حسناء الجريسى بهدوء وتواضع وكلمات تقطر أدبا، وتدل على وعى كاتب مثقف، تحدث الروائى محمود عوض عبد العال عن بداياته فى عالم الأدب، مستغرقا مع شخوص روايته، معتمدا على تكنيك تيار الوعى، الذى يعتبره الواقعية الحقيقية للكتابة، للدرجة التى جعلت يحيى حقى يقول له: «أشفق عليك من هذا اللون من الكتابة فهو الأنسب لك عندما تتقدم فى العمر»..يرى عوض عبد العال أن الدولة مقصره فى حقه، ولابد من إعادة النظر فى جوائز الدولة، ويتحدث عن أولى رواياته «سكر مر» تلك الرواية التى تناول فيها حياة المصريين بعد نكسة 1967 إضافة إلى روايته "ضابط احتياط" التى تعد بمثابة سيرته الذاتية، حيث يحكى فيها تجربته فى التجنيد. «الأهرام العربى» أجرت هذا الحوار مع محمود عوض عبد العال فإلى التفاصيل. متى بدأت رحلتك فى عالم الأدب؟ البدايات الأولى كانت فى قصر ثقافة الحرية فى الستينيات فى الإسكندرية، كنا نلتقى يوم الإثنين فى ندوة لمناقشة وقراءة القصة القصيرة، وكان المناخ العام فى ذلك الوقت مشحونا بالمد القومى الثورى، كنا نتبارى كمجموعة من الشباب فى متابعة كل ما يكتب فى القصة، فى هذه الفترة كنت فى مرحلة الثانوية العامة، ثم التحقت بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، ولحسن حظى وجدت فيها مجموعة من الأساتذة العائدين من لندن، والحاصلين على رسائل الدكتوراه من هناك، وكانوا يتبنون منهج الحداثة والمعاصرة فى الأدب العربى، فضلا عن وجود آخرين متخصصين فى الدراسات العميقة بالكلية أمثال د. حمدى السكوت وعبدالحكيم حسان، كنت أدير ندوة أسبوعية بالكلية يحضرها هؤلاء الأساتذة، ونظرا لعلاقتى الشديدة والوطيدة بيوسف إدريس استضفته فى الكلية فى لقاء موسع حضره كبار الكتاب وترأس المؤتمر د. حمدى السكوت، وكان ذلك بمثابة نقطة انطلاقة لي، فى مرحلة مبكرة من عمرى فكتبت روايتى الأولى "سكر مر" عام 1969 وكانت مخطوطة وعرضتها على د.حمدى السكوت فأعجب بها، ما دفعنى لأطلب منه أن يكتب لها مقدمة، وعندما قرأت المقدمة التى كتبها، وجدتنى إنسانا آخر، فقد كشف لى المستور من خبايا أسرار الوعى الذى بداخلي، هذه المقدمة نبهتنى لمتابعة الإبداعات العالمية، ثم طبعت الرواية ودهشت من ردود الفعل حيث كتب عنها فى العراق وسوريا ولبنان، ومن هنا بدأت رحلتى مع الكتابة. روايتك "سكر مر" تناولت مجرى الحياة بعد النكسة.. فما المغزى من أن تترك الرواية مفتوحة؟ هل كنت تقصد هذه النهاية لتكون بداية لعمل آخر؟ الرواية تناولت مجريات الحياة بعد نكسة 67 وتضمنت مجموعة من الشخصيات كلها تبحث عن هدف، والأهداف متنوعة بين كل منهم، لكن فى نهاية الرواية لم ينجح أحد منهم فى تحقيق هدفه، لكننى تركت الرواية مفتوحة النهاية، لأنى وجدت أن المجتمع المصرى فى ذلك الوقت يسقط فى عقله، كل شخصية تشعرك بأنها فاهمة كل شيء عن كل شيء، صدمة 67 كانت عنيفة لمثل جيلي، ذبحت فينا كل الآمال والتطلعات التى أوقفت شعورنا النضالى نحو بناء بلدنا، حيث كانت تسيطر حالة من الغموض والضبابية على الفكر فى ذلك الوقت. روايتك "ضابط احتياط" هل هى سيرتك الذاتية؟ هى تحكى الجزء الخاص بالتجنيد منذ اليوم الأول عندما ذهبت للحلاق لأستعد للذهاب إلى الجيش، وقال لى اقطع السبابة حتى لا تدخل الجيش، وهذا يعنى أن المناخ العام كان مليئا بالخوف، وكان وقتها التجنيد يمثل لنا مرارة، لكننا كنا نلبى نداء الواجب الوطني. كنت تشعر أثناء نكسة 67 بالمرارة فما حالك عند اندلاع ثورة 25يناير؟ كنت سعيدا للغاية بثورة 25 يناير فهى تؤرخ لحقبة جديدة، بعد فترة كانت مليئة بالرشوة والمحسوبية وانسحاق المواطن البسيط الذى لا ظهر له، كان أملنا فى أن تنجح هذه الثورة، ونحمد الله أنها استكملت بثورة 30 يونيو، وذلك بفضل الرئيس السيسى الذى راهن بحياته ومستقبل أسرته من أجل إنقاذ مصر، نحن قبل ثورة يناير كنا كمن يسقط من أعلى التل. هل كتبت شيئا يتناسب مع الثورتين؟ كتبت قصتين الأولى بعنوان "العريس الأخرس" والثانية " تخنوه" فى الأولى أتحدث عن العربجى الذى صنعوا له مقاما، فى تكنيك تيار الوعى هذا يمثل ما كان يحدث قبل ثورة 25 يناير، أما "تخنوه" فكانت تمثل ما بعد 30 يونيو. تعتمد بشكل لافت للانتباه فى كتاباتك على تكنيك تيار الوعى لماذا تتبنى هذا النهج؟ تيار الوعى فى نظري، المناجاة الباطنية أو الحوار الذاتي، هذه المناجاة تتصل بالشعر من ناحية أنها ذلك الحدث الذى لا يقول ولا يسمع لأنه يحدث بين الإنسان ونفسه، هذا الإنسان الآخر أحاوره وأناقشه ليصل بى إلى ما يجول فى عقلى، وهذا يعد تعبيرا عن الحالة المكنونة والأفكار المعلقة على رف العقل الباطن، فهو نوع من التحليل النفسى يقوم به الإنسان دون التقيد بزمن متسلسل أو مكان أو تتابع منطقي، كلام مباشر لا يخضع لأى تحديد، كل ما يرد على الذهن فى صورة مرتبة أو فى صورة لا تتبع فى أسبابها النتائج ولا تعترف بالمنطق ولا يأتى فيها الماضى سابقا للحاضر أو الحاضر سابقا للماضي، بل ترد إليك دقات السكون قطعة قطعة مختلفة فى الأحزان والنغم والرائحة ، كاتب تيار الوعى تحركه المناظر والموضوعات، عن طريق التداعى تختلط الأمكنة بالأزمنة وتصيران شيئا واحدا، وهو ما يطلق عليه مجرى الحياة، وهنا الكاتب لا يحرم نفسه من الانفعالات والأحاسيس والصور الذهنية، سواء الصادرة منه أو الواردة إليه، فهى كلها غير مقيدة بأى قواعد، أى يمكننا القول إن تيار الوعى هو الواقعية الحقيقية فى الكتابة. ألم تندم على تبنيك لأفكار هذا التيار واستخدامها بشكل دائم فى كل أعمالك خصوصا أنك لم تأخذ حقك مقارنة بأبناء جيلك؟ صحيح الفترة الزمنية طويلة منذ أن بدأت الكتابة وحتى اليوم، ولم أحصل على أى تكريم مادى أو جوائز سوى بعض شهادات التقدير لكن ما أسعدنى هو وجود عدد كبير من رسائل الماجستير والدكتوراه التى تناولت أعمالى الأدبية منذ سنتين كان هناك رسالة ماجستير بالإنجليزية عن تأثير تقنيات جويس وفرجينيا وولف فى أعمالي، وفى جامعة الأزهر هذا العام كانت هناك مناقشة لرسالة ماجستير تحت عنوان "محمود عوض قاصا" فهل تتخيلى أن جامعة الأزهر تقوم بدراسة عن الأدب تتناول قصصى بشكل علمى دقيق، هذا الحصاد الذى خرجت به من الرحلة ، لكنى أعتبر أن الكتابة بهذا الشكل هى التنفس الطبيعى لي. هل لعب الفن التشكيلى دورا فى أعمالك الأدبية؟ الإسكندرية هى مدينة الفنانين التشكيليين، كنت على تواصل مع معظم رواد الحركة التشكيلية هناك، كنت أقضى ساعات طوال فى مراسم وجاليريهات هؤلاء الفنانين، وفى تقديرى الشخصى من لا يتابع الحركة التشكيلية فقد نصف ثقافته، فالفنان التشكيلى هو أكثر حرية عن غيره لا يتقيد بقيود، كنت دائما أحسدهم على هذه الحرية، هذا فضلا عن طاقة الصبر التى يتمتعون بها والدقة الشديدة، فضلا عن تميزهم بالتواضع الشديد تعلمت منهم أن فهم الحياة يأتى من إنتاج اللون والحجر. هل لعب دورا فى رسم شخوص روايتك؟ نعم كنت أجمع كل مجلات الفن التشكيلى وأضعها فى شنطة بلاستيك تحت السرير وكل يوم كنت أنظر عليها فكانت تشحننى وتملأني، وهذا كان يريحنى نفسيا، أذكر لك سيف وانلي، كان يحتفظ بمجلات الفن التشكيلي، وعندما تأتى له رواية لا يعجب بغلافها، كان يلصق على الغلاف رسمة من اختياره. تعتبر الكتابة جلسات علاج صوفية فهل هذا له علاقة بحفظك للقرآن الكريم؟ الكتابة تريحنى لكن فى الوقت نفسه تعذبني، عندما أنتهى من عمل روائى لا أحب مشاهدته حتى أتخلص من الموجات التى كانت موجودة أثناء الكتابة، فهى مرهقة بشكل غير عادي، عندما تتملكنى الحالة أكتب، فالشخصية تظل معى طوال الوقت حتى أنتهى من العمل، القرآن جعلنى أستشعر الكلمة، فاللغة العربية لغة الصوتيات ومن لا يقرأ القرآن جيدا لا يكتب جيدا. كيف كانت علاقتك بالأديب الكبير يحيى حقي؟ كانت علاقة قوية للغاية عندما ذهبت له ومعى مخطوط رواية "سكر مر" قال لى "لا أستطيع قراءتها، نظرى ضعيف، تعال لى فى البيت"، وبالفعل ذهبت إليه فى منزله بروكسي، كنت أقرأ له خمس صفحات فيطلب منى إعادتها ثانية ثم قال لى "أشفق عليك من هذا اللون فى الكتابة، وأعتقد أنه من الأنسب أن تكتبه عندما يتقدم بك العمر". ناقد عراقى عمل مقارنة بين رواية سكر مر "وميرامار" لنجيب محفوظ، وقال إن نجيب محفوظ تأثر بمحمود عوض عبد العال فى تكنيك تيار الوعي. كيف ترى كتابات الجيل الحالي؟ هناك أعمال روائية لكاتبات، وجدت تهليلا نقديا لها لسبب يرتبط باختراق المحظور الجنسي، بالرغم من تواضع المستوى الفني، وهذا تحطيم لمسيرة الرواية، هناك من يكتب للمتعة الذهنية ومن يكتب للبزنس.