصيف    بالتعاون مع الأزهر والإفتاء.. الأوقاف تطلق قافلة دعوية لشمال سيناء    يوم فى جامعة النيل    مشيرة خطاب: التصديق على الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان ضرورة ملحة    الكشف والعلاج بالمجان ل 390 حالة وندوات تثقيفية ضمن قافلة طبية ب«النعناعية»    قداسة البابا تواضروس يستقبل الرئيس الأعلى للكنيسة السريانية في العالم بوادي النطرون (صور)    كيف تتغلب على الموجة الحارة؟.. 4 نصائح للشعور بالانتعاش خلال الطقس شديد الحرارة    الأوقاف تصدر العدد الجديد من مجلة "الفردوس" للأطفال    حبس بائع تحرش بطالبة أجنبية بالدرب الأحمر    شكاوى المواطنين تنهال على محافظ بني سويف عقب أدائه صلاة الجمعة .. صور    المفتي: الحج دون تصريح رسمي مخالفة شرعية وفاعله آثم    أبو شقة: لدينا قوانين سقيمة لا تناسب ما يؤسس له الرئيس السيسي من دولة حديثة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجماعات المتشددة.. من السراديب إلى العنف السياسى.. القوة هى وسيلة التغيير لدى سيد قطب وكل من سار على نهجه
نشر في الأهرام العربي يوم 19 - 04 - 2015


حازم محفوظ
لعل من اللافت للنظر ظهور عدد من الجماعات المتشددة بصورة مؤثرة عربياً وإقليمياً وعالمياً، وقد حاولت هذه الجماعات الانخراط فى العمل السياسى بشكل مباشر أو غير مباشر، واستخدمت آليات وأساليب ونظم للدخول فى مواجهات مع المجتمع تارة، ومع السلطة السياسية تارة أخرى، وقد تعددت وتنوعت هذه الجماعات بحيث شكلت ظاهرة لها وجود فاعل، ولا يمكن اعتبارها مجرد ظاهرة عارضة لدى عدد محدود من الأفراد أو الجماعات.
قد تبنت هذه الجماعات عدداً من المفاهيم التي تعود مصادرها وأصولها إلى بعض المفكرين المحدثين مثل أبو الأعلى المودودي وسيد قطب وأبو الحسن الندوي، وبين الأقدمين عند الخوارج بفرقهم المتعددة (الأزارقة، النجدات، اليزيدية، والأباضية... إلخ)، كما توجد هذه المفاهيم في مجموعة متفرقة من الكتابات أهمها اجتهادات شكري مصطفى التي جمعها تحت اسم (توسمات)، وفى كتاب (الفريضة الغائبة) لمحمد عبد السلام فرج، وفى كتاب الخلافة المنسوب إلى جماعة التكفير والهجرة.
وفى البداية يجب التأكيد على أن ظاهرة التشدد الديني سواء أكان ذلك على مستوى الأقوال أم على مستوى الأفعال، ليس ظاهرة جديدة ولا طارئة على المجتمعات بشكل عام، ولا يمكن نسبتها إلى عقيدة أو دين بعينه؛ فهي ظاهرة تعرفها الأديان جميعاً، إذ أن كل الأديان السماوية وغير السماوية لها أتباع يتسم بعضهم بالتشدد، حيث ينطلق التشدد أحياناً من أجل نشر الفكرة والدعوة إليها، أي الخروج إلى المجتمع والدعوة إلى حركة اجتماعية ذات أهداف تتفق مع هذه النظرة المتشددة.
ومن هذا المنطلق تتداخل ظاهرة التشدد القائمة على الدين أو العقيدة أو الفلسفة، والأواصر الرابطة بينهم هى إخراج الأفكار من محيط الجماعة إلى أفق المجتمع من أجل تغييره وفقاً لرؤيتهم الخاصة.
وإذا كانت الدراسات السابقة قد ركزت على أن ظهور هذه الجماعات مرتبط بضعف المجتمع، فمن الواضح أن هذه الوجهة من النظر خاطئة، فقد باتت الجماعات المتشددة تظهر حتى فى أكثر الدول تقدماً. والسؤال هو: من أين يستمد التشدد مدده؟ أو بمعنى آخر ما الأصول الفكرية لظاهرة التشدد والتطرف فى مجتمعنا؟ وما المنهج الواجب التعامل به معها؟
فى الواقع، إن أحد أهم العوامل والأسباب لظاهرة التشدد والتطرف يأتي مستنداً على التنظيرات الفكرية الأصولية التى قدمها تيار الإسلام السياسي، وعلى رأسها مؤسسو جماعة الإخوان المسلمين التى جعلت الأرض صالحة لنمو التعصب وازدهاره، ومنها انبثقت التيارات التكفيرية المعاصرة، ولعل من أهم التنظيرات الفكرية تلك التي قدمها سيد قطب.
