رشا عامر له كتاب مهم اسمه "فخ داعش" يناقش فيه إستراتيجية داعش المنظمة والتى تهدف بالأساس إلى محو الحدود التى وضعها الاستعمار لدول الشرق الأوسط. إنه المؤرخ الفرنسى "بيير جون لويزار" الذى أجرت معه مجلة "فرانس. تى. فى" حوارا مطولا على صدر صفحاتها الأسبوع الماضي. يرى لويزار أن داعش حصلت على أراض شاسعة فى كل من سورياوالعراق بدون أدنى مجهود، بل إنها تتحدى العالم كله بما فيه الولاياتالمتحدة والدول الأوروبية والخليجية، وذلك بإطلاقها عمليات الإعدام الاستفزازية التى تقوم بها، إضافة إلى خروجها خارج الحدود التى رسمتها لنفسها. فيوم الأحد 15 فبراير قامت داعش بإعدام 21 مصريا تم اختطافهم فى ليبيا فى مشهد مروع. يتساءل لويزار فى كتابه عن أسباب نجاح هذه الجماعة متعددة الأوجه؟ وكيف قامت بهذه التوسعات الإقليمية؟ وما الإخفاقات التى حدثت للغير وجعلها تتقدم ؟ الإخفاق الأول من وجهة نظر لويزار هو فشل اندماج العرب السنة فى الحكومة التى تأسست فى العراق منذ عام 2003 بعد احتلاله من قبل الولاياتالمتحدة. ولكن لم يظهر هذا الفشل جليا عام 2003 لأن النخبة السنية تخيلت أنها ستنجح فى الاندماج بمرور الوقت، لكنها سرعان ما اكتشفت أنها لا تستطيع تغيير ميزان القوى. وقد تأكد ذلك بحلول عام 2011 عندما احتج العرب السنة سلميا – على غرار ثورات الربيع العربى- على رئيس الوزراء الشيعى "السلطوى" نورى المالكى. ليكتشفوا أن آلة القمع لا ترحم وتلك كانت نقطة التحول. كانت بداية داعش مع نهاية 2013 عندما أدرك العرب السنة وبأغلبية كبيرة استحالة مشاركتهم فى نظام الحكومة العراقية. هذا التحول أدى إلى ظهور الدولة الإسلامية "داعش" فى يناير 2014 فى الفلوجة. تلك المدينة التى تقع على أبواب بغداد والتى فشلت الحكومة المركزية فى استعادتها. وفى يونيو 2014 أخذت الدولة الإسلامية الموصل وتكريت، بالإضافة إلى جزء كبير من محافظة الأنبار دون أدنى مقاومة. والسبب أن الجيش العراقى كان عدد أفراده فى الموصل وتكريت أقل ثلاث مرات من المكتوب فى المستندات الرسمية. فممارسة الفساد كانت واسعة الانتشار حيث كان الجنود يدفعون نصف رواتبهم لقادتهم لكى يكونوا حاضرين فى الكشوف فقط وليس على الأرض. وبهذا تمكنت داعش من الاستيلاء على مساحات شاسعة من الأراضى تقريبا دون إطلاق رصاصة واحدة. ليتوجهوا بعد ذلك إلى بغداد فى شهر يونيو ولكن تصدى لهم تحالف الأكراد والجيش العراقى والميليشيات الشيعية ليوقف تقدمهم، ولتصبح داعش محصورة فى المناطق السنية متخلية عن كل أحلامها فى احتلال بغداد. ومن هذا المنطلق غيرت داعش من استراتيجيتها محاولة التمدد لأعلى بسبب عدم قدرتها على الوصول إلى المناطق الكردية والشيعية، وبالتالى فإنها تهدف إلى الدخول فى توسعتها للمرحلة الثانية وذلك بإلغاء حدود اتفاقيات سايكس بيكو التى قسمت الشرق الأوسط بين بريطانيا وفرنسا. سعت داعش لإنشاء محافظة متداخلة تجمع بين حدود كل من سورياوالعراق رغبة منها فى تدويل الصراع وفى الدخول فى الصراعات المجاورة. كانت تلك فكرة جهنمية، لأنها أحيت فكرة الحدود القديمة للدول، خصوصا أن بعض الدول على شفا الانهيار مثل العراق أو تعانى من القلق مثل لبنان والأردن أو فى حالة متقدمة من التحلل مثل سوريا. كل هذه الدول تشترك فى التقسيم الاستعمارى الذى بدأ عام 1920 وقام بتقطيع أوصال الإمبراطورية العثمانية. يلفت المؤرخ الفرنسى النظر إلى أن مصطلح خليفة تمثل تذكيرا بالخيانة الغربية. فعلى مدار قرن من الزمان وعدت بريطانيا العرب على لسان لورانس العرب بإنشاء مملكة متحدة على الأراضى الحالية لسورياولبنان والأردن وفلسطين وأجزاء من العراق وذلك فى حال تعاونهم معها لإسقاط الإمبراطورية العثمانية. وبدلا من تكوين المملكة العربية أو حتى الخلافة العربية تكونت الدول العربية مثل العراقوسوريا والتى تم وضعها تحت الانتداب لكل من بريطانيا العظمى وفرنسا. تقاسمت هذه الدول الشعوب التى كانت متحدة، ولكنها لم تكن أبدا تملك الشرعية الكافية لظهور المواطنة المشتركة. ففى العراق تم احتكار السلطة من قبل الأقلية السنية، أما فى سوريا فقد كانت اللعبة مستمرة فيما يسمى بالتضامن الأسرى والعشائرى. من هنا استغلت داعش كل هذا وجاءت رغبتها اليوم لبناء دولة بلا حدود إلى ما وراء العراق. ولعل هذا يتضح من خلال تغيير مسماها . فبعد أن كانت الدولة الإسلامية فى العراق والشام..