مصطفى عبادة فى كتابه غير المشهور «الجنس والشاب الذكى»، يروى كولن ولسون حكاية طريفة، ذلك أن مجموعة من الشباب استأذنوا آباءهم فى إقامة حفل بمناسبة عيد ميلاد صديق لهم، ووافق الآباء بعد تأفف، واشترطوا أن يحضروا معهم الحفل، وقد كان، جلس الآباء الشيوخ على مقاعدهم يراقبون الشباب وهم يضحكون ويرقصون ويغنون، واستمر الحفل على هذه الوتيرة، فهمس أحد الآباء: متى يخلعون ملابسهم؟ ذلك أن الآباء كانوا يمنون أنفسهم بمشاهدة حفل جنسى جماعى، وهو ما لم يحدث، وأصابهم الإحباط، فقد تصور الكبار أن حفلا للشباب لابد وبالحتم سينطوى على ممارسات جنسية. هذا التصور من قبل الآباء، وكسر التوقع من قبل الشباب، هو القانون الذى يحكم العلاقة بين الجيلين، الكبار يتصورون أن الشباب منحل، والشباب يكرهون تزمت الآباء، وفى المنتصف تضيع رغبات وتطلعات حقيقية ومشروعة، وإذا تذكرت أن «ولسون» يتحدث عن مجتمع إنجليزى، مفترض فيه الانفتاح، فعليك أن تتخيل تصورات الآباء الشرقيين عن حفلات ورحلات أبنائهم، وستعرف مدى العنت والتضييق والنظرة الكارثية لجيل الشباب فى مصر، والوطن العربى، فلا الشاب من ناحيته مستقل فى قراره الاقتصادى، وبالتالى ما يتعلق ببقية حياته عن أبيه، ولا الأب متقبل لفكرة استقلال ابنه من الأساس، عدم الاستقلال الاقتصادى ستتبعه بالضرورة عبودية من نوع آخر أشد وأقسى. فيما يسمى ثورة يناير فى مصر، وقف شاب فى قلب ميدان التحرير يحمل خشبة عليها «يافطة»: «ارحل عايز أتجوز»، كان هناك مثله آلاف آخرون محرومين من الزواج، ويرغبون فيه، ولا يطيقونه، فخرجوا إلى الشوارع غاضبين ثائرين، مع أن الثورة لم تأت لهم بالزواج، وإن وعدتهم به، ولم تف بوعودها، وما بين وعد الثورة وإحباطها، ظلت المشكلة، وظلت إمكانات وأسباب الغضب كامنة، ولا حل، والدعوة للاستقرار والانتظام فى صف بناء الدولة، تعنى التخلى عن الذات، ووضع الرغبات فى أطر وسياقات اجتماعية قائمة على الإكراه، وعدم الاختيار الحر فى تحديد السلوك الاجتماعى، باختصار وفى جملة واحدة قالها هربرت ماركيوز فى كتاب الحب والحضارة: إن مراقبة غرائز الحياة وتقييد اللبيدو إنما كان دائما تعبيرا عن القمع ولمصلحة إرادة السيطرة، كما كان أداة لاستمرار القمع والسيطرة، وهو الأمر الذى سيتحول مع مرور الوقت إلى قنبلة شديدة الانفجار، ستشتعل فى وجه الجميع، فالحب الأفلاطونى كما يقول رايش، هو: «تصويب دائم دون الضغط على الزناد». وساعة الضغط على الزناد لن تعرف من أين أتاك الطوفان. لكن ما ذنب السلطة السياسية فى كل ذلك؟ الواقع المصرى يخبرك بأن السلطة السياسية أكثر تقدمية من السلطات الأخرى: الاجتماعية بالتحديد، ثم الاقتصادية، هيمنة رأس المال، ومخاطبة الغرائز فى الوقت نفسه من قبل رأس المال نفسه، ثم وهو الأدهى السلطة الدينية ذات الصبغة الشعبوية، وهى النمط السائد عندنا، وبالتالى تتحول المشكلات النفسية إلى مشكلات سياسية. ولو أننا فى دولة رشيدة لانتبه أحدهم منذ حادثة «فتاة العتبة» إلى خطورة المعنى السياسى الكامن