فإذا كان "حسن البنا" هو المؤسس لهذه الجماعة، فإن "سيد قطب" هو منظرها الأول، ويعتبر امتداداً لفكر البنا، فهما ينتميان إلى حقل معرفى متشابه، يكون الوحى دلالاته وتعاليمه، وإلى إطار سياسى واحد هو تنظيم الإخوان المسلمين، إلا أنهما يفترقان فى أمور كثيرة على مستوى النظرية والممارسة. فالبنا بقى داعية ومرشداً، ونادى بأممية إسلامية، أما سيد قطب، فقد اتصف بأنه منظر وأيديولوجى، فطغى على منطقه أسلوب القياس الجدلى، واتجه إلى العقول يحلل ويقارن ويفاضل، وصار مع الوقت منظر للحركات الإسلامية الأصولية.
وتنطلق أصولية سيد قطب من حاجة ملحة إلى المنهج، ولكن تبرز صعوبات كبيرة لديه، فالمنهج ليس أداة المعرفة أو الطريق لبلوغ الحقيقة، وإنما هو معطى قبلى.
والمنهج مرتكز حياة الأمة المسلمة وله ركنان: الإيمان بالله ورسوله والعمل بسنة النبى محمد، فالقاعدة، إذن "شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله"، فالإسلام "ليس نظرية تتعامل مع الفروض، إنه منهج يتعامل مع الواقع، فلابد أولاً أن يقوم المجتمع المسلم الذي يقر عقيدة: أن لا اله إلا الله، وأن الحاكمية ليست إلا لله". فهذه العبارة القصيرة يعبر فيها سيد قطب عن رؤيته للمجتمع من خلال مفهوم الحاكمية.
ويترتب على هذا المفهوم موقف سيد قطب من النظام السياسى ومن المجتمع، فهو يدعو لتغيير المجتمع جذرياً حتى تكون الحاكمية فيه لله، فيقول فى كتابه (معالم فى الطريق): "ليس لأحد أن يقول لشرع يشرعه الله: هذا شرع الله، إلا أن تكون الحاكمية لله معلنة، وأن يكون مصدر السلطات هو الله سبحانه لا الشعب ولا الحزب ولا أى بشر".
وإذا كان "أبو الأعلى المودودي" هو أول من طرح مفهوم الحاكمية، حين قال: إن الدولة الإسلامية هى "دولة مهيمنة أو مطلقة محيطة بجميع فروع الحياة ونواحيها، ولكن أساس هذه الهيمنة والإحاطة التامة، إنما هو القانون الإلهي الجامع الواسع الذي وكل إلى الحاكم المسلم تنفيذه في الناس"، فإن سيد قطب أحد الذين رسخوا هذا المفهوم في الثقافة العربية بحيث غدا مفهوماً مركزياً في الفكر الأصولي، وعليه يرى سيد قطب، أن الأنظمة السياسية الموجودة على الساحة من مخلفات الغزو الصليبى لبلاد المسلمين فى القرن التاسع عشر، وأن هذه الأنظمة جاهلية لأنها لا تقر لله بالحاكمية، وإنما تعتدى على سلطان الله، وتدعى لنفسها الحاكمية، فما تحله لنفسها فهو الحلال، وما تحرمه لنفسها فهو الحرام، فهى جاهلية معاصرة إن صح التعبير.
فلقد حاول سيد قطب أن يوجد سبيلا ينزع من خلالها كل سلطة ممكنة اللهم إلا سلطة الجماعة، وكان يجب أن تتوافر في هذه السبيل القدرة على جذب عامة الناس، لفكرته ودعوته، ووجد قطب ضالته المنشودة في مفهوم الحاكمية، هذا المصطلح الذى يلغي كل إرادة ممكنه للبشر في تسير أمورهم بدعوى أن الحكم لله والحاكم هو الله.
وواقع الأمر أن تعبير "حاكمية الله" هو نوع من الصياغات الخطرة، لأنه يفتح الباب لإساءة استخدام اسم الله وسلطانه سبحانه وتعالى، فضلا عن أنه يتسع لتقديرات وتفسيرات مختلفة، قد يختلط فيها حق الله بحق الحاكم وحق الأفراد، وهو اختلاط يدفع ثمنه أفراد المجتمع فى النهاية، فهو تكريس للسلطة الدينية، ودعوى للحكم باسم الله. كما أن تلك النظرية - نظرية حاكمية الله فى السياسة – يترتب عليها، بشكل طبيعى ومنطقى ما تنادى به تلك الجماعات من تكفير المجتمعات الإسلامية المعاصرة، وتكفير المسلمين المعاصرين، من غير أعضاء هذه الجماعات.
