وفاء فراج نواصل مسيرة الكشف عن مسلسل أو قل جريمة النهب والتخريب لتراث مصر الجينى للنبات والحيوان، فى تصميم وطنى على ضرورة الانتباه لتلك الكارثة والعمل على تدارك ما تم هدمه ثم رتق ثقوب ما هو مهلهل وقابل للاندثار، ربما تداركنا إرثا مهما جدا بتميز الدولة المصرية منذ آلاف السنين وحتى ما شاء الله. نناقش فى هذا العدد مأساة «معشبة جامعة القاهرة» وهى المتخصصة فى الأعشاب المصرية التى يبلغ عدد أنواعها حوالى نصف مليون عشب يعود بعضها إلى أكثر من ألفى عام. فى ركن صغير وقاعة متواضعة فى كلية العلوم بجامعة القاهرة، يوجد كنز مهمل يحتوى على آلاف العينات من التراث النباتى المصرى والعالمى، إضافة إلى الكتب والمراجع النادرة لعلم النباتات، ذلك الكنز هو «معشبة جامعة القاهرة» الذى يحتاج للكثير والكثير من الاهتمام والإمكانات المادية من الدولة لإنقاذه من التلف والضياع، تلك المعشبة التى لا يعرف عنها الكثير من المواطنين والمسئولين فى مصر شيئا، لكنها ذات شهرة عالمية فى كل الأوساط العلمية بالخارج، فهى المعشبة الأولى فى الشرق الأوسط. عن معنى المعشبة ودورها فى هرم البحث العلمى والحفاظ على التراث النباتى، والصعوبات التى تواجه بقاءها تحدثنا الدكتورة حسناء حسنى، أستاذ علم النبات وأمينة معشبة جامعة القاهرة فى الحوار التالى: فى البداية ماذا يعنى مفهوم ومسمى المعشبة وما الهدف من إنشائها؟ المعشبة هو مكان يتم الاحتفاظ فيه بالعينات النباتية بصورة مجففة وهو اسم شائع فى كل العالم، وتنشئ المعشبات بغرض الدراسة العلمية من ناحية، والاحتفاظ بكل التراث النباتى للدولة والمنطفة والعالم إن أمكن من ناحية أخرى، كما أنها تمكن الباحثين عمل الأبحاث المختلفة على النبات دون عناء البحث عنه فى الطبيعة وأماكن وجوده. حدثينا بالتفصيل عن معشبة جامعة القاهرة ومتى أنشئت ؟ معشبة جامعة القاهرة من أهم وأكبر المعشبات فى الشرق الأوسط والعالم، حيث تضم 500 ألف عينة نباتية، وأنشئت عام 1927 ، أى ما يقارب من 100 عام الآن على إنشائها، والمعشبة تضم أهم وأندر عينات النبات فى العالم كله، بالإضافة إلى أندر وأقدم الموسوعات فى علم النبات، وأنشئت على يد عالم نبات سويدى (البروفسور تاكهولهم) وزوجته عالمة النبات (فيفى تاكهولم) والأخيرة كملت المسيرة بعد موت زوجها عام 1930 وهى التى جعلت من المعشبة صرحاً علمياً معروفاً على مستوى العالم فى كل الأوساط العلمية، وهى من جعلتها على ما هى عليه الآن، ولأنها كانت أجنبية وذات علاقات واسعة، سهل لها ذلك أن تحضر عينات أجنبية كثيرة من كل بقاع الأرض، وبعد موتها عام 1970 كانت هناك مساهمات عديدة فى بناء المعشبة وتغذيتها بأهم العينات النباتية من دول الخليج والسودان ودول حوض النيل ودول المغرب العربى من قبل علماء منهم الدكتور نبيل الحديدى والدكتور عبد الفتاح القصاص والدكتور لطفى بولس، وقد كانت المعشبة تصنف المعشبة الأولى فى الشرق الأوسط من حيث عدد العينات وتنوعها وندرتها، ولكن الآن مع تدهور الوضع فى المعشبة تراجعت المعشبة إلى المرحلة الثانية بعد معشبة إسرائيل، بسبب قلة الإمكانات وتدهور البيئة وتوقف عدد الرحلات الاستكشافية لفريق العمل فى المعشبة والباحثين فى علم النبات . هل المعشبة تضم كل عينات لأنواع النبات على وجه الأرض كالقمح والقطن وغيره؟ هى بالطبع تحتفظ بعينات من كل نبات مزروع فى مصر والعالم ولكن اهتمامها الأكبر ينحصر فى جمع العينات الطبيعية التى تظهر فى الطبيعة والأرض المصرية والعالم .. مثلما التى تنمو فى الصحراء والأراضى الخصبة ووسط الزراعات التقليدية أو على ضفاف النيل أو على سواحل البحار، لأن تلك النباتات هى الهبة التى منحها الله للبلاد دون عناء أو مجهود من أبنائها، لتحمل تلك النباتات أسرار وفوائد لا تظهر إلا بالبحث العلمى ولها دور مهم فى الطبيعة، ومنها أنها تساعد فى تحسين الجو أو تحمى من آفات قاتلة وفيها فوائد طبية عديدة، لذلك الحفاظ على الثورة الطبيعية هذه مهمة جدا، وهذا لا يحدث إلا بحفظ عينات لها فى المعشبات المختلفة، وهو تقريبا نفس الدور الذى تقوم به بنوك الجينات، ولكن الجينات تحتفظ بالجين أما المعشبة تحتفظ بالنبات نفسه بعد تجفيفه. هل الحفاظ على التراث النباتى فى مصر من أولويات الدولة المصرية أم ماذا ترين كعالمة نبات؟ التراث النباتى فى مصر ليس مصدر اهتمام على الإطلاق من الدولة أو المواطنين بل أصبح فى انحدار وخطر كبير جدا، خصوصا أنه كلما أراد الأفراد تجريف قطع الأرض لاستخدامات البناء والاستثمار يقوم فى نفس الوقت بتجريف الأرض من ثروتها من النبات الطبيعى الموجود فيها، مثلما حدث فى الساحل الشمالى الذى اختفت من معظمه العينات النباتية لهذا المكان مع انتشار المدن السياحية والعمرانية فى المنطقة، ومنها نباتات طبية مهمة جدا، وللأسف الدولة لم تلتفت لاهتمام بهذه الثروة من التراث النباتى إلا أخيرا من خلال عمل المحميات الطبيعية لهذه النباتات، ولكن الحمد لله فإن المعشبة تحتفظ بعينات قديمة لهذه المنطقة . ما طبيعة عمل المعشبة والدورة التى يمر فيها النبات بداخلها؟ فى البداية نقوم بجمع العينات من خلال فرق البحث وفى كل المناطق والأقاليم المصرية ثم نقوم بتسجيل ما نعثر عليه ونكتب أى معلومات تتعلق به مع الاسم العلمى لهذا النبات المتداول فى العالم، وإن كان نباتا جديدا نطلق عليه اسما يناسبه ليدخل فى موسوعات النبات، كل ذلك إضافة إلى العينة التى يتم حفظها منه من خلال التسميم والتجفيف وحفظها على الألواح الورقية فى صناديق خشبية. هل متاح للباحثين أن يأتوا لدراسة العينات داخل المعشبة بالمجان وبسهولة؟ هى خدمة متاحة بالمجان ولكل الباحثين، كما أن المعلومات التى نوفرها للباحثين تساعد خصوصا إذا ظهر لأحد النباتات أهمية تم اكتشافها كأهمية طبية أو علمية كبرى من خلال ذلك نستطيع أن نعرف الباحثين كل المعلومات المتعلقة بها ومكان وجودها ومواعيد ظهورها، فيمكن أن ننمى هذا النبات من جديد، كما أن المعشبة تخدم الباحثين فى مجالات مختلفة غير علم النيات فمثلا فى علم الصيدلية والزراعة لاحتياجهم إلى معلومات عن النبات وإلى أى فئة ينتمى وهكذا، ولدينا عينات نباتية عمرها 200 عام، كما نمتلك مكتبة متخصصة لأى معلومات تخص كل النبات فى العالم منها كتاب عن تصنيف النبات منذ عام 1877 تلك الكتب والمراجع هى وحدها ثروة قومية موجودة فقط فى معشبة جامعة القاهرة بخلاف عينات النبات، لكننا نحاول أن نقنن العملية حتى لا تتلف العينة، لأننا غير قادرين على استردادها من جديد، مع قلة إمكاناتنا المادية وعدم قدرتنا على التجديد أو التطوير للمعشبة، خصوصا أن المعشبة ليست لها أى ميزانية مادية ولم ترتق فى الإمكانات المادية لدرجة معمل داخل كلية العلوم وأحيانا نجمع من فريق العمل داخلها لشراء بعض مستلزماتها أو نقوم بالعمل بأيدينا فى كل ما تتعلق به عمل المعشبة توفيرا للنفقات . معنى هذا أن المعشبة الأولى على الشرق الأوسط وهذا الصرح العلمى غير تابع لأى جهة علمية تمويلية؟ فى كل العالم هذا النوع من المعشبات يكون تابعاً لهيئات وجهات كبرى ودولية، ويكون لها مواردها الخاصة لتصرف على نفسها، فعلى سبيل المثال فإن معشبة «كيو» أكبر معشبة فى العالم الموجودة فى إنجلترا هى تصرف على نفسها وتابعة للدولة بشكل مباشر ولديها حديقة كبيرة تستقبل زوارا يوميا برسوم دخول، أما نحن فمعشبة تابعة لكلية بإمكانات محدودة جدا، ولسنا تابعين لهيئة البحث العلمى ولا وزارة الزراعة، وهو أمر فى حد ذاته غريب جدا لأن المعشبات فى العالم تتبع لجهات كبرى وذات ميزانيات ضخمة جدا جدا، خصوصا أننا نحتاج إلى مواد وخامات وفرق عمل كبيرة للبحث وزيادة العينات، لذلك فإن نسبة زيادة العينات داخل المعشبة فى تناقص مستمر، لذلك نحتاج الكثير من التطور فى عمليات التبخير والتسميم والتى نعملها بتكلفة ذاتية وبأيدينا حتى الآن دون فرق عمل متخصصة لذلك الأمر كما فى الخارج، مما يجعلنا نفقد بعض العينات بسبب تلفها التام برغم محاولتنا الحفاظ عليها بكل الإمكانات المتاحة، لكن مع سوء الظروف فى المعشبة قد نفقد عينات نادرة وليس لها بديل . هل المعشبة تحتفظ بكل العينات النباتية المصرية ومنها النادر ؟ للأسف إن مناخ مصر القارى يجعل تنوع النبات فيها فقيراً بعكس دول صغيرة مثل سلطنة عمان أو لبنان فيها تنوع فى النبات الطبيعى كبير جدا، لكن هناك أماكن كسيناء تمتلك ثلث الثروة النباتية فى مصر فتحتفظ بنحو 2000 نوع نبات من سيناء وحدها ومنها النادرة جدا وليس موجودا إلا فى سيناء، ومهمتنا الحفاظ على تلك العينات ولفت أنظار الدولة للحفاظ على ذلك التراث النادر .. لذلك نجد معظم المحميات الطبيعية موجودة فى سيناء . هل أسهمت المعشبة فى حفظ للنبات المصرى من آثار سرقته أيام احتلال سيناء؟ ما حدث أن إسرائيل وهى تخلو سيناء أخذت عينات من كل النبات الموجود فيها، وليس النبات نفسه فمازال موجوداً فى الأرض إلا ما فقدناه بسبب التجريف أو الإهمال، لكن الأهم أنها لا تستطيع أن تنسب النبات إلى نفسها بل أعلنت أنها أخذته من سيناء كمبدأ علمى معروف لمعرفة المعلومات الخاصة بمكان وجوده وأوقات ظهوره، لذلك فإن هذا النبات مسجل لدى مصر، ومهما أخذوا منه لن يستطيعوا نسبه لأنفسهم، وتلك النباتات بطبيعة الحال كانت مسجلة فى المعشبة قبل هذا الزمن بكثير . ما الجديد فى علم المعشبات فى العالم الآن وغير متوافر فى مصر؟ بدأت الآن معظم المعشبات فى العالم أن تقوم بتسجيل العينات وتصورها على النت وأصبحت تسمى المعشبة الإلكترونية بحيث يدخل الباحث إلى النت ليعرف كل ما يحتاجه عن النبات دون أن يتم إتلافه أو استخدامه مباشرة سواء بالمجان أم بسعر رمزى، وقد بدأنا نعمل المعشبة الإلكترونية لدينا حتى يأتى لنا دخل مادى يسهم فى تطوير المعشبة، خصوصا أن العالم الآن يحتفظ بعينات النبات بنوع من تقنية زراعة الأنسجة بخلاف الطرق التقليدية فى تجفيف العينة ولكن بمواد متطورة جدا، أما نحن فى المعشبة فى مصر مازلنا نستخدم الطرق التقليدية التى كنا نستخدمها منذ 50 عاما بخامات قديمة ومتهالكة بلا أى تطوير بسبب نقص الإمكانات، لكننا فى المعشبة ابتكرنا أقساما جديدة ومنها قسم الحفاظ على نباتات التراث، اى النبات الذى كان يستخدمه الناس مثل «الحصير والسبت والمكانس» كلها من نبات وهل مازالت موجودة أم انقرضت ، ولكى نعرف ماذا كان يستخدم الفلاح القديم كان يستخدم النبات كالبوص والسعف والبردى فى اشياء تفيده وتخدمه . لذلك بدأنا نجمع كل ما كان يستخدم من النبات فى حياة الناس لنحتفظ به ونكون ما يسمى قسم نبات التراث ولكل بلد دليلا من نبات التراث الخاصة به، ولكى لا تندثر ونسجلها ونعرفها للأجيال المقبلة، كما أدخلنا للمعشبة حفظ وتسجيل لنباتات مصر القديمة، وهذا الأمر هو الوحيد فى العالم وموجود فى معشبة جامعة القاهرة فقط، حيث بدأنا نسجل النبات الذى كان موجودا فى المقابر وعلى رسومات المعابد لكى نعرفها للعالم . كمتخصصة فى علم المعشبات ماذا ينقص معشبة جامعة القاهرة لتعود إلى مكانتها فى العالم؟ ما ينقص معشبة جامعة القاهرة هو الإمكانات، ففريق العمل والخبرات موجود والعينات موجود ما ينقصنا التطوير والتجديد ومكان أكبر مجهز، فمثلا نطلب منذ سنوات تكيفات حتى لا تتلف العينات ولا حياة لمن ينادى، عينات كثيرة تتأكل وتضيه وتنتهى دون أن نستطيع أن نعمل لهم شيئا بسبب نقص الإمكانات، كنا نعمل دوريات لتعريف كل جديد يأتى فى المعشبة توقف بسبب نقص الإمكانات، ونقص الرحلات بسبب عدم وجود إمكانات، كما أن المعشبة مطمع لأى ناهب ومخرب لأنه يمكن أن يتم سرقة العينات النادرة أو يتلفها، لذلك المعشبات لابد أن يكون عليها حراسة مشددة وهذا غير متوافر فى المعشبة وظروف الجامعة قلت إن الدكتور عبد الفتاح القصاص كانت له إسهاماته فى تطوير وبناء المعشبة، وضحى أكثر؟ الدكتور القصاص له دور كبير فى تنمية المعشبة وأهم هذا الدور هو إحضار عينات كثيرة من دول حوض النيل والسودان، بالإضافة أنه تبع للمعشبة بمكتبة بيئية ضخمة ونادرة اختص بها المعشبة، وهذا أثرى المعشبة، كما أن شغل البيئة وعمل المعشبات وعلم النبات أمران لا يتجزءان.