رشا عامر بطائراتها الحربية "رافال" بدأت فرنسا أولى ضرباتها لمقرات داعش أو الدولة الإسلامية فى العراق، وذلك قبل اجتماع البرلمان الفرنسى لمناقشة ذلك، فطالما لن تتجاوز مدة التدخل والضربات أربعة أشهر فلا حاجة للحصول على موافقة البرلمان الذى لم يكن قد اجتمع أصلا قبيل بدء الهجوم، لم ولن تكتفى فرنسا بهذه الضربات بل ستتبعها بالعديد منها عازمة على لعب الدور الرئيسى لمكافحة داعش - كما تصر هى على تسميتها -. لم يأت هذا الاعتزام من قبيل المصادفة بل جاء بعدما اكتشفت أن أكثر من ألف فرنسى ذهبوا للقتال فى صفوف الدولة الإسلامية، مما يعنى أنهم سيعودون يوما إلى مسقط رأسهم فى فرنسا لتنفيذ مشروعاتهم، وبالتالى فعليها أن تضمن أمنها فى مواجهة هذا التهديد الذى يشكله مقاتلو الدولة الإسلامية، أما السبب الثانى فهو أن فرنسا باعتبارها عضوا دائما فى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة عليها أن تتحمل مسئوليتها فى مواجهة هذا الإرهاب الذى غير من أبعاد الكثير من الأمور والذى يسعى إلى الاستيلاء على دور الدول العظمى فى قيادة العالم، وبالتالى فهو لا يمثل تهديدا لها فقط، ولكن لباقى القارة العجوز والعالم أجمع. نفى وجود قوات برية جاء واضحا وصريحا على لسان فرانسوا أولاند الذى ألمح من بين السطور إلى العزلة التى أشعرته بها الولاياتالمتحدة - دون تسميتها - بعد التحول الكامل فى موقف الرئيس الأمريكى العام الماضى إزاء توجيه ضربة عسكرية لسوريا تهدف لتدمير السلاح الكيماوى وليس تغيير النظام، ليأتى الرفض الأمريكى المفاجئ ليمثل ضربة شخصية موجهة ل"أولاند" نفسه باعتباره أكثر من دافع عن التدخل فى سوريا وبذلك شعر أنه فى عزلة وفى مأزق، خصوصا بعد أن أظهرت المعلومات المقبلة من واشنطن أن أوباما لن يحصل على دعم الكونجرس لضرب سوريا وازدادت القضية تعقيدا بعد عقد مؤتمر قمة العشرين فى "سانت بطرسبورج" فى السادس من سبتمبر العام الماضى والذى كان عبارة عن حوار للطرشان، وحينها أدرك الفرنسيون أن "سيناريو الضربة العقابية" قد تراجع وفوجئوا للمرة الثانية بتخلى الأمريكيين عنهم فى وقت عصيب بعدما اقترحت موسكو، التى كانت حتى ذلك الوقت تدافع بإصرار عن نظام الأسد، أن يتم وضع الترسانة الكيماوية السورية تحت الرقابة الدولية، تمهيدًا لتدميرها ما يعنى عدم وجود داعى للتدخل العسكرى فى سوريا، ومع إعلان واشنطن ارتياحها لهذا الطرح نظرًا لأن فكرة التورط فى الصراع السورى لم تكن تلقى تأييدًا شعبيًا علاوة على كونها محفوفة بالمخاطر شعر أولاند للمرة الثانية بالعزلة على الساحة الدولية لتصبح روسيا، التى كانت مهمشة منذ بداية الصراع السورى، فى قلب اللعبة الدبلوماسية والتى باتت تدار بينها وبين الولاياتالمتحدة فقط، لاسيما بعد توصل جون كيرى ونظيره الروسى سيرجى لافروف إلى اتفاق فى زمن قياسى دون اطلاع أحد عليه خاصة فرنسا. وقد استغل أولاند - الذى وصفته بعض الصحف الفرنسية بأن الكوارث حلت مع حلوله على قصر الإليزيه – استغل ما يحدث فى العراق ليتهم المجتمع الدولى بالخمول والتقاعس، الأمر الذى أدى إلى استفحال الإرهاب وخرقه