مصطفى لغتيرى لا أحد تقريبا يجهل بأن كلا من الأدب والسينما ينتميان إلى الفنون الجميلة، وهذا يعنى أن هناك ما يوحدهما، فانتماؤهما معا إلى هذا الفرع الكبير من الثقافة الإنسانية لا يمكن أن يأتى عفو الخاطر، بل لابد أن يكون هناك ما يبرره. وإذا ما دققنا النظر فى هذا الانتماء وتأملنا فى نفس الوقت هذين الفنين كليهما، ستستأثر باهتمامنا-بدون شك- كلمة فن التى تجمع بينهما، والتى يمكن تعريفها بكونها التعبير عن عمق الكينونة الإنسانية بأشكال إبداعية متنوعة، تتجاوز متطلبات عيش الإنسان اليومية، لتنغمس فى تأمل ماهيته النفسية والوجودية والروحية. ولعمرى فالإنسان نتيجة لاهتمامه بهذا الفن يحقق إنسانيته من خلال الرقى والتعالى على حيوانيته ورغباته الغريزية الملحة. ينقلنا هذا التعريف مباشرة إلى الأدب والسينما، وسوف نضرب صفحا عن الاختلافات الكثيرة والظاهر فيما بينهما، والتى يضيق المجال لحصرها فى هذا المقال، ويكفينا -بالمقابل- التوقف عند ما يجمع بينهما وهو بالأساس الطابع الإبداعى، الذى يميز كلا منهما، فالأدب فن إبداعى أداته الكلمة، والسينما فن إبداعى كذلك، لكن أداتها الصورة، كما أنهما يشتركان معا فى خاصية الخيال، التى تجعل كل منها قابلا للوجود، فلولا الخيال لما كان هناك أدب أو سينما، فكل من ممارسى هذين الفنين يتميزون بقدرتهم الفائقة على الخلق، إذ أنهما ما ينفكون يبهروننا بحيوات جديدة يبرعون فى اجتراحها، تجعل الاهتمام بهما له ما يبرره. كما أن كلا من الأدب والسينما -وأتحدث هنا عن الرواية والقصة كجنسين أدبيين- يتميزان بطابعهما السردى، والذى لا يعنى سوى تطوير أحداث تقوم بها شخصيات، تنطلق من نقطة معينة وتنتهى فى نقطة أخرى، دون أن يعنى ذلك تطورا كرونولوجيا خاضعا للزمن الطبيعى، الذى يبتدئ من ساعة معينة لينتهى فى ساعة أخرى، وتكون الأولى متقدمة عن الثانية زمنيا، بل يمكن لكليهما توظيف الزمن النفسى كذلك، الذى تتداخل فيه الأزمنة بشكل قد يصيب بالإرباك أحيانا، كما يمكنها الانطلاق من النهاية ليصلا فيما بعد إلى البداية المنطقية للأحداث. ولعل هذه الخاصية المشتركة الأخيرة هى التى حفزت السينما وروادها لاقتباس كثير من النصوص الروائية من أجل تحويلها إلى أفلام، حققت –بدون شك- نجاحات مبهرة وسارت بذكرها الركبان، فأنتجت لنا ما يسمى بسينما المؤلف، وقد لمعت فى هذا الخصوص أفلام بعينها، حافظت على أسماء الرواية المقتبسة الناجحة، فأضحت أيقونات تؤشر على هذا التعاون القوى ما بين الأدب والسينما، فمن منا سينسى فيلم "ذهب مع الريح" المقتبس عن رواية للكاتبة الأمريكية مارجريت متشيل بنفس الاسم ومن إنتاج دايفيد سيلزينغ وإخراج فيكتور فليمنغ. وفيلم "العجوز والبحر" المقتبس عن الرواية الشهيرة للإيرنيست هيمنغواى، وفيلم "مدام بوفاري" المقتبس عن رواية بنفس الاسم لجوستون فلوبير، والنماذج العالمية كثيرة يصعب حصرها هنا، وهى تؤشر فى أحد مستويات التأويل إلى عمق العلاقة ما بين الأدب والسينما. وقد أدلت السينما العربية بدلوها فى هذا التوجه الثرى والباذخ، إذ عمد المخرجون والمنتجون فى مجال السينما العربية إلى الاستفادة من النبع الثر للرواية العربية، فاقتبسوا منها نصوصا لامعة، وحولوها إلى أفلام سينمائية، أضفت على الشاشة الكبرى جاذبية خاصة، وقد تحقق زخم مشهود فى هذا المجال خلال المرحلة الرومانسية، التى غزت الرواية