⢴ حوار – عزمى عبد الوهاب هل كان الروائى المصرى "حمدى الجزار" محظوظا، حين أصدر روايته الأولى "سحر أسود" ففازت بجائزة ساويرس، وترجمت إلى ثلاث لغات حية؟ من يقرأ هذا العمل يدرك أنه أمام كاتب يمتلك أدواته الفنية كاملة، وبالتالى لم يكن ما حققه من نجاح خبط عشواء أو ضربة حظ، فالعمل التالى "لذات سرية" أكد خصوصية "الجزار" مبدعا لا ينسج على منوال أبناء جيله. "حمدى الجزار" لا يقف على شاطئ إنه دائم البحث عن أشكال جديدة تخصه فى المقام الأول، لذا كتب "كتاب السطور الأربعة" الذى يستعصى على التصنيف، وكانت روايته الصادرة حديثا بعنوان "الحريم" مثالا للكتابة التى تعب عليها الكاتب، حين عاين ورأى نماذج لنسوة فى أحد الأحياء الشعبية، عرفن التحرر بصناعة الحياة، وإنتاجها عبر صيغ مختلفة، لا تنتمى إلى أفكار خارجة من الكتب. "الأهرام العربي" أجرت هذا الحوار مع "حمدى الجزار" فإلى التفاصيل. تكشف روايتك الأولى "سحر أسود" عن نضج فنى عال كيف كانت بدايتك مع الكتابة؟ وأنا فى الثانية عشرة حاولت أن أكتب ما اعتقدت أنه "قصة قصيرة"، بعد ذلك كان لدى كشكول أدوّن فيه بعض القصص والأفكار والخواطر، نشرتُ أولى قصصى "الإمام وزوجتي" وأنا فى العشرين أثناء دراستى فى قسم الفلسفة بكلية الآداب، والتى حصلت بها على جائزة جامعات مصر فى القصة، بعدها كتبت وأخرجت ثلاث مسرحيات، وكنت على وشك الانتهاء من رسالتى للماجستير فى علم الجمال "استطيقا الفن والتكنولوجيا عند فالتر بنيامين" حين تخليت عن حلم أن أصير فيلسوفًا! وقررت تكريس نفسى للأدب، استغرق الأمر نحو خمسة عشر عاما من المحاولات حتى أنجزت "سحر أسود" وتجرأت على نشرها، قبلها أنجزت مخطوطتين لروايتين لم أنشرهما أبدًا، "سحر أسود" منحتنى الثقة فى قدرتى على إنجاز عمل أدبى، كل محاولاتى الأدبية قبلها قادتنى إلى "سحر أسود" بطريقة أو بأخرى، وأنا سعيد بقولك إن بها نضجًا فنيًا عاليًا. شاركت فى برنامج الكتابة الدولية بجامعة آيوا الأمريكية.. ما مدى استفادتك من هذا البرنامج؟ عام 2007 سافرت للمرة الأولى خارج مصر وكانت وجهتى لأيوا بأمريكا للمشاركة بهذا البرنامج ، قدمت عدة قراءات من أعمالى فى أيوا وشيكاغو ونيويورك، وزاملت نحو خمسة وثلاثين كاتبًا من مختلف أرجاء العام، كانت خبرة عظيمة أن ألتقى بجمهور القراء الأمريكيين، وأن أعيش مع كل هؤلاء الكتاب، وأن أزور نحو سبع ولايات أمريكية، كان الاحتكاك الأول لى بالنخبة الأمريكية المثقفة وبعض من كتاب العالم من ثقافات مختلفة، تعلمت أن ما يجمع المبدعين فى كل مكان على وجه الأرض أكثر مما يفرقهم، تعلمت من تلك الرحلة التى استغرقت ثلاثة شهور أن الإبداع لا وطن له ولا ثقافة محلية، وأن الإبداع هو أرقى ما يستطيع إنسان أن يقدمه من أجل الآخرين، ومن أجل التسامح والمحبة والحكمة، وأننى أنتمى لوطنى بقدر حرصى على الانتماء للقيم العليا التى ناضلت الإنسانية طويلاً من أجل الوصول إليها، وإننا يجب أن نعيش من أجل الإبداع والسلام وخير البشر فى كل مكان، وأن الحياة جميلة، ومهمتنا أن نجعلها أجمل. فى روايتك الثانية "لذات سرية" هل كنت معنيا بضرورة تحقيق الوجود الفردى للإنسان بممارسة الحرية فى مدينة كالقاهرة لا تحترم فردية الإنسان؟ نعم كنت مهتمًا ومعنيًا بهذا، أنا أتفق مع فكرة سارتر فى توحيده بين الوجود الإنسانى والحرية، الحرية بمعناها الوجودى التى تخص الإنسان من حيث هو إنسان، على المستوى الأنطولوجى، الوجودى، وأرى أن حرية الفرد هى المدخل الأول للحريات الفكرية والسياسية والاجتماعية، ولا وجود للإبداع بدون حرية على الإطلاق، وفى "لذات سرية" تحديدًا أوليت "التحرر من الخوف" أولوية قصوى، إذ لا يمكن العبور نحو الحرية الإنسانية بدون التحرر من الخوف من الآخر، ومن السلطة، كل سلطة، والتحرر من الخوف من الحياة ذاتها، وأعتقد أن "ربيع الحاج" قد تحرر من خوفه فى نهاية الرواية لأنه اعترف بقدرته على الحب، واستعداده للدفاع عنه مهما كان المآل، نعم الحب هو وسيلتنا للتحرر من الخوف، والسير باتجاه حريتنا كأفراد وجماعة! أما قاهرة ما قبل الثورة التى تحدثت عنها فى "لذات سرية" فهى مدينة المتناقضات بامتياز، العجوز المثقلة بتابوهات الجنس والدين والسياسة، والتى تحيا حياتها السرية فى ظلمة الليل من خلف ظهر الجميع، أتصور أن ثورة 25يناير فتحت الطريق نحو التحرر من سطوة الخوف والقهر التى ناقشها "ربيع الحاج" كممثل لجيله من الشباب. فى هذه الرواية أيضا نرى أن الشخصية الرئيسية لخريج فلسفة كيف استفدت من دراستك للفلسفة فى رسم ملامح ومسارات تلك الشخصية؟ دراسة الفلسفة ليست عنصرًا ثانويًا فى شخصية ربيع الحاج، لقد أنارت له الفلسفة الطريق نحو محبة الحكمة والتأمل فى الواقع من حوله وفى ذاته، وقد حرره وعيه بنفسه فاستطاع مواجهة خوفه من الموت، وخوفه من القتل المتربص به، ربيع الحاج رسم صورة للجيزة بروح مفكر محلى مرح كما يقول هو، واكتشف طريقه الخاص للتحرر بالعشق، بالهوى، وبالإصرار على مواجهة مصيره الشخصي، ومصير مجتمعه معًا. فى أى خانة يمكن أن نصنف ما صدر لك أخيرًا تحت عنوان "كتاب السطور الأربعة" رغم أنك كتبت على الغلاف "الرواية الكاملة"؟ "كتاب السطور الأربعة" تجربة فريدة بالنسبة لى، له شكله الفنى الخاص به الذى لا يعبأ بمحاكاة شكل أدبى معين، هو كتاب أدبى وفلسفى يتكون من جزءين: الجزء الأول يحمل عنوان"الرواية الأولى" والجزء الثانى معنون ب "الرواية الأخرى"، وهناك خاتمة للكتاب ككل، والكتاب يتشكل من رباعيات مرقمة متصاعدة تدفع السرد الروائى للأمام، أراه يجمع بين الشعر والسرد الروائي، وأنا متوقف عن لصق بطاقة تصنيفية عليه كأن أقول إنه "رواية"، "شعر"، "رباعيات"، أترك ذلك للقراء والنقاد ولا أرفض أى تصنيف مما سلف، و"الرواية الكاملة" على الغلاف تشير إلى الكتاب المكتمل لأنه سبق أن صدر الجزء الأول منه عام 2012. لماذا لجأت إلى هذا الشكل العصى على التصنيف؟ لأن التجربة ذاتها تشكلت على هذا النحو من حيث الشكل والمضمون ، كنت فى حالة ذهنية وانفعالية لم تواتنى من قبل عند الكتابة، هو شكل أدبى جمالى ملتحم بموضوعه، بما ورد فيه، وهكذا كتبته، لقد فرحت به أكثر من أعمالى الروائية السابقة عليه، هو كتابى الفلسفى أيضا، والذى اقتربت فيه من الشعر. هل كنت تكتب وفى ذهنك كتابات نجيب محفوظ الأخيرة فى "أصداء السيرة الذاتية" وأحلام فترة النقاهة"؟ لا، على الإطلاق، عادة أكون وحيدًا تماما أثناء الكتابة، لا يرافقنى سوى الوحدة، الوحدة الكاملة. ظل هذا الشكل ملازمًا لك فى أحدث رواياتك "الحريم" ما الدواعى الفنية وراء ذلك؟ "الحريم" عمل لاحق على "كتاب السطور الأربعة" وسابق عليه فى ذات الوقت، كنت قد بدأت فى كتابتها عقب انتهائى من "لذات سرية" فى عام 2008، وكنت أخطط للانتهاء منها فى فبراير 2011، فقامت الثورة فتوقفت، وكتبت "الحالمون فى ثورة" و"كتاب السطور الأربعة" فى جزئيه، ثم عدت إليها وعملت بها قرابة العام، "الحريم" هى روح أخرى وتجربة مختلفة جذريًا، أراها متممة بشكل ما ل "سحر أسود"، و"لذات سرية" ، هى ثالثتهما بشكل ما، وما ورد بها من بعض مقاطع "كتاب السطور الأربعة" على لسان الحاجة"حُسن" والشيخ "النقشبندي" كان ضرورة فنية صرفة. إذا كان العنوان هو عتبة النص كما يقولون، ألا يعكس عنوان روايتك "الحريم" مرجعية ضد المنجز النسائى طوال سنوات الدعوة إلى تحرير المرأة؟ على العكس من ذلك تمامًا، فى "الحريم" أتحدث عن نساء شعبيات يعشن فى طولون، لهن أسماء روحية وزبيدة ولوزة وأرزاق، أعتقد أنهن فخورات بأنهن حريم وأنهن لن يفهمن كثيرًا الدعوة لتحرير المرأة لأنهن نساء متحررات بالفعل! نساء يشكلن العالم من حولهن ويغيرنه بإرادتهن الحرة دون كثير ثرثرة، هن يعملن فى مهن، ويربين الرجال والنساء، وأقرب إلى صناعة الحياة وإنتاجها والفرح بها من اللاتى يتضررن من وصفهن بالحريم. والكلمة ذاتها معجميًا تشير إلى النساء، وإلى الحرم، وإلى المكان الذى يجب حمايته والدفاع عنه، وهنا يظهر المعنى الآخر للعنوان، الحريم هو المكان الذى يجب أن نحميه، وهو فى الرواية"طولون" بكل أبعادها الرمزية، والعنوان أيضا مفتوح على التأويل كما فعل الدكتور شاكر عبد الحميد فرآه يشير إلى الراوي، بطل الرواية "سيد فرج"! لماذا كان مصير معظم علاقات الراوى بالمرأة دائما مآله الفشل؟ لا أعتقد ذلك، إنها رحلة البحث عن الحب، عن العشق المستحيل، وعن الزمان والمكان الذى يمكن لسيد فرج فيه أن يحب بكل كيانه، هذا هو الأمر وليس الفشل فى العلاقة، إنه النقص، والتوق إلى هذا الاكتمال، وهو أيضًا إدانة المجتمع الذى لا يترك للحب أن يزدهر، المجتمع الذى يتعامى عن حقيقة أن البشر بحاجة للعشق والغرام السوي. تتعاطى فى رواياتك مع أكثر من مستوى لغوى كيف ترى علاقتك باللغة؟ اللغة، بالنسبة للكاتب، هى الألوان التى يستخدمها الرسام، والسلم الموسيقى الذى ليس لدى الموسيقار سواه، الكلمات هى كل ما لدى الروائي، وهى كما هو واضح أداة فقيرة وعاجزة مقارنة مثلاً بما يملكه المخرج السينمائى من ألوان وأصوات وإيقاع وفنون شتي، هكذا ترى أنها كل ما لدى وإننى يجب أن أستخدم إمكاناتها القصوى ، وهذه الإمكانات القصوى لدى ترتبط بالعمل ذاته، وتتغير من عمل لآخر، الرواية تولد فى اللغة وباللغة ومنها وإليها، ولا وجود للعمل بدونها، إنها ليست الحامل للمعنى ولا صورته أو شكله، إنها الفن نفسه، وهى كل ما أملك. دعنى أقول إن فنون القول كلها ليست سوى طرائق فى معالجة اللغة، ومحاولة توظيف إمكاناتها القصوى فى شكل فني، أما المستويات المتعددة للغة فهى مرتبطة لدى بالوظيفة الجمالية والتعبيرية، مرتبطة بالسرد وبالشخصية وبالحوار، وبالعالم الروائى الذى أنسجه، لم أعد أخشى كلمة أو لفظة أو تعبيرا، أستخدمها بقدر حاجتى الفنية إليها. منجزك الرئيس فى فن الرواية لماذا لم نر لك مجموعات قصصية؟ لدى العديد من القصص القصيرة المنشورة عبر خمسة عشر عامًا لكننى لم أفكر فى جمعها فى كتاب، لأننى أرى أن المجموعة القصصية وحدة بنائية، ويجب أن تكون القصص مترابطة ، متناغمة بشكل ما، وعندما أقرر إصدار مجموعة قصصية سأتعامل معها على هذا النحو، القصة القصيرة هى سوناتا الأدب، ويهمنى أن تكون سوناتاتى الأدبية جميلة. أحدث مشاريعك الأدبية "ثورتنا... قصص فى حجم الكفين" ماذا عنه ولماذا تغير إلى "الحالمون فى ثورة"؟ فى الأيام الأولى من ثورة 25ينايرشرعت فى كتابة نصوص قصيرة نشرت أولها فى مواقع إلكترونية وصحف، تقريبًا نص كل ثلاثة أو أربعة أيام ، جمعت العديد منها فى عدد مجلة "الكتابة الأخرى" الذى صدر فى مارس 2011، بعدها واصلت نشر هذه النصوص القصيرة بالعديد من الصحف والمجلات بالعربية والإنجليزية والفرنسية، كما أعددت عنها حلقات تليفزيونية بالقناة الثقافية بالتليفزيون المصرى تحت عنوان"ثورتنا.. قصص فى حجم الكفين" وخلال السنوات الثلاث الماضية أعدت كتابتها فى شكل روائى متصل أسميته "ملحمة روائية"، وتحت عنوان "الحالمون فى ثورة" سأصدرها فى يناير المقبل فى الاحتفال بمرور أربع سنوات على بدء ثورة 25يناير. كيف ترى التعاطى النقدى مع أعمالك؟ هل كان مرضيًا لك؟ كل أعمالى حظيت باهتمام نقدى واسع من كبار النقاد وشبابهم، أنا ممتن كثيرًا لهم ولعملهم ولمقارباتهم لأعمالى. ترجمت معظم أعمالك إلى لغات عدة ما أهمية الترجمة بالنسبة لك؟ الترجمة إلى لغة أخرى تعنى أن تصير كاتبًا موجودًا فى هذه اللغة التى تترجم إليها، تعنى أن باستطاعة من لا يعرف العربية أن يقرأ عملك وهذا شيء عظيم لأن المستوى الأعمق فى كل عمل أدبى هو كلامه عن الإنسان فى كل مكان وزمان، والترجمة هى الوسيلة الوحيدة لأن يصل فنك لمن لا يعرف اللغة التى تصيغ فنك فيها، وأنا محظوظ كثيرًا بمترجمى الدكتور همفرى ديفيز الذى ترجم "سحر أسود " و"لذات سرية "إلى الإنجليزية، وهو مترجم قدير، وبفضله كتب بعض نقاد الإنجليزية إنهم كانوا يتمنون لو يعرفون العربية ليستمتعوا بجمال اللغة العربية.