حوار – عزمى عبد الوهاب فى ديوانه الصادر حديثا بعنوان "الموتى يقفزون من النافذة" يحتفى الشاعر "فتحى عبد السميع" بالموت، وعندما تسأله عن ذلك، سيقول: "لقد خرج جيلنا للحياة ولم يجد حديثا إلا عن الدم العربى الذى ينزف بامتداد عمرنا، حتى وصلنا أخيرا للربيع العربى ولم نبصر سوى الدماء، لقد ولدنا وعشنا حياتنا فى ظل القتل، وفى ظل شعور عنيف بأننا خارج التاريخ" وعلى هذا فإن أية قراءة نقدية للديوان خارج هذا المفهوم ستكون قاصرة، ولا علاقة لها به. أصدر "فتحى عبد السميع" دواوين :"الخيط فى يدى – تقطيبة المحارب – خازنة الماء – فراشة فى الدخان – تمثال رملي" وهنا حوار معه. ترى أن "القصيدة أكبر من كل تصور نقدى عنها مهما تسلح الناقد بالعلم" ما دور الناقد إذن كما تفهمه؟ القصيدة تتجدد، وهى تسبق التنظير دائما، ودور الناقد هو استيعاب ذلك، وعدم الدخول إلى عالم القصيدة بأفكار جاهزة، لا بد أن يحترم النص احتراما شديدا، فالنص يمنح نفسه بقدر ذلك الاحترام، لا بقدر علوم البيان التى يعرفها الناقد، والناقد مُكتشف ومحاور ومتفاعل بالدرجة الأولى، وعندما ينظر الناقد للنص نظرة متعالية ومغرورة بعلمها ومناهجها، ينكمش النص، ولا يبوح بأسراره، وتبدو الكثير من الدراسات النقدية التى تلتزم بمنهج علمى شديدة التفاهة، وبائسة المحصول، فلا يصح التعامل مع النص كما نتعامل مع آلة، النص كائن حي. كيف إذن يتعامل الناقد مع النص تبعا لوجهة نظرك؟ على الناقد أن يتفاعل مع النص بروحه قبل أن يتعامل معه بأدواته النقدية الجاهزة للتشريح، الناقد يتفاعل مع النص، ويوظف إمكاناته العلمية لإدارة ذلك التفاعل، وتنظيم نتائجه، أما دخول الناقد إلى النص بأفكار جاهزة، فلا يعنى سوى الخروج بنفس الأفكار الجاهزة، وهكذا لا نتقدم خطوة واحدة، قد نكتب متابعة نقدية تصلح كإعلان عن العمل الأدبى فى جريدة، لكننا لا نكتب نقدا، والكثير جدا من تلك المتابعات تنطبق على أعمال كثيرة، ما علينا إلا تغيير اسم الشاعر، ووضع استشهادات مختلفة، وباقى المتابعة يصلح كمتابعة نقدية جديدة. كيف ترى التعاطى النقدى مع تجربتك؟ لا يرضينى ولا أعول عليه، هناك مجموعات صدرت لى مثل "خازنة الماء" دون أن يُكتب عنها خبر، ولا أقول متابعة نقدية، ديوانى الأخير كان محظوظا فقد كُتبت عنه عدة متابعات. هل ما زال الأدباء الذين يقيمون خارج العاصمة يعانون التهميش؟ مبدئيا كل أديب جيد يعانى التهميش، لأننا فى واقع يهمِّش الإبداع أساسا، وكل عمل جيد يجد من يبحث عنه أينما كان، لكن البحث عن الأعمال الجيدة واحترامها نادر، والتهميش قدر أليم فى ظل حياة ثقافية يحكمها الزيف، ويتحكم فيها الكثير من الجهلة، ومعدومى الضمير، والتهميش قدر أليم فى ظل الفساد المنتشر فى كل مكان، فمكانة الشاعر أهم من شعره فى أغلب الأحيان، شاعر متواضع يعمل فى مؤسسة إعلامية أو ثقافية كبيرة، لا يمكن أن يتساوى مع شاعر لا يملك إلا شعره، وكل مبدع لا يمتلك إلا شعره، أو لا يعوِّل إلا على شعره، لا يمكن إلا أن يشعر بمرارات لا حصر لها، والمبدع المقيم خارج العاصمة بالضرورة لا يملك إلا التعويل على نصوصه، وإن كان صاحب مهارة اجتماعية وهذا استثناء يستطيع أن يفرض مكانة لا يستحقها أيضا، وفى كل الأحول على المبدع الجيد أن ينظر لمسألة التهميش بهدوء شديد، ويفلح إن لم ينظر لها أساسا، وما نتصوره