العربية خلال النصف الأول من القرن العشرين وبعده بقليل، ممثلا بروايات إحسان عبد القدوس ومحمد عبد الحليم عبد الله، وقد كان أوج تعاطى السينما العربية مع النصوص الروائية مع التجربة الروائية للفائز العربى الوحيد بجائزة نوبل للآدب عام 1988 وأقصد الكبير نجيب محفوظ، الذى لم يكتف بمنح السينما دررا من إبداعاته الروائية لتحويلها إلى أفلام، بل كتب هو نفسه عددا من السيناريوهات للسينما. وكمثال على ذلك يمكن أن نشير فقط إلى فيلم "اللص والكلاب" الذى تم إنتاجه عام 1962 والأثر الذى خلقه فى تلك الفترة وما بعدها، لنبرز الأهمية التى اكتساها هذا التعاون الفاعل والمنتج ما بين السينما والأدب. أما بخصوص التجربة المغربية فى هذا المجال فتبدو محدودة إلى حد كبير، فالأفلام السينمائية التى اقتبست روايات كتبها مغاربة تبدو محدودة جدا ومخجلة، وقد حظيت نصوص قليلة جدا بهذا الشرف، وهى حسب علمى "جارات أبى موسى"لأحمد التوفيق و"بولنوار" عثمان أشقرا وقصة بامو لأحمد الزيادى والغرفة السوداء لجواد امديدش، وربما غيرها قليل جدا، كما أن روايتى " أسلاك شائكة" الصادرة عندارالوطن فى المغرب عام 2012 وعن دار النايا بسوريا عام 2013، والتى تناولت فيها معضلة إغلاق الحدود ما بين المغرب والجزائر، تم اقتباسها لإنجاز فيلم" الوشاح الأحمر"، غير أن مخرجها مازال يتماطل فى الاعتراف بذلك، رغم توفرى على عقد موقع من طرفها، يفيد بذلك. وإذا ماحاولنا الوقوف عند مشكل محدودية اقتباس السينما المغربية لروايات الكتاب المغاربة لتحويلها إلى أفلام، وحددنا أهم أسبابه، وجدناها فيما يلي: التكوين الفرانكوفونى لأغلب المخرجين المغاربة مما يجعل اطلاعهم على الروايات المغربية المكتوبة باللغة العربية محدودا جدا. ظاهرة المخرج المنتج الممثل الكاتب، فللأسف هناك مخرجون يفضلون القيام بكل شيء، وفى المحصلة النهائية لا يقومون بأى شيء. تأثر الرواية المغربية فى إحدى مراحلها بالرواية الفرنسية الجديدة، أو الكتابة عبر نوعية، ومن نتيجة ذلك الاهتمام المفرط باللغة الشعرية وإهمال البعد الحكائى، الذى يهم السينمائيين أكثر من غيره. عدم التعريف بالروايات الجديدة التى بدأت مع تسعينيات القرن الماضى تتصالح مع البعد الحكائى، وتنتج بالتالى نصوصا قابلة للاقتباس سينمائيا. التوجس وسوء الفهم الذى يحكم العلاقة ما بين المخرجين والأدباء، بسبب الأحكام المسبقة وتأثير بعض التجارب السيئة، التى يشتكى فيها الأدباء من السطو على حقوقهم المادية والمعنوية، فيما يشتكى المخرجون من عدم مرونة الأدباء حين يضطرون إلى إجراء تغييرات على النصوص الروائية حتى تصبح قابلة للاشتغال عليها سينمائيا. ودون التوغل فى هذا الجرد لمعيقات التعامل ما بين الأدباء والسينمائيين، نكتفى بالإمساك بخيط التفاؤل ، لنقول بأن العلاقة ما بين الأدب والسينما محكومة آجلا أو عاجلا بربط الوشائج القوية فيما بينها، خدمة للثقافة المغربية أدبا وسينما، حتى نمضى قدما فى خطوة الألف ميل من أجل خلق نصوص أدبية وسينمائية تقدم وجها مشرفا للإبداع المغربى، نكسب بفضله موطئ قدم فى المشهد الإبداعى العربى والعالمى، وما ذلك على مبدعينا بعزيز. ملاحظة: أعد هذا المقال للمشاركة به فى اللقاء المفتوح مع المخرج رضوان قاسمى المنظم فى مقهى سينى كافى بالدار البيضاء يوم السبت 14 نونبر 2014. * روائى وعضو اتحاد الكتاب المغربى