ولا شك أن فى هذا رفضاً صريحاً لكل أشكال النظم الديمقراطية بمضمونها الحديث، فلقد اختار سيد قطب؛ طريقاً يرفض كل ما هو قائم على أساس أنه جاهلى، فكل ما هو قائم سواء أكان مع الاشتراكية أم ضدها فهو جاهلى، مع الديمقراطية أو الديكتاتورية أيضا هو جاهلى، فرفض النظام من جذوره أياً كانت الأفرع.
فالديمقراطية وفقا لرأى سيد قطب لا تسمح بوحدة المجتمع، بل تؤسسه على قواعد خلافية أيديولوجية، إذ أنه يريد توحيد قوى المجتمع والدولة تحت إطار أيديولوجى دينى، ولذلك يرفض قطب الديمقراطية والتعددية. وكما رفض الديمقراطية، يرفض أيضاً الأحزاب، خاصة حزب الوفد، ولقد دعا الشباب إلى أن يبتعدوا عن الأحزاب، وهذا ما كشف عنه فى مقال له فى "روزاليوسف" عدد 29 سبتمبر 1952 بعنوان (هذه الأحزاب غير قابلة للبقاء)، إذ يرى أن تلك الأحزاب "أخذت تتحول إلى تروس صدئة فى الجهاز الاجتماعى الفاسد الذى يكافحه الشعب".
وإذا كان البعض قد رأى أن سيد قطب فى (معالم فى الطريق) بلغ قمة الرجعية لأنه حكم على مجتمعنا كله بالجاهلية، فإن فهم ذلك الكتاب يكشف بوضوح أنه لم يغل فى الرجعية فقط بل غلا فى المقاومة، لأنه بذل مجهوداً كبيراً فى إيضاح كيفية إعداد كتيبة الصدام، وطالب فى "لا إله إلا الله" بضرورة الانعزال عن المجتمع الحاضر بكل قيمه ومؤسساته ورموزه، لذلك نجده يؤكد على المهمة الأساسية لدى الجماعة بقوله "إن مهمتنا الأولى هى تغيير واقع هذا المجتمع. مهمتنا هى تغيير هذا الواقع الجاهلى من أساسه، هذا الواقع الذى يصطدم أساساً بالمنهج الإسلامي، وبالتصور الإسلامي". فالقوة إذن هي وسيلة التغيير لدى ذلك المفكر ومن صار على نهجه، وهذا أخطر ما فى الأمر.
ويخصص سيد قطب فى كتابه "نحو مجتمع إسلامى" فصلاً للحديث عن طبيعة المجتمع الإسلامى، والغرض منه إعلان فرادة الاجتماع فى الإسلام مقابل الاجتماع فى الأديان الأخرى والمذاهب الوضعية؛ فأهل الكتاب وفقاً لتصوره ليست لهم أية حقوق سياسية، وإنما لهم بعض الحقوق المدنية، أهمها الاحتكام فى أحوالهم الشخصية إلى شريعتهم، بل إنه يحذر المسلم من أن يشعر مجرد شعور برابطة ولاء أو تناصر معهم، وهكذا تسقط فكرة المواطنة.
ويلخص سيد قطب طبيعة المجتمع الإسلامى وماهيته، فيقول:"أنه مجتمع دينى، استخلافى، ربانى، يفضل سواه من المجتمعات، وتصل وثوقية العقيدة بقطب إلى التنبؤ القاطع بحتمية قيام المجتمع الإسلامى لإحلال العدل والسلام على الأرض قاطبة، ما دام ما حصل مرة يمكن أن يحصل مرة أخرى". وهنا يبرز سؤلا جوهري هو: كيف يكون المجتمع دينيا استخلافيا ولا يكون مجتمعاً دينيا ؟! ناهيك أنه تخطى بهذا التعريف إطار المجتمع المدنى الحديث.
وعلى ذلك، يصور سيد قطب المجتمع الذى ينشده على أنه ضرورة يصير إليها العالم ليحققها، لأنه على حد قوله "لو لم يكن موجوداً، لبحثت عنه الإنسانية ولابتدعت نظاماً يشبهه". وهنا قد يخيل إلينا أن ما يتطلع إليه سيد قطب هو الوصول بالمجتمع الإنسانى إلى حالة الكمال الأخلاقى غير أن الأمر على خلاف هذا تماماً، فالمجتمع الذى يطالب به سيد قطب ليست به ثقافة الاختلاف، وإنما مجتمع يهدف إلى تحويل المختلف إلى متحد معه، وهذا الفهم لا يتماشى مع ما يقره القرآن الكريم من وجود الاختلاف، فالآية تقول "وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً" (الشورى، 8)، وتقول الآية الأخرى: "وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ" (هود، 118).
