عاصم عبد الخالق حتى إذا لم يكن التاريخ يعيد نفسه، فإن الولاياتالمتحدة تعيد صنعه أو على الأقل تجبرها الأحداث والأزمات على القيام بذلك. والتحالف الجديد لمحاربة داعش الذي يولد حاليا على أيدي أوباما هو خطوة على هذا الطريق. لا يكفي أن تقول واشنطن إن تلك ليست بداية حرب جديدة لكي تنفي بذلك حقيقة أن ما تشرع فيه هو في الواقع صياغة جديدة لصفحة في كتاب التاريخ لم يمض على طيها زمن طويل. في هذه الصفحة نقرأ أن تحالفا مشابها أنشأه بوش الأب عام 1990، لإخراج صدام من الكويت. ثم في صفحة أخرى نطالع أن ابنه أي بوش الثاني، أطلق تحالفا آخر بعد ذلك بنحو عقد كامل لمحاربة القاعدة عقب هجمات سبتمبر 2001. ما تعلنه واشنطن عن أن تحالفها هذه المرة يختلف عما سبقه قد يكون صحيحا فيما يتعلق بحجمه وطبيعة قيادتها له وأدوار المشاركين فيه. وليس مهما أن يصر أوباما على أن ما سيقوم به هذا التحالف هو أكثر من الغارات الجوية وأقل من الحرب الشاملة. وليس مهما أيضا أن نفهم كيف يكون هناك نصر بلا حرب. الأهم عمليا هو النهايات التي سيفضى إليها هذا الإطار الجديد للتعاون الدولي. خصوصاً أن بدايته مشابهة كثيرا للتحالف ضد القاعدة والذي استهل عملياته بهدف نبيل هو القضاء على الإرهاب ثم دمرته واشنطن بإصرارها على غزو واحتلال العراق. درس أولبرايت فى كتابها "الجبروت والجبار" تشرح مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية فى عهد كلينتون بإسهاب كيف كانت بدايات تحالف بوش الابن لمحاربة القاعدة مبشرة للغاية وحظيت بدعم عالمي غير مسبوق، ثم كيف تحول إلى كابوس بعد أن اتضح أن المحافظين الجدد يستثمرون خوف العالم من الإرهاب لتنفيذ خططهم ومهاجمة بلدان لا علاقة لها بهجمات سبتمبر. تقول الوزيرة المخضرمة، وهي أستاذة جامعية في الوقت نفسه " في الأسابيع الأولى التي تلت الهجمات كان الرأي العام متعاطفا مع أمريكا بشكل كاسح، فإنه فى غضون عامين كانت قد ظهرت صورة مختلفة تماما". أما لماذا؟ فهي تشرح ( لعل أوباما يستمع) "ببساطة لأنه عندما كانت مواصلة السير فى الاتجاه نفسه منطقية وضرورية عمد بوش إلى تغيير المسار.. بدأ يركز على محور الشر وليس الإرهاب، وبدأ التحالف عندها يتفكك". الدرس الذي يحتاج أوباما أن يتعلمه من أستاذته هنا هو أن عليه المحافظة حتى النهاية على تضامن حلفائه وألا يخدعهم. أما الدرس الذي تعلمته دول العالم بالفعل من هذه التجربة فهو ألا تعطي أمريكا شيكا على بياض لأن لها أجندتها الخاصة، وهي دائما تخفي من بنودها أكثر مما تعلن. فجوة الثقة المتسعة هي إذن أكبر مشاكل أوباما وهو يبني تحالفه الجديد. وأول من يتشكك فى نياته وجديته وقدرته هم حلفاؤه في المنطقة. لدى هؤلاء هواجس وظنون ولدتها معاناتهم المريرة بسبب تردده ورفضه مطالبهم بالتدخل الحاسم في قضايا المنطقة. ومن الطبيعي أن يتساءلوا هل يريد بالفعل القضاء على داعش؟. وإذا كان جادا فلماذا انتظر ثلاث سنوات كاملة؟ ثم إذا كان يصر على عدم إرسال قوات برية، فهل ستكفي الضربات الجوية للقضاء على التنظيم؟. وكيف ستقنع واشنطن زعماء العشائر السنية في العراق بالتعاون معها مرة أخرى على غرار تعاونهم الناجح معها في طرد القاعدة في 2006 و2007، برغم أنها تخلت عنهم بعد ذلك وتركتهم فريسة للتنكيل على أيدي المالكي. داعش العدو المفيد لا فائدة من محاولة البحث عن إجابات لتلك الأسئلة لأن الأحداث خلال الأسابيع القليلة المقبلة ستتكفل بذلك. الأكثر جدوى حاليا هو قراءة الخريطة السياسية المعقدة فى المنطقة لفهم ما تحاول واشنطن القيام به. ثمة حقيقة صادمة وذات وجهين متناقضين، وهي أن أمريكا وكل القوى الفاعلة فى المنطقة تستفيد من وجود داعش وتسعى إلى استثمار تمددها السرطاني لخدمة أهداف هذه الدول وتحقيق مصالحها. هذه ليست سقطة ساذجة فى غواية نظرية المؤامرة. فلا نقول إن أحدا من هذه الأطراف الدولية أو الإقليمية وراء صناعة داعش وظهورها (ولا ننفي ذلك بالطبع) ولكن نقول إن هذه الأطراف كلها تعاملت مع واقع وجود داعش باعتباره أحد المتغيرات التي أفرزتها ظروف المنطقة. وحاولت بناء على ذلك الاستفادة من هذا المتغير الطارىء. هذا هو النصف الأول من الحقيقة، أما نصفها الآخر المتناقض معه، فهو أن داعش بالفعل تمثل خطرا على الجميع وهم يدركون ذلك، ومن ثم فإن من مصلحتهم جميعا القضاء عليها في النهاية، لكن ليس الآن، وهذا هو مربط الفرس. بمعنى آخر أن داعش بكل وحشيتها وتخلفها وإرهابها هي عدو إستراتيجي لكل الأطراف، ولكن وجودها يحقق فوائد تكتيكية مؤقتة للجميع أيضا. ليس الأمر عسيرا على الفهم، ومن لا يجد ضآلته في نتائج تحليل الأحداث التي تؤكد تلك الحقيقة. فعليه بنزار قباني الذي يقدم تفسيرا على طريقته عندما يقول "يعانق الشرق أشعاري ويلعنها.. فألف شكر لمن أطرى ومن لعن". وفي عالمنا فإن الشرق والغرب معا يلعنان داعش ويريدان تدميرها ولكنهما يستفيدان من وجودها. وسيظل هذا العناق القاتل مستمرا حتى تنتفي الحاجة لوجودها، ثم يتم التخلص منها في الوقت المناسب، والذي لم يحن بعد. إيران العدو اللدود لهذا التنظيم السنى تستفيد من وجوده وشراسته لتدمير عدو سني آخر مشترك في سوريا هو جبهة النصرة، وكذلك لضرب عدو ثالث مشترك هو الجيش السوري الحر، أي المعارضة العلمانية المدعومة من الغرب ضد الأسد. واستمرار الحرب بين التنظيمات الثلاثة يضعفها جميعا، ويخفف الضغط على النظام السوري الحليف. كما أن بقاء داعش في العراق يضمن وجودا ونفوذا إيرانيا متزايدا ترحب به بغداد، وتغض واشنطن الطرف عنه. أما الأسد فهو المستفيد الأكبر من هذا العدو الشرس الذي قدم خدمة جليلة لنظامه وجعل وجوده مقبولا غربيا وعربيا ولو مؤقتا، لأن البديل وهو داعش يمثل كابوسا غير محتمل تتضاءل بجواره كل شرور البعث. يعرف الأسد أن داعش تريد رأسه، ولكن لا بأس من عدم محاربتها بقوة أكثر من اللازم لأن وجودها مفيد له. أمريكا بدورها من المستفيدين الكبار من هذا العدو اللدود، داعش، لأنه وسيلة جيدة لاستنزاف إيران عسكريا بمحاربته في العراق، وماليا من خلال الدعم الذي تقدمه لنظام الأسد الذي يتكبد خسائر ضخمة بسبب شراسة داعش وهي فائدة أمريكية أخرى. كذلك فإن وجود هذا التنظيم في العراق يجعل الباب مفتوحا دائما أمام الولاياتالمتحدة للتدخل والمشاركة في رسم الخريطة السياسية هناك، وتوجيه الأوضاع على النحو الذي يلائمها. وعلى سبيل المثال كانت المساومة على ضرب داعش إحدى أوراق الضغط التي استخدمتها ضد رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، وانتهي الأمر بحرمانه من تشكيل الحكومة الجديدة. وسيكون هذا التنظيم. أيضا مفيدا في المساومة مع إيران حول قضايا كثيرة..