للحدود ومطاردته للأقليات وقطع رأس المعارضين، ولذلك فهو لا يجد غضاضة فى دفع ثمن الحرب برغم إعلانه أن فرنسا لديها مسئوليات ولكن لا تستطيع أن تتصرف "بدلا من الدول الأوروبية الأخرى" وأن عليهم جميعا تقاسم الأعباء، وقد جاء هذا التصريح عقب أول طلعة لطائرة رافال من منصة الظفرة بدولة الإمارت والتى تتزود فى طلعتها الواحدة ب10 آلاف لتر من الوقود فى وقت ينادى فيه العالم بالتقشف، فهذه الحرب الفرنسية ضد الدولة الإسلامية ما هى إلا صداع فى رأس العسكريين وكلمة ضخمة فى قاموس السياسيين وكابوس للفرنسيين دافعى الضرائب، خصوصا عندما يعرفون تكلفة "رافال" ذهابا وعودة من الإمارات إلى الموصل ! فهذه ال"الرافال" والتى تنتجها شركة "داسو أفياسيون" تعد المقاتلة الأكثر تطورا فى العالم فهى متعددة المهام إذ أنها مقاتلة وقاذفة قنابل وتمت تقوية عجلاتها لتتحمل صدمة الهبوط العنيف كما أنها مزودة بمنظومة رادار متطورة يمكنها أن ترصد الطائرات المعادية من على بعد 80 كم، كما يمكنها التعرف على الدفاعات الجوية الأرضية من على ارتفاعات شاهقة وتلك المنظومة تعمل بالأشعة تحت الحمراء بما يمكنها من الاشتراك فى المعارك الجوية الليلية كما أنها تحمل قنابل أرض جو تزن الواحدة منها 250 كجم تقذف بواسطة أشعة الليزر، كما أنها تقصف أهدافها من علو مرتفع ما يعنى أن نسبة استهدافها تكاد تكون منعدمة وهو ما جعلها تنجح فى تدمير المواقع اللوجيستية لمقاتلى داعش والتى هى عبارة عن خزانات للوقود ومخازن للإمداد بالأسلحة والذخيرة، حيث جرى تدميرها عن آخرها دون أن تتعرض لأى رد فعل، وفضلا عن كل ذلك فقد أرسلت باريس نحو 40 شخصا من القوات الخاصة استعدادا لأى إنزال على الأراضى العراقية فى حال وجود خطر، كما أرسلت أكثر من 13 طنا من المعدات العسكرية الإضافية، إضافة إلى كميات كبيرة من الرشاشات من نوع 12.7 جاهزة للاستخدام. كما تستطيع رافال حمل 4.700 كيلو من خزانات الوقود الداخلية و6.700 كيلو من خزانات الوقود الخارجية، بالإضافة إلى تزودها ب 1250 لتر وقود إضافى لكل منهما مخصص للعمليات البعيدة مثل العراق، وهناك ست طائرات فى قاعدة الظفرة أى أنها تحتاج إلى 60 ألف لتر وقود يوميا، خصوصا أن الطلعات لا تتم إلا بوجود طائرتين معا، وبالإضافة إلى كل ذلك فهناك طائرة c135 الناقلة وطائرة أتلانتيك 2 المسئولة عن جمع المعلومات المطلوبة لتقييم الضربات. الشىء المبشر على حد تعبير جريدة لوموند الفرنسية - والتى نشرت تقريرا مفصلا عن تكلفة هذه الحرب – فهو أن الإمارات لديها البترول أما فرنسا فلا، ولكن فرنسا لديها رافال والقدرة على إنشاء قاعدة عسكرية فى الإمارات بينما هذه الأخيرة لا تملك ذلك وبالتالى فعليها أن تملأ لهم خزانات الوقود مجانا! وتستكمل الصحيفة الفرنسية تحليلها لهذه النقطة تحديدا مؤكدة أنه لو سارت الأمور على هذه الحال فإن هذه الحرب لن تكلف فرنسا شيئا، فطيران رافال هو طيران مجانى وهذا هو ما تفعله معظم الوقت، حيث لا تتعدى مهامها - باستثناء مرات محدودة - التحليق فى السماء وتجربة قاعدة البيانات حال تشغيلها وهى تشبه إلى حد ما تحليقها من أجل