وتأتى نظرة سيد قطب إلى الدولة متماشية تماماً مع نسقه الفكرى ومنهجه الاعتقادى، "فالدولة فى الإسلام ليست سوى إفراز طبيعى للجماعة وخصائصها الذاتية، والجماعة تتضمن الدولة وتنهض وإياها لتحقيق المنهج الإسلامى وهيمنته على الحياة الفردية والجماعية". وهنا خلط ومغالطة علمية؛ فالحقيقة المستقرة في علم السياسة أن الدولة أكبر من أي جماعة، فالجماعة جزء من الكل (الدولة).
وقد تواصل هذا الفهم عند الجماعات المتشددة، فأصبح هدف هذه الجماعات هو إقامة الدولة الإسلامية لإعادة الإسلام لهذه الأمة بالقوة، فنرى "محمد عبد السلام فرج" يقول فى كتابه (الجهاد: الفريضة الغائبة) "قيام الدولة الإسلامية فرض على المسلمين، لأن ما لم يتم الواجب إلا به فهو واجب"، ومن أجل إقامة الدولة الإسلامية ينادى ب "القتال ضد الحكام المرتدين واستئصال طواغيت لا يزيدون على كونهم بشراً لم يجدوا أمامهم من يقمعهم بأمر الله سبحانة وتعالى".
فى الواقع، عندما يتم اللجوء إلى القوة والعنف للوصول إلى السلطة تهدر كل قيم الدين والقانون والدستور، وتصبح الدولة نهباً لمن يستطيع أن يفرض قوته وسيطرته عليها، وهذا رده إلى ما كان يسمى حالة الطبيعة التى كانت تسبق قيام الدولة.
وإذا كانت الدولة لا تتدعم إلا بالدستور فإن سيد قطب يرى أن دستور الدولة المسلمة لا يضعه البشر ويتوافقون عليه لأنه دستور إلهى، "والله سبحانه يتولى الحاكمية فى حياة البشر عن طريق تصريف أمرهم بمشيئته وقدره من جانب، وعن طريق تنظيم أوضاعهم وحياتهم وحقوقهم وواجباتهم، وعلاقاتهم وارتباطاتهم بشريعته ومنهجه من جانب آخر". وتصور الدولة على هذا النحو هو تصور ديني محض.
وعلى الرغم من أن قطب يؤكد أن الثيوقراطية، أو حكم رجال الدين، لا يمكن أن تكون شكلاً من أشكال الحكم الإسلامى الصحيح، إذ إن الإسلام لا يمنح أى مجموعة من الناس، أى حق فى التمثيل الإلهى، فإن هذا يتناقض صراحة مع قوله سالف الذكر من أن المجتمع الإسلامي مجتمع ديني استخلافي، وهذا تأكيد على أن وجهة النظر القطبية مرتكزة على الحكم الثيوقراطى.
أما عن العلاقة بين الحاكم والمحكومين يقول سيد قطب فى كتاب "السلام العالمى والإسلام" "نظام الحكم فى الإسلام كفيل بإقرار العلاقات بين الراعى والرعية على أسس من السلم والعدل والطمأنينة، ينهض عليها بناء السلام الاجتماعى سليماً راسخ الأركان"، هنا لنا أن نسأل وفق أي مذهب ستكون العلاقة بين الحاكم والشعب، هل على أحد المذاهب السنية أم الشيعية أم أن هناك مذهباً بوسعه أن يجمع بين هذه المذاهب، وإن كان فهو لم يحدثنا عنه، زد على هذا، أنه يجب ملاحظة استخدام مصطلحات لها دلالتها مثل الراعي والرعية، وبما يتناقض تناقضاً صريحاً مع ما هو معروف عن طبيعة الدولة الحديثة التي يحكمها العقد الاجتماعي، فضلاً عن كل هذا، فإن الباب يبقى مفتوحا على مصراعيه حال تبني رؤية أحادية أمام التكفير للمجتمع؛ فالكفر يتحقق بمجرد اللجوء إلى أية سلطة بشرية عدا سلطة من يزعمون أنهم مطبقو الشريعة الإلهية.
