عماد أنور-هيثم حسن - عندما تصطدم قدماك بجثة «حية» تحت أحد الكبارى فى الصباح الباكر، فاعلم أنهم هم «...» عندما يطالعك وجه اختفت ملامحه تحت أقنعة ترابية لا مثيل لها فى أكبر مراكز التجميل فى العالم فاعلم أنهم هم «...» عندما تعجز فى كل مرة عن تحديد صاحب «السحنة» التى التقتك منذ دقائق معدودة لدرجة تصبح معها كل «السحن» متشابهة كتشابه أشكالنا فى بطاقات الرقم القومى، فاعلم أنهم هم «...» عندما تجد قطع الملابس البالية والكارتون والقمامة تتحرك وسط إحدى الحدائق كما يطلقون عليها مجازا، ولكنها فى الواقع إحدى الخرابات وما أكثرها فى مصر، فاعلم أنهم هم«...». أطفال الشوارع وبنات وأمهات الشوارع! بنات الشوارع اللاتى يمثلن أكبر معمل متنقل فى العالم لتفريخ أطفال شوارع جدد خشية انقراض النوع. تلك القنبلة الموقوتة التى تعمل بمنتهى الجد والنشاط كتفا بكتف مع أولاد الشوارع لزيادة الإنتاج فى هذا المصنع أو «معمل التفريخ»الذى يعد الوحيد الذى لا يزال يعمل حتى الآن بلا إضراب ولو لساعة واحدة ..لم يرفع يوما لائحة مطالبه الفئوية لتحسين أجره ..لم يلوح يوما براية العصيان المدنى .. لم يذهب يوما للتظاهر أمام مجلس الوزراء! فهذا الأخير لا يعرفهم وهم أيضا لا يرغبون فى معرفته ولا رؤية طلته البهية...لا هو ولا من يعملون فيه! هم سقطوا من حسابات المجتمع فسقط المجتمع بكل قيمه من حساباتهم. وإذا كانت هناك رائعة أدبية لطه حسين اسمها «المعذبون فى الأرض»، فهناك رائعة غير أدبية أبشع منها اسمها «المشردون فى الأرض» أو بمعنى أدق المشردات فى الأرض . هؤلاء المشردات كن يهربن فى الماضى من قسوة الأب أو الأم أو زوجة الأب أو زوج الأم أو الجد أو الأعمام أو العمات أو .....الآت آت آت...اليوم لم يعد هناك لا أب ولا أم ولا أعمام ولا عمات ..اليوم أصبح الشارع هو الأب والقمامة هى الأم، فالأب الحقيقى متعدد الجنسيات لا أحد يعرفه. أما الأم فهى طفلة اغتال الشارع براءتها بعد أن أصبحت تعيش خارج نطاق الإنسانية....أعدادهم كثيرة ونتحدى أى شخص أن يأتى لنا بأعدادهم الحقيقية، فما تعلنه المنظمات الرسمية من أعداد ما هو إلا حبر على ورق لزوم تسديد الخانات. عيال الخرابة كانت البداية معها..طفلة صغيرة تمسك بأناملها -التى اختفت وراء طبقة سوداء- قطعة طعام من أحد مقالب القمامة التى تعج بها القاهرة ..لون قطعة الطعام لا يختلف عن لون يديها ولا عن لون القمامة...ابتسمت فى براءة عندما سألتها عن اسمها فقالت سحر..لا تعرف لها عمرا وإن كانت لا تزيد على أربع سنوات بحسبة السنين، وأربعين سنة بحسبة الشقاء.. سحر تقطن وراء مقلب القمامة مع أمها التى لا تزيد هى الأخرى عن عشرين عاما... والدة سحر لم تهرب من منزل أسرتها كما نسمع دائما، ولكنها كانت ببساطة تعمل خادمة فى البيوت ويأتى والدها كل أول شهر للحصول على مرتبها. لم تتأفف ولم تتمرد على وضعها ولكنها ببساطة حملت من أحدهم! من هو؟ لا نعرف ولكن «آهو أحدهم وخلاص «وخوفا من معرفة أسرتها بما حدث قررت الهروب واللجوء للشارع، لأنه من وجهة نظرها سيصبح أحن عليها من الجميع...لم تفلح محاولات إسقاط الجنين الذى أبى إلا أن يخرج للدنيا ليواجهنا جميعا بالعار والخزى وسؤال واحد .. أى حجاب تأمرون الناس بارتدائه وأنا عار وسط القمامة؟ سحر ليست الأولى التى تولد على الرصيف ووالدتها ليست الأولى التى تتعرض للاغتصاب حتى لو كان برضاها...فالشارع يعج بالملايين من هؤلاء...العلاقات غير المشروعة هو الثمن الوحيد للحياة وإلا فالموت هو البديل. لا أحد يبحث وراء موت أو قتل هؤلاء، فتقييد القضية ضد مجهول هو أسهل الطرق لتستيف الملفات وسد الخانات. اسمى «هدية» ماعرفش مين اللى باعتها ولا فيها إيه لكن آهو هدية وخلاص..بهذه الكلمات بدأت هدية كلامها وعلى فمها الذى لا تبدو ملامحه بقايا ابتسامة ساخرة من القدر الذى أعطاها اسما على غير مسمى...تعيش هدية على التسول..مكانها محطة مترو رمسيس، وأحيانا محطة القطار التى تعج بزميلاتها وزملائها..