السيد رشاد فى يوم ما من إبريل شهر الكذب والأقنعة سقطت ثمرة ضخمة من الفضاء، يبدو أن «الشرير» ألقاها وهو يسقط مطرودا من الجنة، فتبعثرت محتوياتها على الأرض، وكان أول ما انطلق منها «الكذب» وتبعته كل الشرور والآثام، هكذا تقول الأسطورة القديمة، لكن يبدو أن نصيبنا من ثمرة الكذب كان وافرا، حتى أصبحنا أكثرية تكذب كما تتنفس، وتحولت حياتنا إلى مشهد كابوسى مظلم بالأكاذيب الرسمية «راجعوا معى تعهدات الوزراء بعدم انقطاع الكهرباء وفتح محطتى السادات والجيزة أمام الركاب... إلخ» والأهلية ومن كل صنف ولون. وأصبح المصريون أغلبية تريد كل شئ، وفيها الجميع يخشى الجميع، ويحقد على الجميع ويتبادل صباح مساء أنخاب الكذب مع الجميع، فى مقابل قلة معدودة اختارت الانحياز إلى وجه الحقيقة والقبض على جمرة الصدق وحده لأنها لا تريد شيئا فوق حقها، ولا تخشى أحدا. من هنا سادت ثقافة الأقنعة، وقيم الضلالات، وأصبح معظمنا على الأقل يحمل جبال أكاذيبه واقفا على سطح ماء آسن، محاولين مثل كل اللصوص المحترفين سرقة عقول بعضنا البعض، والسطو بدم بارد على أرزاق بعضنا البعض، والأخطر أننا صرنا نجابه بكل شجاعة وإخلاص، وبشتى الوسائل «خطر الصدق» حتى صغارنا ودعوا بفضل أكاذيبنا المعتادة براءتهم، وأصبحت الحقيقة عند الكثيرين منهم وجها مختلفا، يخافون منه ويخشونه، وكأنه الجان، أو أمنا الغولة فى حكايا الجدات بأمسيات الشتاء المظلمة التى لا ينافس إظلامها سوى مستقبل «الصدق» فى مجتمع تعكس «أكاذيبه» المستمرة واقع التحلل والتفسخ الذى ضربه، فابتعد به كثيرا عن قيمه ومثالياته، وإذا كان الكذب ظاهرة اجتماعية مدمرة للمجتمع فإنها مدمرة لصاحبها أولا، حتى وإن جنى بعض المكاسب الرخيصة فى المدى القصير، ولعل فى قصة رجل الأعمال الشاب أحمد سالم الذى كان موضع الثقة المطلقة للزعيم الاقتصادى الكبير طلعت حرب، إلى حد أنه أسند إليه عدة مناصب كبيرة فى شركات بنك مصر، وقفز به برغم صغر سنه فوق كبار موظفى البنك وفيهم خيرات دولية وأصبح صاحب أكبر دخل وصل إليه رجل أعمال فى مصر، بل فشلت كل دسائس ومؤامرات الصغار والكبار فى النيل منه، حتى جاء يوم مرض فيه طلعت حرب ورقد فى بيته بحلوان، وذهب أحمد سالم ليستفسر عن صحته، فرجاه طلعت حرب أن يحضر له «طبق فول مدمس» فى صباح اليوم التالى من أشهر محل صانع فول فى مصر وقتها، وفى المساء سهر أحمد سالم مع أصدقائه فى أحد الملاهى، ثم ذهب فى صباح اليوم التالى للسؤال عن صحة أستاذه طلعت حرب وموضع ثقته وقد نسى كل شئ عن طبق الفول، وفوجئ بطلعت حرب يسأله: هل نسيت طبق الفول؟ وكان من الممكن أن يصدق ويعتذر وينتهى الأمر، لكن سالم اختار أن «يكذب» فادعى أنه لم ينس، وأنه ذهب صباحا إلى المحل الشهير فوجده مغلقا لوفاة شقيق صاحب المحل، وبعد انصراف أحمد سالم، استقل طلعت حرب سيارة وذهب إلى محل الفول، وجلس إلى إحدى موائده واستدعى صاحبه ليقدم له العزاء فى وفاة شقيقه، لكن الرجل فتح عينيه من الدهشة، وقال له لم يمت شقيقى أو أى أحد من أقاربى، فسأله طلعت حرب: هل تأخرت فى فتح محلك لأى سبب اليوم، فقال الرجل فتحت المحل فى الخامسة صباحا كعادتى كل يوم. وغادر طلعت حرب محل الفول الشهير إلى مكتبه فى بنك مصر ليوقع قرارا بفصل أحمد سالم من جميع مناصبه، وقال وقتها إن الرجل الذى يكذب فى طبق الفول المدمس، سيكذب فى ملايين الجنيهات، و بالتالى لا يصلح للعمل العام ولا يستحق ثقة المجتمع فيه. والآن ومصر تعيش واحدة من أسوأ أدواتها الحضارية، حيث حملت مرايانا المشروخة ملايين الوجوه على شاكلة أحمد سالم، بينما افتقدنا إلى وجه مثل طلعت حرب، هل يكون الحل إدخال هؤلاء الكاذبين محكم الغل؟ وإذا كانت البشعة وهى قطعة معدنية محماة فى الجمر تلتصق باللسان الكاذب، وتمثل عقوبة بشرية قاسية على جريمة الكذب فى بعض مجتمعاتنا العربية، فإن عقوبة الكذب عند «النمل» هى القتل، فيروى أن شخصا شاهد نملة صغيرة تحاول جر بقايا صرصور ضخم إلى مستعمرتها فلم تفلح، فتركتها وعادت بعد قليل ومعها مجموعة ضخمة من النمل لمساعدتها، فسارع هذا الشخص بإخفاء بقايا الصرصور. فلما وصلت النملة وزملاؤها إلى حيث تركته ظلت تبحث وهم معها عن البقايا بلا جدوى، فتركوها ورحلوا، وعقب رحيلهم وضع الشخص بقايا الصرصور مرة أخرى أمام النملة، فحاولت مجددا جرها و فشلت، فسارعت مرة أخرى لجلب مجموعة النمل لمساعدتها، وبحثوا معها بكل إخلاص عن الفريسة التى سارع هذا الشخص بإخفائها مرة أخرى، ولما يئست مجموعة النمل من العثور على بقيا الصرصور هجموا على النملة التى ظنوا أنها كاذبة ومزقوها جزاء كذبها.. ترى كم مليونا فى مصر الآن يستحقون دخول محكمة النمل.