أصبحت الدولة الإسلامية فقط فى إشارة منها إلى أنها بلا حدود. على الجانب الآخر نجد أن أعمالها الاستفزازية تهدد بشكل مباشر لبنان والأردن وتركيا والسعودية. وتلك هى اللعبة الكبرى الجديدة فى المنطقة. وفى مواجهة هذا التهديد جاء رد فعل الدول الغربية من خلال شن هجوم عسكرى مضاد بغض النظر عن القضايا السياسية. يتحدث لويزار عن الدولة العراقية تحديدا، باعتبارها ثلاث دول على أرض عراقية هم الشيعة والأكراد والسنة. وبالطبع ليس من المجدى دعوة أهل السنة للاشتراك فى حكومة وحدة فى العراق، كما فعل وزير الخارجية الفرنسى لوران فابيوس عام 2014. إذ ليس هناك أدنى أمل فى تكرار هذا مرة أخرى. فحكومة العراق لا تمثل حاليا غير الشيعة فقط. وهنا يكمن التحدى، وذلك بفصل وتفريق العرب السنة فى العراق عن داعش. مع الأخذ فى الاعتبار رفضهم لإعادة تأسيس دولة عراقية من الممكن ألا تكون محكومة إلا من قبل الشيعة. وقد استغلت داعش من جانب آخر غياب الاستجابة السياسية من الجانب الغربى فعدم وجود مكون سياسى، هو الفخ الذى نصبته داعش للتحالف الدولى فالدول الغربية توجه ضرباتها الجوية دون تقديم حلول . ونظرا لأنها لا تملك قوات على الأرض فهى – الدول الغربية - تعتمد على الجيش العراقى والبشمركة اللذين يعدان المكون الرئيسى لتنظيم داعش. وبناء عليه فإنه على الأممالمتحدة أن تصلح الوعود الكاذبة المعطاة لهؤلاء الشعوب العربية منذ قرابة قرن من الزمان حول قضية الحدود. فوجود هذه القضايا فى طى الكتمان قرابة مائة عام يسمح للأنظمة الاستبدادية وفى ظل عدم وجود شرعية ديمقراطية بتعزيز قوة هذه الأنظمة الاستبدادية من خلال اللعب على وتر الأقليات الدينية أو العشائر أو القبليات أو كليهما. يستكمل المؤرخ الفرنسى رؤيته لتنظيم داعش واصفا إياه بأنه نوع من أنواع صراع الحضارات فهو يخوض الآن معركته الخاصة به. وهو ليس صراح حضارات بين الغرب والشرق، لكنه بين الكفار ممثلين فى حلفاء الولاياتالمتحدة مثل السعودية والأردن ومصر وغيرها، حيث يعتبرونهم من المسلمين السيئين وبين المسلمين الحقيقيين والذين من الممكن أن يكونوا غربيين. إنه تحالف ضد تحالف آخر، فالدولة الإسلامية توجه نداء مباشرا إلى الشباب الموجود فى الدول الغربية. هذا الشباب الحساس لهذا الخطاب والذى يأمل أن يكون معهم فهو يحلم بتكوين أسرة ولكن بسبب ضعف الديمقراطيات الغربية التى تلقى بالعبء كله على كاهل الشباب مما تجعله عاجز عن التصرف فإن داعش توحى له بالأمل فى مستقبل أكثر إشراقا، وبرغم أن هؤلاء الشباب يعلم جيدا أن واقع الأمر عكس ذلك نهائيا إلا أن داعش للاسف أقوى من ضعف أعدائها. وقد يتساءل البعض عن فكرة الانتحار التى تمارسها داعش ضد نفسها اذ لديها رغبة قوية فى إعلان الحرب على الجميع لإشراك أكبر عدد ممكن من الأطراف الفاعلة على المستوى الدولى حتى لو كانت اليابان نفسها. ولكن يتضح من ذلك أنها ليس لديها وجهة نظر على أرض الواقع، وهذا يجعل الجميع يتساءل على إمكانية القضاء على استراتيجيتها خصوصا مع إمكانية استفزازها لبعض الدول ذات المواقف الملتبسة أصلا مثل تركيا وقطر والسعودية على حد تعبير المؤرخ الفرنسى. فى النهاية يخلص "لويزار" إلى أن هزيمة داعش أمر لامفر منه، لكن ما يجب أخذه فى الاعتبار إنها قوية ليس بسبب قوتها العسكرية ولكن بفضل عدم الترابط والتنسيق بين الذين يواجهونها.