وراء الفعل، ولأننا نؤمن بالحلال والحرام وفقط فى تفسير أمور دنيوية مستجدة، تم تهميش علمى الاجتماع والنفس، بل وإقصائهما تماما من تفسير الحادث، وتم تفسيره تفسيرا دينيا مريحا، وهو ضعف القيم الدينية لدى الشباب، ما يعنى أن يتقدم رجال الدين لتقوية هذه القيم، وتتراجع الدولة وتموت العلوم المعنية بتفسير الظواهر، حتى وصلنا إلى أن صار التحرش ظاهرة مصرية بامتياز، ومرة أخرى لا يريد أحد أن يرى كالطفل الملك عاريا، متغافلين عن البعد الاقتصادى، والحرمان السياسى لدى جيل المتحرشين، وحتى لم ينتبه أحد إلى أن وقائع التحرش دائما ما تقع فى الشوارع المشهورة بكثرة المحلات، كجامعة الدول العربية وطلعت حرب، التى يسير فيها الشباب ويشاهدون السلع الغالية، ولا يقتربون منها بالشراء، فيحولون طاقة الحرمان لديهم إلى عنف موجه إلى قطاعات اجتماعية نوعية كالمرأة، فيتم التحرش بها. وبناء عليه تنشأ ظواهر فرعية، تتخذ طابعا سياسيا، ويوجه اللوم فيها إلى المسئولين مثل الإلحاد، والشذوذ، وانتشار الخرافات المتعلقة بالجن والأشباح والمس، ويعيش رجال الدين هانئين من عائد ما يقدمونه من علاج لهذه الظواهر، ويدفع السياسيون الثمن، ونظرة واحدة على القضايا والأبحاث التى يجريها مركز الدراسات الاجتماعية فى الكيت كات، وما يحويه من قضايا تجرى تحت سطح المجتمع المستكين، وتتحول بعدم معالجتها بمرور الوقت إلى قضايا سياسية بامتياز كفيلة بأن تجعلك تشعر بالإحباط واليأس، من أى مستقبل مشرق لهذا الشباب، فتحت هذا السطح الهادئ، هناك كوارث تتعلق بتجارة الجنس فى مصر والعالم العربى، وقضايا الخيانة الزوجية، والقتل بسبب الجنس ولأجل الجنس، وتعاطى المخدرات والفياجرا، فيضان مريع فى مجتمع متدين بالفطرة، واخترع الآلهة، وحمى الأديان، وتستمر الحال على ما هى عليه، مادام لا يعلم بها أحد. المدهش أن المجلة الألمانية الشهيرة «دير شبيجل» التقطت هذا الخيط، بعدما جرى فى مصر وتونس من ثورات وقالت بالنص: «إن جيلا من الشباب يقوم بها - أى الثورات - لتخطى المحرمات فى العلاقات الجنسية، مدللة على ذلك بمشاهدة، عدة وحوارات نقلتها من مدن عربية مختلفة. وقالت المجلة نفسها: إن هناك ثورة جنسية ناشئة فى العالم العربى يقودها جيل من الذكور والإناث الرافضين لمجموعة من الضوابط الأخلاقية والدينية و الاجتماعية، وقرروا الانطلاق فى الحياة وممارسة المحرم بشكل سرى بعيدا عن العيون والرقابة. سؤال آخر، هل كان للانفجار الجنسى، دور فى غضب الشباب الذى انفجر فى يناير وما بعدها؟ نعم وبقوة وأخذ ذلك مظهرين، الأول كثافة حوادث التحرش والتعبير عن الحرمان بالعنف، والثانى هو التجلى الثقافى الذى ظهر فى مجموعة من الأعمال الأدبية قصة وشعرا، وهى ظاهرة لم يقف أمامها أحد، وقد أحصيت مجموعة من الأعمال فى عام 2010 وحده، أى قبل ثورة يناير بشهور مثل: «بالنيابة عن جسدى»، و«هوس»، وهى عبارة عن معزوفة جنسية خالصة تتم تحت التعذيب، وفى عيادة طبيب نفسى عبر فيها الراوى عن كل إحباطات جيله الجنسية، من