هامشا قد يكون هو الأنسب لمقام المبدع، على المبدع أن يخلص لشعره فقط، خاصة وأن النشر لم يعد هو القضية التى تشغل البال، وقد وصلنا إلى مرحلة صار النشر فيها مشكلة، فبوسع كل إنسان أن يكتب أى شيء وينشره إلكترونيا، وسوف يجد من يحتفى به، ويعتبره شاعرا كبيرا، وكلما كانت الكتابة سيئة كان أقرب للحصول على ذلك، وهذا وضع أليم يقمع المواهب ويضللها ويخنق الاجتهاد ويمنع تفتح القدرات. ماذا عن تجربتك الخاصة فى هذا الإطار وأنت تقيم بعيدا عن القاهرة؟ تجربتى الخاصة مشغولة بنفسها، لا أحلم إلا بتجاوز نفسي، والهرب من الجمود والتحجر، ليست لى طموحات كبيرة، كل ما أرجوه أن تظل علاقتى بالشعر حية وقوية. من خلال تجربتك هل تصلح أندية الأدب بالمحافظات رئة للتنفس؟ الأديب الجيد يهرب من أندية الأدب بقدر ما يستطيع، ولا يذهب إليها إلا معتقدا بأنه يقدم خدمة، فهى الملاذ الوحيد لمن يجد فى نفسه رغبة فى الكتابة، وبناء الكاتب فى بلادنا عشوائى تماما، فالصدفة وحدها تضع بعض الأفراد على الطريق الصحيح، وأندية الأدب محكومة بقوانين لا علاقة لها بالأدب، فالأمور بالدور، والكاتب المجتهد صوت انتخابي، والكاتب المتواضع صوت انتخابى بنفس القيمة، والروتين سيد الموقف، وتصل الأمور فى بعض الأندية حد التناحر على المناصب! وهكذا تصبح العكارة لا الصفاء مناخا سائدا، وكل ذلك يفقد أندية الأدب قيمتها. هل تشعر بالغبن إزاء المركزية الثقافية التى رسختها القاهرة على مدى سنوات بعيدة؟ نعم، حدثت مواقف كثيرة جدا جعلتنى أشعر بالغبن، لكن الشعور بالغبن لم يكن مؤثرا، لأننى أتفهم طبيعة المناخ، ومقدار الزيف الهائل فى حياتنا الثقافية، كما أننى كنت واضحا تماما مع نفسى، أنا أحب الشعر، وأراه يثرى حياتى بشكل هائل، وأشعر بمسرة عندما أنجح فى كتابة عدة أسطر تبدو لى جيدة فى إطار تجربتي، وهذا كل شيء، حتى النشر كان بالنسبة لى شيئا ثانويا للغاية، وعدد كبير من نصوصى المنشورة فى مجموعات لم يسبق نشرها فى مجلات، أو حتى فى مواقع إليكترونية، وعندما أشارك فى أمسية كثيرا ما أكتفى بنص قصير للغاية، وأنا أقيس يومى بمعيار واحد، هل قرأت اليوم؟ هل نظرت للعالم بوصفى شاعرا؟ إن كانت الإجابة (نعم ) كان يومى ناجحا، وكنت راضيا مسرورا، وإن كانت الإجابة (لا) كان يومى فاشلا. تنشغل منذ فترة طويلة بدراسة ثقافة الثأر فى الجنوب هل كان لهذه الظاهرة تأثيرات عليك وعلى الشعراء الذين ينتمون إلى الصعيد؟ لعلى عكفت على دراسة ظاهرة الثأر لأفهم نفسى بالدرجة الأولى، وربما لأفهم لغز الإنسان من خلال الثأر، وكثيرا ما كنت أشعر أننى بتلك الدراسة أقترب من شعرى، وأعتقد أن ظاهرة الثأر لها تأثيرات كبيرة فى الشعر العربى المعاصر كله، وهناك كتاب لى على وشك الانتهاء منه، يتناول ذلك الأمر، وأعتقد أن دراساتى عن الثأر ستكون مفيدة جدا فى التعرف على تلك التأثيرات فى الأدب العربى عموما، خصوصا مع اهتمام الحركة النقدية بالنقد الثقافي، و وجود دراسة وافية عن الثأر، سيفيد النقد الثقافى وهو ينظر للثأر فى الأدب العربي، خاصة لو نجحت تلك الدراسة فى إزالة الكثير من التصورات الخاطئة عن الثأر. "أبى لا مزيد.. أريد أبى عند بوابة القصر" هكذا صرخ "أمل دنقل" فى ديوانه "أقوال جديدة عن حرب البسوس" المعروف ب "لا تصالح" هل وراء هذه الجملة رواسب ثقافية من ظاهرة الثأر؟ هى ابنة ثقافة الثأر قلبا وقالبا كما يقولون، وتجربة أمل دنقل كلها تقريبا ابنة ثقافة الثأر، والحقيقة أن ثقافة الثأر مظلومة جدا، وصورتها فى أذهان الناس مغلوطة، فالثأر قيمة إنسانية عظمى، ونحن نخلط بين قيمة الثأر والسلوك الثأرى الشخصي، فنربط الكلمة فقط بالقتل الثأرى الذى يتم بمعرفة أقرباء القتيل، هذا خطأ، الثأر نظام اجتماعي، وهو كأى نظام يخضع للتطور، وقد تطور النظام الثأرى وصار من شأن السلطة، والسلطة تقتل القاتل، تماما كما يفعل أقرباء القتيل، والفرق يكمن فقط فى درجة دقة التنظيم، الحكم القضائى ثأر كأى ثأر، لكنه يتميز بالعقلانية ودقة التنظيم أكثر من الثأر العرفى، والثأر العرفى أيضا ليس عملا عشوائيا، بل تنظمه مجموعة من الأعراف، وإن كان وجوده فى ظل الدولة دليلا على مشكلة، وعلامة على تخلف، والقتل الثأرى جزء من نظام الثأر، الذى يستوعب أكثر من سلوك آخر مثل الدية، أو العفو، أو القتل الرمزى، وترجع النظرة المشوهة للثأر لأسباب عدة، منها ربطه بالمجتمع العربى قبل الإسلام، وهذا المجتمع فى تقديرى تعرض للظلم أيضا، فلم يكن مجتمعا عشوائيا، يعيش باستمرار فى تناحر قبلى، ولا يعرف إلا سفك الدماء، تلك النظرة خاطئة تماما، وللأسف وقع فيها عدد كبيرمن الأساتذة الذين تناولوا مجتمع ما قبل الإسلام، وعندما أستعيد مثلا ما كتبه الدكتور شوقى ضيف عن ذلك المجتمع أشعر بغرابة شديدة من تورط الرجل فى أحكام لا علاقة لها بالعلم ولا بالموضوعية، وإنما تنساق وراء أفكار شائعة وجاهزة تدين ذلك المجتمع لأنه وثني، وبالتالى فهو شرير، وهذا خطأ . هل يمكن أن نقول إن بيئة الصعيد الفقيرة منحت شعراء الجنوب لغة خشنة وزوايا حادة لالتقاط الصورة؟ البيئة تؤثر فى الإنسان تأثيرات كبيرة وعميقة، ولا نستطيع تخيلها فى الغالب، والشعراء يتفاوتون من حيث انعكاس البيئة فى شعرهم، رغم إقامتهم فى مكان واحد، والبعض يعتبر التخلص من ذلك التأثير إيجابيا، فيهرب من بيئته، وهناك عدد كبير من الشعراء المقيمين فى الصعيد يحرصون على التعلق بمفردات لا علاقة لها ببيئتهم، وتأثير البيئة ليس آليا، أو لا يتم من طرف واحد هو البيئة، المسألة تتعلق بحوار، وتفاعل، يتم فى إطار عملية الكتابة نفسها، ووفق رغبتها هى بالدرجة الأولى، والمسألة فى النهاية ترتبط بقدرة الشاعر على كتابة قصيدة جيدة، فهذا هو هدف الشاعر، والعبرة بنجاحه فى تحقيق ذلك الهدف، والشاعر فى النهاية يمتلك بيئة أخرى أكثر أهمية هى بيئة المخيلة إن صح التعبير، ودور المخيلة بالغ الأهمية فى النص الأدبى عموما . عملك موظفا بإحدى المحاكم بصعيد مصر .. هل كان له أثر على رؤيتك الشعرية؟ رؤيتى الشعرية ترتبط بحياتى ككل، وعملى جزء أساسى فى حياتي، وأنا فى النهاية موظف يكتب شعرا، قد يكف عن كتابة الشعر، لكنه لن يكف عن الذهاب إلى عمله، وقد كنت مشغولا بشكل دائم بدور الشعر فى تعمير حياة الفرد، وتحويل فقرها إلى ثراء، وتطعيم روتينها اليومى المعتاد بالمدهش والجميل، والمتجدد باستمرار، وحياتى التى ذهب معظمها فى مبنى المحكمة امتلأت بتفاصيل كثيرة من ذلك العالم، وكثيرا ما كانت تلك التفاصيل موضعا للتأمل أو الرصد، ولعل أهم ما فى ذلك العالم هو العنف، ولعله ساهم فى بلورة أو ترسيخ قناعتى بأن العنف هو مفتاح الوجود البشرى ككل، وهو المعبر الأكبر عن اللغز الإنسانى العجيب.