مهدى مصطفى أمسك الشيخ مصطفى بيدى الصغيرة، قاطعا شارعا كبيرا، على جانبه الأيمن بيوت من الطوب اللبِن، أما جانبه الأيسر فحقول ممتدة بلا نهاية، كنت مسرورا بمريلتى الجديدة، وحقيبتى المصنوعة من قماش المريلة، وحذائى الأسود اللامع. انتهى الشارع الكبير فجأة، وجدت نفسى فى درب ضيق طويل، شعرت بانقباض وهلع، كان دربا متعرجا كثعبان، يبدو مسدودا فى نهايته، كادت يدى تتفلت من بين يد العجوز الخشنة، فكرت فى انتزاعها عنوة والفرار إلى البيت، فأحكم قبضته على يدى، شعرت بألم، فوضت أمرى لله. كان يمضى صامتا، بينما دقات قلبى تتصاعد، أحسست باختناق وبرد، فأغمضت عينىّ، تمكن النوم منى، لكزنى: صحوت على شارع عريض، به دكاكين ومقاه صغيرة ومطاعم ومخبز، وخلق كثير، بعضه يجر مواشيه، وبعضه الآخر يجر أولاده حيث أمضى، غمرتنى موجة عارمة من الأمان، رفعت عينىّ إلى وجه الشيخ، كان ينظر إلى الأمام بثبات. بدأت شمس الصباح فى إزاحة الندى الخفيف، رحت أتفرج على الأطفال بمرايلهم الجديدة، سمعت العابرين وهم يحيون الشيخ مصطفى، فنسيت أمر الدرب الضيق الطويل. فى غمرة هذا الشعور انعطفنا إلى شارع أصغر، فى نهايته مبنى هو الأنظف بين البيوت، النخيل يلتف حواليه من ثلاثة جوانب، له بوابة عملاقة، يقف عليها رجل نحيف طويل بجلباب أزرق، يتسلم الأطفال بلا اكتراث، ثم يدفعهم إلى باحة فسيحة داخل المبنى، وبخشونة لفظية يأمرالجميع بالابتعاد عن البوابة، وبنظرة نارية يحسم أمر المترددين فيغادرون بصمت. النحيف المخيف ابتسم لمرأى الشيخ مصطفى، وحياه تحية خاصة، أفلتنى الشيخ من يده، تناولنى النحيف كعصا طويلة ودفعنى إلى الباحة الفسيحة دون أن ينظر إلىّ، بينما كان يتكلم مع العجوز عن الأحوال! كانت أسوار المبنى عالية تصل إلى جريد النخيل الملتف حواليه، به غرف لها أبواب ملونة بالأزرق، وسط الساحة يقف عمود خشبى فى نهايته قطعة من القماش الملون بالأسود والأبيض والأحمر. كانت يدى تقبض على الحقيبة القماش خوفا من اختطافها من الأطفال الأشقياء الذين راحوا يتصايحون ويدفعون بعضهم بعضا، اتخذت ركنا قصيا، ولم أعد أرى العجوز، راح النحيف يغلق البوابة العملاقة بعنف، وبصوت أشبه بصوت خفير الدرك راح يأمر الجميع بالاصطفاف فى طابور منتظم، ثم اختفى. حمدت الله على اختفاء النحيف المخيف، سرت بيننا همهمات، تحولت إلى صياح وعراك، وإذا بعملاق آخر يظهر مرتديا بدلة كاملة وممسكا بعصا طويلة، فيصاب الجميع بصمت مخيف! يا شيخ مصطفى لِمَ تركتنى فى الغربة القاتلة، أنت لم تنس ثأر فخ أقراص الطعمية، ألم تقل لى إنك سامحتنى، وإنك اخترت صحبتى دون أولادك الآخرين؟ وأنا على هذه الحال، أيقظنى صوت شق عنان السماء: تحيا الجمهورية العربية المتحدة. رد الجميع وراء الصوت: تحيا الجمهورية العربية المتحدة!