التدريب، أما التكلفة الحقيقية فتكمن فى إطلاق النار والتسليح وإلقاء الصواريخ والقنابل الموجهة بالليزر، فضلا عن وجوب توافر عدد كبير من الطيارين الحربيين، فالطيار الحربى يحتاج لراحة لمدة يومين بعد كل طلعة جوية لأنها تستغرق منه جلوس متواصلا وثابتا فى كابينة القيادة على كرسى معدنى طوال تسع ساعات متواصلة، وبالتالى فهم فى حاجة إلى عدد كبير من المقاتلين الحربيين. أما التكلفة المادية فكما ذكرتها لوموند فستبلغ مليار يورو بعد أن كانت الأرقام الأولية تشير إلى أنها لن تتكلف سوى 450 مليون يورو فقط فى وقت تجلس فيه أوروبا لتأخذ حمامات شمس غير عابئة بما يجرى حولها على حد تعبير المحلل السياسى الفرنسى أوليفييه رافانيلو الذى أخذ يتساءل عما يمكن لفرنسا أن تفعله وسط كل هذه الفوضى باحثا عن الحجج الممنوحة لها لقصف العراق مؤكدا أن أسوأ حجة يمكن أن تقال فى ذلك هو مساعدة مسيحيى الشرق هناك، فمنذ عهد فرانسوا الأول وفرنسا تحاول رعايتهم بشتى الطرق، وبالتالى فلا مانع من مساندتهم فى مواجهة الهمجية وإرسال مساعدات إنسانية وتأشيرات لجوء للحالات المستعصية، ولكن أن يتم إعطاء انطباع بأن أوروبا المسيحية قد ذهبت للعراق وسوريا لمساعدة إخوانها المسيحيين فتلك هى الكارثة على حد تعبير رافانيللو لأنه لا يعقل أن يتم محاربة التطرف الدينى بحملة صليبية! ويستكمل المحلل الفرنسى مقاله قائلا: إن من يقول إن فرنسا تساعد الولاياتالمتحدة عسكريا فى هذه الحرب فهو وأهم لأنه ليس بواسطة هذه ال"رافال" الفرنسية - التى تواجه مشكلات فى عملية تزويدها بالوقود فى الجو وصيانتها - سيتم تغيير وجه الحرب. فعمليا يمتلك أوباما كل مايلزم لذلك والأمريكيين لم يخسروا شيئا، وبالتالى فإنه فى حرب من الممكن أن تستمر ثلاث سنوات فإن فرنسا غير قادرة على الاستمرار ماديا بطائراتها الحربية باهظة التكاليف. ويصف رافانيللو هذه الحرب الفرنسية بأنها حرب سياسية خدمت أوباما وجعلته يفتخر بأنه لم يكرر أخطاء جورج دبليو بوش بانغماسه فى حرب شعواء جديدة فى العراق بينما تولت فرنسا دفع فاتورتها الباهظة وحدها. ليس فقط الفاتورة المادية ولكنها فاتورة الحياة فلا معنى من إعطاء المال أو الأسلحة دون الوقوف على أرض المعركة فإذا كان هناك الف فرنسى تركوا فرنسا فى طريقهم للانضمام لمقاتلى الدولة الإسلامية فقد عاد منهم 180 ليطبقوا على تعلموه هناك على الفرنسيين أنفسهم غير عابئين بالأرواح التى تهدر سدى، وبالتالى فإنه بعد التورط المباشر لفرنسا فى هذه الحرب ستصبح هى الموجود الأوحد فى وجه المدفع الإرهابى كرد طبيعى على هجماتها، لقد أصبحت هى العدو وليس من يمولون هذا، العدو لتتحمل هى وحدها التفجيرات والهجمات والأذى على أراضيها وعلى أرواح مواطنيها. أما الكاتب والمحلل الفرنسى بجريدة لوفيجارو "أريك زيمور" فوصف الحرب بأنها مهنة قديمة جدا فى التاريخ مثلها فى ذلك مثل مهنة التحليل السياسى، فالحرب تبدأ ومعها التحليل والتقرير والشجب والإدانة والأسف ثم يأتى السلام ثم يعاد ذلك من البداية مرة أخرى لتصبح الكتابة عن الحرب مثلها مثل الكتابة عن الحب لا أحد يتعلم من أخطائها.