هى تتسول بالنهار وتنام فى المساء فى قلب محطة السكة الحديد التى على حد تعبيرها «يتقتل فيها القتيل ماحدش يدرى بيه» زملاؤها من شحاتى المحطة يتقاسمون معها ومع زميلاتها كل شئء بدءا من الطعام مرورا بالكراتين التى يتدثرون بها وصولا إلى الجسد! هنا كل شىء مباح ومتاح...كلمة «لا» لا تعرف طريقها إلى قاموسهم.. فالعنف هو سيد الموقف دائما وإذا كانت الأموال هى اللغة الأم للأغنياء فالمطواة هى اللغة الأم للمشردين. تصعد هدية إلى المترو وتتجه مباشرة إلى مقاعد الفتيات من طالبات الجامعة خاصة من تتوسم فيهن الثراء لأنهن على حد تعبيرها «ولاد ناس ونضاف وباصعب عليهم أوى...كفاية أقول لهم ..والنبى لقمة لأنى على لحم بطنى من أول إمبارح! حتى تتبارى كل واحدة فى إعطائى نقودا أكثر من صديقتها من باب التباهى وفى الآخر أنا الكسبانة». تعود هدية إلى محطة مصر لكى تعطى ما حصلت عليه من أموال «للكبير» الذى لا يستطيعون المبيت أو الأكل بدون رضاه... والكبير هو المتحكم فى كل شىء فهو من يقرر لمن يعطى الطعام ولمن يهادى الفتيات...فلطالما تم إهداء «هدية» وصديقاتها وأصدقائها أيضا لبعض أصدقاء الكبير. بالطبع بعد أن يكون هو افتتح الليلة.. «ليلة حفلة الجنس الجماعى»...هى لا تعرف لا عدد الأشخاص ولا عدد المرات التى مارست فيها الجنس، ولكن كل ما تؤكده أنها لم تحمل حتى الآن، بينما تؤكد أن كثيرا من صديقاتها حملن.. بعضهن أجهضن وبعضهن أنجبن، ولكن لا أحد يعرف من هو والد هؤلاء الأطفال...فإذا كانت المقولة الشهيرة تقول إن للنجاح ألف أب بينما للفشل أب واحد فقط، فإن هذه المقولة لابد وأن تتحطم على صخور هذا الواقع البائس، فالفشل هنا له مليون أب.. لكن لا أحد فيهم يرغب فى الاعتراف بأبوته! إذ كيف يعترف وهو متأكد أنه ليس هو؟ هكذا تساءلت داليا التى تحمل رضيعا على ذراعها يبدو من مظهره أنه يعانى الجفاف والمجاعة والإهمال وكل أنواع الشقاء...هى تسرح به فى المواصلات العامة وتقسم للركاب أنه يعانى الجوع والمرض واليتم.. هى فعلا صادقة. الكذبة الوحيدة، أن المرض والجوع واليتم لا يصيب سوى الأحياء، أما هؤلاء فهم أموات.. لم يروا من الحياة سوى قدميها...فلو أن الحياة اكتفت بإعطائهم ظهرها لكانت حالهم أفضل من ذلك. قانون الضرب تعيش داليا بجوار المراحيض العامة القابعة وسط شارع 26 يوليو، لتكون شاهدة على القبح الذى تعيشه البلاد..داليا لا تفرق الكثير عن هذه المراحيض..نفس الإهمال..نفس الرائحة...نفس الهدف..هى مأوى لكل من أراد أن يفرغ ما بداخله أيا كان...على بعد خطوات يجلس مجموعة من الصبية فى مرحلة ما قبل الغيبوبة يشمون العلبة الصفيح المشهورة والتى تجعلهم ينسون ما حولهم ويفعلون أى شىء فى أى وقت دون أى رادع...يساومها أحدهم على ما معها من مال مقابل طفلها...يجذبه بعنف من كتفه لدرجة تكاد تخلعه لتجد داليا نفسها أمام خيارين إما اعطاؤه النقود التى يريدها او ارتطام رأس وليدها بحافة الرصيف. المال بالنسبة لداليا أهم من الجسد فالمال يأتى بصعوبة خاصة فى بعض الأيام، أما الجسد فهو موجود ليل نهار ولن ينضب! فهناك من يستغله ويدفع مقابل ذلك ولولا هذا لما وجدت داليا قوت يومها، فالشحاتة لا تؤكل عيشا على حد تعبيرها . أما المتاجرة بالجسد فأسعارها ثابتة ومضمونة ولكن نتيجتها طفل شارع جديد يضاف لقائمة المشردين الذين “يعيشون" – أن جاز تعبير العيش هنا- بلا هوية لتتضاعف أعداد أطفال الشوارع . الضرب هنا مثله مثل الأكل والشرب واستغلال الجسد..هو شىء لابد منه...فهل يستطيع أحد العيش دون طعام أو شراب ؟ هكذا حال أمهات الشوارع...الضرب هو القانون الذى يحكم الجميع فالبقاء هنا للأقوى، أما الأضعف فلا ينتظره سوى مشرط يقطع وجهه أو ماء نار يشوهه. رقص.. زبدة بالطبع ما إن تسمع واحدة منهن عن جمعيات الرعاية الاجتماعية حتى تصيح بسخرية لاذعة .."مين؟ لأ ما عرفهاش !" بالطبع من أين لهن بمعرفتها وقد فقدن كل وسائل الاتصال بالعالم الخارجى، فلا هى تعرف من يحكم ولا من يحاكم..من انتخب ومن تنحى..هى لا تعرف سوى لغة الشارع من ضرب واغتصاب وشذوذ ومخدرات وأطفال جدد بلا هوية لاستكمال مسيرة سوداء ستنفجر فى وجه المجتمع إن آجلا أو عاجلا... مجتمع ينتفض لرؤية شعر امرأة عار ولا ينتفض لرؤية مليونى طفل عار وحافى القدمين !