خلال هلوسات مريض نفسى، وهى حيلة روائية معروفة، وكذلك كتاب «أنا أنتى» وروايات محمد علاء الدين، وكتاب مصطفى فتحى المهم، الذى دق ناقوس الخطر لمشكلة المثليين فى مصر، وهو «بلد الولاد»، وفى الندوة التى عقدت لمناقشة الكتاب كان 70% من الحضور من الإناث، وعبرن عن غضبهن من المجتمع ووعدت إحداهن بكتابة تجربتها مع المثلية وعدد المثليات فى مصر، فالأمر ليس حكرا على الرجال، كما قالت، هذا الشباب كله ترك دون حوار، ودون توعية، وهنا يأتى تقصير وخطأ وجريمة مؤسسات الضبط الاجتماعى، الثقافية والدينية والسياسية، وعليك أن تتخيل ما الذى يمكن أن تؤدى إليه هذه الفوضى الاجتماعية، أو ما الذى يمكن حدوثه لمجتمع تحل فيه الشعارات محل الأفكار. هناك أيضا الكتاب الأزمة وهو «الحب المحرم»، المثليين فى العالم العربى لشاب أمريكى، جاب المنطقة ورصد الظاهرة، وهو الكتاب الذى كان يتم تداوله بشكل سرى بعد أن جرت مصادرته، وجئ برجال الدين للرد على خرافاته، وكيف أن مجتمعنا محافظ ومتدين، ولم يناقش أحد أصل الداء، ومازال الكتاب يتداول بين قطاعات واسعة من الشباب بعد أن تم تزويره بآلاف النسخ. لم يكن ذلك الغضب مقصورا على الشباب الدينى أى غير المنخرط فى جماعات دينية، ولدينا فى ذلك إشارتان مهمتان، الأولى من أسامة درة، الذى انشق عن الإخوان وكتب تجربة قمعه العاطفى داخل الجماعة فى كتاب «من داخل الإخوان أتكلم»، وحكى كيف أن الإخوان كان يحرمون عليه الحديث مع الفتيات، وكذلك فإن الحب محرم داخل الجماعة، مما دفع قطاعات عريضة من الشباب للتمرد على الجماعة، وقد شاهدتهم فى مناقشة كتاب أسامة درة، وفيه اشتكت مجموعة من فتيات الجماعة عن قمع «العموهات»، هكذا نطقتها إحداهن (جمع عمة)، وتحول الآن أسامة درة إلى محلل نفسى جنسى عبر مدونته الجنسية على الإنترنت، وهو صاحب تعبير «التحليق فوق الأديان»، وقد سبق أسامة درة شاب آخر من الجماعة الإسلامية، الذى تحول روائيا فيما بعد هو خالدالبرى، الذى وثق تجربته فى كتاب «الدنيا أحلى من الجنة»، وانشق عن الجماعة الإسلامية بسبب القمع العاطفى الذى حكاه، وهناك عشرات الكتب التى كانت تعبر عن ظاهرة الغضب الشبابى بسبب الحرمان الجنسى، أو المطالبة حتى بالحرية الجنسية، وليس الزواج فقط، سبقت وتلت ثورة يناير ولاتزال. وأخيرا سيعترض البعض، ويتهمنا بالإباحية، ولا نملك إلا أن نحيل المعترض إلى كتاب «إلى الجحيم بالثقافة»، لهربرت ريد الذى خصص فيه فصلا كاملا لمشكلة الإباحية ودور الطاقة الجنسية فى إشعال الغضب، وصولا للثورة. على الجانب الآخر، فى سنة حكم الإخوان كان الشباب يستمع إلى الخطاب الأخلاقى لهم مع السلفيين، لكن ما كان يشاهده من ممارسات على الأرض كان عكس ذلك تماما، وفى حادثة الشيخ على ونيس الشهيرة كلام كثير، وأنف البلكيمى الذى ما إن دخل مجلس الشعب حتى سارع بإجراء عملية تجميل أنف، وكذلك كان أغلب أعضاء الإخوان، يشجعون الزواج المتعدد، فيما الشباب لا يجد قوت يومه، وهو ما يشبه وضع التصويب الدائم دون الضغط على الزناد.