تهانى صلاح شعاره فى الحياة "أنا أكتب إذن أنا أحيا.. أنا أعشق إذن أنا فى شباب "ولوعا بالعناوين العربية الغنائية القديمة، أثرى المكتبة العربية بما يزيد على السبعين مؤلفا وضعها هذا الشيخ الذى جاوز السبعين بسبعا، ولا يزال يشعر بشبابية وصبا خفيا يختلج بين عروقه، ولا يزال يعد نفسه وينتظره الكثير من المشاريع، لا تفارقه الكتابة ولا العشق يقول :لم أشعر مرة أننى بعد أن عشقت ذات مرة أننى توقفت، لكن كل عشق يفتح لى عشقا آخر ويستمر مع حياتى الشابة المتواصلة، يرى أنه ليس هناك عزيز فرد لدى إبداعاته، هناك لحظات وقصائد وبعض المقطوعات الشعرية، كل ديوان له موقعه وله خصوصيته وله أثره، لأن دواوينه وكل كتبه بمنزلة الأولاد، يذهب الأولاد ويعوقوننا كثيرا، وتبقى القصائد والكتب شاهدة وفية مخلصة، لا يؤثر عليها غبار الزمن، بل تبقى تنتظر من يقلب صفحاتها لتخبر عن صاحب هذا الأثر. هذا هو الشاعر والكاتب اللبنانى ياسين الأيوبى الذى أصدر موسوعة شعراء لبنان التى اختصر من خلالها شعر وشعراء لبنان منذ عام 1950 حتى اليوم..التقته الأهرام بمدينة مراكش المغربية فى ملتقى الشاعر أبى تمام الطائى الذى أقامته مؤسسة البابطين للإبداع الشعرى وكان هذا الحوار . قمت بعمل موسوعة "شعراء لبنان فى النصف الثانى من القرن العشرين" فما السبب وراء إقدامك على هذا العمل ؟وكم استغرق من الوقت ؟ الموسوعات ليست من عمل المبدعين، وليست من عمل الكتاب والنقاد الذين يهتمون بالغوص إلى الأعماق، إنما من عمل الذين يمسحون المعلومات ويصنفون ويسهمون فى نشر المعارف. ولكنى كشاعر عميق الشعور بعيد الغوص فى أغوار النفس الإنسانية، وكنت أحد من أسس جمعية شعرية فى لبنان باسم"منتدى طرابلس الشعرى "أعلنت ذات مناسبة عن التوجه إلى كل شعراء لبنان لكى نجمع نتاجهم ونصنفه ونضعه فى أطره، كل شاعر على حدة، لأن هذا كان من أهداف منتدانا فى أن نطل ونتفاعل مع الحركة الشعرية فى لبنان وإلا ما كان لنا سبب فى الوجود، وبدأت العمل مع عدد من الكتاب والزملاء الشعراء الذين كانوا معى فى المنتدى. وانطلقت العملية من منطقة قريبة من طرابلس تسمى منطقة "الضنية" وفيها عدد كبير من الشعراء الشباب بخاصة والكبار بعامة فتكلف بذلك شاعر وزوجته وهى أستاذة بالجامعة اللبنانية، وكانت بعنوان "الحركة الشعرية فى قضايا الضنية" وعلى هذا الأساس انطلقنا إلى بقية الأضنية فى لبنان وعددها ما يزيد على العشرين بقعة جغرافية، وقررت أن يساعدنى فى كل قضاء باحث أو كاتب فى جمع الأعمال الشعرية ودراستها ..وهكذا قيد لى أن يرافقنى أكثر من عشرين باحثا وكاتبا لبنانيا كشأن باقى الموسوعات، وبذلك توافرت لدى معلومات شتى عبر خمس سنوات متواصلة كنت أتقبل وأتسلم المعلومات وأراجعها وأشذب ما فيها من أخطاء، فتجمع لدى 2400 صفحة قسمت إلى ثلاثة مجلدات كبرى وتحصل لدينا ما يقرب من خمسمائة شاعر وشاعرة. وما النتائج أو الملاحظات التى توصلت إليها من خلال هذا العمل ؟ بداية هذه الموسوعة لم تكن دراسة نقدية أو تقيميه تزن الأصوات وتصنفها، ولكنها كتابا توثيقيا يؤرخ لحركة الشعر فى لبنان خلال فترة زمنية محددة، ومن النتائج التى تحصلت لدى أن نصيب الشاعرات كان قليلا جدا برغم أن الشاعرة فى لبنان على قدر كبير من الطاقة والتعافى، ولكنهن لم يكن متوفرات على عكس ما كنت أتوقع، النتيجة الثانية أن الشعر فى لبنان كان نوعا من الانطباع الحى الفاعل للبيئة الاجتماعية والطبيعية، ومعظمه كان شعر حب وطبيعة وبعضه شعر وطنيات ومناسبات. قالوا قديما إن الشعر ديوان العرب.. فكيف تنظر للشعر الآن؟ أنا مع القول السائد قديما الشعر ديوان العرب، لأن العرب كانوا يعلقون أهمية كبيرة على الشعراء ويكرمونهم لما كانوا يقدمونه من تفاصيل وتأريخ وعرض لكثير من الأمور والأحداث والمفاصل التاريخية، وهذا شىء لا مجال للجدل فيه. أما شعر اليوم فهو شعر زمن متحرك، شعر أحوال وظروف ليست متكاملة فى سيرها الطبيعي، وشاعر اليوم هو ديوان نفسه وليس ديوانا للأمة. فإذا أردت أن تعرفى شاعرا إقرائى قصائده فقصائدى منذ السبعينيات حتى اليوم طبعت كل ما تعرضت له من أحوال وانتكاسات، ومن صراعات وقدمت خطا بيانيا واضحا عن مسيرتى الحياتية . اللغة العربية هى عامود الشعر وكبار الشعراء يمتلكون حصيلة لغوية ضخمة فكيف ترى محصلة شباب الشعراء اليوم من تلك اللغة ؟ لا شعر بلا لغة، فاللغة هى أداة التعبير، ومن لا يملك أداة التعبير لا يحق له أن يمتطى حصان الشعر، وعليه أن يمشى على قدميه أو يقعد، أما أن تكون شاعرا فعليك أن تتسلح بثروة لغوية هائلة، وترتبط مباشرة بالتراث، فمن لا يملك لغة تراثية يكون شعره كمن يستخدم المراهم بدل الأدوية. ولغة الشعر اليوم لغة مبسطة تقترب من التسطح، وشعراء اليوم يتجنبون اللغة التى تنطوى على الأصالة والبلاغة والفصاحة، لأن هذا يكلفهم الغوص إلى التاريخ والاطلاع على تجارب الشعراء القدامى. والموهبة وحدها لا تصنع شاعرا لكنها تكون عود ثقاب إن لم تقدحه مع ثقاب آخر لا يصنع نارا، لابد مع الموهبة من تجربة ومعاناة وممارسة، ولدينا بعض الشعراء الجيدين، لكن بعضهم استطاع أن يعوض اللغة التراثية البلاغية الزمخشرية الفصيحة ببعض الأداءات التمثيلية، وعلى الشاعر الحقيقى أن يتجنب كل هذه المظاهر التمثيلية الاستعراضية. لك قصيدة مطولة سمَّيتها "الأفعوان".. فما مغزى هذا العنوان؟ أقصد بها الأفعى وهى طويلة ومثلت صراعا قويا شديدا بذاتى عقب الحرب الأهلية، خصوصا بعد أن هجرت لبنان فى عامى 76 – 77 وكتبت القصيدة وكانت محاولة للخروج من الصراع الداخلى، ولم أستطع أن أنجو من هذا الأفعوان - الذى هو مرض العصر والكابوس الذى كان يحتلنى - إلا بأن اتخذت شكل أفعى أخرى وصارعت إفعوانياً بأفعوان آخر ولد فى ذاتى كى أتغلب على القوة المدمرة التى كادت تعصف بى، فقتلت الثعبان وانتصرت عليه، وهذه حالة من حالات الشعر الذى يترجم حقيقة الذات. لأعمالك الشعرية نكهة خاصة منها ديوان"منتهى الأيام"، "آخر الأوراد"، وديوانك الأخير"تقاسيم على خد الأصيل" فما سر هذه النكهة ؟ فعلا هذه الأعمال الشعرية الثلاثة لها نكهة خاصة استولدت من الجو العام، وديوان منتهى الأيام هو تأريخ لقصة حب عظيمة ولكنى كتبته بعد عشرين عاما، وبعدها بخمس عشرة سنة وقعت فى حب جديد وأنا فى الرابعة والستين فكتبت ديوان "آخر الأوراد" بمعنى أن حبى كان وردا طقوسيا عباديا، وقيل لى إنه لن يكون آخر الأوراد لأنك لا تستطيع أن تقف عند هذا الحد، وبالفعل بعد بضع سنوات كتبت ديوانى الأخير"تقاسيم على خد الأصيل" وهو عبارة عن فصول متأججة من سيرة الحب الأخير وملحقاته، فأنا عندما أعشق أتعبد، وهذا هو سر ما أنا فيه. كيف أثر الربيع العربى على المبدعين وحركة النشر فى بيروت؟ هذا الربيع صفقنا له ورحبنا به لأننا نرفض الاستبداد والتكلس فى الحكم، انطلق عن صدق وعفوية وإخلاص لاشك، ولكن لن يسمح له بالانطلاق فقمع ودفن ولحد فى مهده، ولم يعط الربيع العربى شيئا يستحق الذكر للكتاب والمبدعين فيما يخص إنتاجهم ونشر ما يكتبون، والآن ستجدين عشرات الكتب المخطوطة فى أقبية الإهمال داخل بيوت المؤلفين، فلم تعد دار نشر واحدة فى لبنان تطبع كتابا إلا على نفقة مؤلفيه، وهذه من كوارث ما أصبنا به أخيرا. وأنا لدى ثمانية كتب بقائمة أعمالى لم تصدر بحجة أنه ليس هناك قراء، ولا يوجد سوق للتسويق. بعد حياة إبداعية حافلة بالعديد من المؤلفات.. هل الحياة الثقافية أعطتك بقدر ما أعطيتها؟ ليست هناك من معادلة سليمة أنا أعطيت أكثر مما أخذت، ولكن أخذت ثقافتى وقرأت مئات وألوف الكتب، ومكتبتى الآن تضم عشرين ألف عنوان، ربما معظم حكوماتنا العربية لا تعطى الشعراء والأدباء والمفكرين ما يستحقون، والمؤسف أنهم يكرمونهم عشية رحيلهم أو بعد رحيلهم، كما كرم الشاعر جورج جرداق وهو يرقد فى سريره فى أحد المستشفيات، والتكريم جاء من مؤسسة كويتية ولم يأت من الدولة. والقضية ليست قضية تكريم أو مكافأة، ولكن القضية أننى فى شعرى أثبت وجودى، وأكدت حقيقة حضورى فى هذا العالم، ولا يهمنى ماذا آخذ ولكن يهمنى ماذا يبقى منى ومن شعرى بعد أن أرحل. ما آخر مشاريعك ؟ أنا الآن بصدد جمع كل ما كتب عنى منذ ما يقرب من خمسين سنة، وقد تجمع لدى ما لا يقل عن ألف صفحة وقد سمّيته "سقى الغمام فيما خطته الأقلام فى أدب ياسين الأيوبى". ولدى مجموعة أخرى من المقالات والدراسات والبحوث، بالإضافة إلى كتبى المخطوطة التى لم تطبع بعد. وسأظل أكتب ما دمت أملك الطاقة والحركة والكتابة، وأرجو من الله أن يحفظ يدى وعقلى ولسانى وهذا منتهى ما أرجوه من الله سبحانه وتعالى.