فى حقيقة الأمر، لقد انبثق عن كل هذه الأفكار، كل الجماعات التكفيرية الموجودة الآن، إذ إن تلك التنظيرات، والأيديولوجيا التي أسس لها "سيد قطب" تحولت إلى تيار "جهادي" لا يكتفى بتوسيع نطاق التكفير إلى أبعد حد، بل أصبح يمارس الأفعال انطلاقا من رؤيته، ولعل شكري مصطفي الذي كان تلميذاً نجيباً لفكر الإخوان، واتصاله المباشر بسيد قطب حين أفتى بضرورة طلاق المرأة من زوجها حال انضمامها لجماعته ورفض زوجها الانضمام إليه، كان خطوة وتطوراً خطيراً في هذه الاتجاه، وسار الأمر خطوات أبعد فبدأت جماعات أخرى تنفذ العقوبة على من يتصفون فى رأيهم بالكفر، فيصبح دمهم مستباحاً وقتلهم حلالاً، وهم في كل هذا يستمدون أساسهم من قطب، يقول إيمن الظواهرى فى كتابه "فرسان تحت راية النبى"، «وأصبح سيد قطب نموذجاً للصدق في القول، وقدوة للثبات على الحق»، ويضيف "وبعد مقتله تكونت النواة التي ينتمى إليها كاتب هذه السطور (جماعة الجهاد)".
تداعيات التنظير الفكرى القطبى
الخلاصة، أن هذا التنظير الفكرى، وهذا المنحى هو الذي أسس أموراً منها:
تقسيم المجتمع إلى فئتين، فئة تضم كل من يؤمن ويعتنق فكر تلك الجماعات، وفئة أخرى هي المجتمع بأسره الذي ينتمي للجاهلية.
استحداث مفهوم العزلة عن المجتمع لأفراد تلك الجماعات، بحيث لا يتأثر أتباعهم بقيم المجتمع المحيطة بهم، مما يجعلها قادرة على اختراقه، وإجراء التغييرات المطلوبة فيه.
إدخال ثقافة الوعي الحركي كأصل جديد في تمييز أفكار تلك الحركات، وهو ما سمح بتحويل الاتجاه الديني البحت إلى منحنى أيديولوجي طبع في خطاباتهم وبرامجهم ومواقفهم وآرائهم حتى الفقهية منها.
وضع إستراتيجيات عملية للتغير الشامل للمجتمع، والطموح لقيادة العالم، وتغيير أنظمته.
ويمكن اقتراح عدة مداخل علاجية للتعامل مع الظاهرة التكفيرية مكملة لبعضها بعضا:
استقلال الأزهر باعتباره المؤسسة الدينية الرئيسية فى مصر عن السلطة تماماً، وتقديم جميع الضمانات لكى تعمل هذه المؤسسة فى استقلال تام عن السلطة. والقصد من هذه الخطوة أن يتمكن علماء الدين من الإدلاء برأى الدين فى القضايا المطروحة بكامل الحرية دون أن يكون هناك ظل شبهة من تأثر هذا الرأى باعتبارات سياسية وأن يكون تولي مناصبه ورئاسة مشيخته بالانتخابات. ومن شأن هذا أن يؤدى إلى استعادة الثقة كاملة بالأزهر باعتباره الهيئة العلمية الأكثر تأهيلا، لأن تقول رأى الدين وألا تترك هذه المسألة الخطيرة لمن يعرف ومن لا يعرف.
بيان مواطن الخلل فى أساليب عمل وأفكار الحركات التكفيرية مع التحرك الجاد نحو تطوير التصورات الفقهية، وتجديد الخطاب الدينى.
مواجهة شاملة وواعية لمنهج التعليم الدينى.
فتح الحوار الدينى الصريح مع الشباب نظرياً وتطبيقياً بهدف الإقناع والاقتناع.
زيادة المادة الدينية بالإعلام.
احترام حقوق الإنسان مع ضرورة إقامة مؤسسات سياسية فعالة تكفل للمواطن أن يشارك فى صياغة قرارات المجتمع.
إعادة النظر فى السياسات الاقتصادية والاجتماعية الموروثة من العقود الماضية. فلابد من العمل مثلاً على تصحيح التناقضات الصارخة وعلى رأسها الانفصام الواضح بين الأجر والعمل المنتج، إذ أن غياب العدالة التوزيعية فى الثروات والدخول والسلطة تعد من أهم الأسباب التى تولد الرفض والعنف والتمرد، ولعل التيار الدينى المتطرف قد نجح فى بعض الفترات فى استقطاب مناخ السخط الاجتماعى والمعاناة الاقتصادية لدى الفقراء بدرجة أكثر نجاحا وحركية من التيارات اليسارية على عكس بعض التصورات النظرية المسبقة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.