الطرف الإقليمي الآخر المستفيد من داعش هو أكراد العراق الذين يشكلون رأس الحربة في التصدي للتنظيم وهو ما يعني مزيدا من الاعتراف الدولي بهم. بل إن عدوهم اللدود تركيا تتعاون معهم الآن باعتبارهم حائط الصد الأول لمنع تسلل داعش لأراضيها. كل هذا قد يفسر جزئيا لماذا لم تسارع واشنطن بالقضاء على هذا التنظيم الإرهابي أو إضعافه بقوة منذ وقت مبكر. ويفسر جزئيا أيضا لماذا بدا أوباما مترددا في تقديم تعهد قاطع بالقضاء النهائي عليه. تحدث مرة عن تحجيم قدراته، وأخرى عن تحويله إلى مشكلة طيعة من خلال الضربات، واعترف مرة ثالثة بأنه ليست لديه إستراتيجية للتعامل معه. وعندما أصدر أوامره بالغارات على قواعده اكتفى بالحديث عن عمل عسكري وليس حملة لاقتلاع التنظيم. وهو يتحدث الآن عن إستراتيجية طويلة الأمد للتعامل معه. وهذا الأمد الطويل هو بالضبط ما تحتاجه واشنطن لاستثمار وجود داعش. غير أن الموقف إجمالا أكثر تعقيدا من مجرد شن غارات على مواقع داعش. هناك الوضع المتشظي طائفيا وسياسيا في العراق، ولا يمكن حل مشكلة داعش دون إعادة ترتيب البيت العراقي من الداخل أي بمصالحة وطنية شاملة. وهذا يستلزم أولا إعادة ثقة السنة في أمريكا وفي حكومة بغداد معا، وتلبية مطالبهم المشروعة وأولها المشاركة في الحكم. ويستلزم ثانيا التنسيق مع إيران وهذه بدورها مسألة شديدة التعقيد تتداخل فيها ملفات تمتد من العراق إلى سوريا مرورا بلبنان وغزة واليمن والخليج وانتهاء بالملف النووي. تبقى بعد ذلك المسألة السورية وتلك معضلة كبرى تواجه إستراتيجية واشنطن لمحاربة داعش. إذ لا معنى لضرب التنظيم في العراق وتركه يتمدد في سوريا. غير أن القضاء عليه في سوريا يعني أن واشنطن تقدم هدية مجانية للأسد، وكما علق صحفي أمريكي ساخر، فإن هذا يعني أن واشنطن ستعمل باعتبارها سلاح الجو التابع للأسد. ومن الطبيعي تفسير أي عمل عسكري داخل سوريا بحسبانه تدخلا مباشرا من جانب أمريكا في الحرب الدائرة هناك وهو تطور تجنبته بإصرار منذ البداية. مرة أخرى ستجد واشنطن نفسها أمام الخيار الإيراني، فلا مفر من التفاهم مع طهران لإبرام صفقة لرسم مستقبل الحكم في سوريا. هذه القراءة تشي بأن المنطقة على أعتاب جراحة شاملة تتجاوز تفاصيلها بكثير مهمة ضرب داعش. المهم هنا هو أن ما تعلنه أمريكا ليس بالضرورة هو كل ما ستفعله أو تخطط له. ويوم يكشف أوباما عن أن الهدف ليس فقط تدمير داعش، سيكون قد وضع المسمار الأخير في نعش تحالفه الجديد على غرار ما فعل بوش. عندها يجب أن نعيد قراءة دروس أولبرايت لنتذكر أن التاريخ ليس هو فقط ما يعيد نفسه، ولكن الرؤساء الأمريكيين أيضا يعيدون أخطاءهم.