للمصحف الشريف قدسية فريدة عند كل مسلم، وحتى وإن كان لا يقرأ ولا يكتب، ألا نراه فى عربات التاكسى (على سبيل التبرك)؟! وكذا نراه فوق صدور النساء مصنوعاً من الذهب الخالص. وربما أكثر ما نراه فى أيدى الرجال والنساء، خصوصاً أصحاب الوظائف الحكومية فى شهر رمضان الكريم. المصحف الشريف بلا شك ملاذ روحى آمن لمن يشعر بخواء النفس والروح تماماً كما هو ملاذ آمن يحمله لمداومة القراءة فيه وحفظ آياته وسوره.. من هذا المنطلق يروى التاريخ الكثير من الوقائع التى يهرب فيها الطغاة إلى كتاب الله، ربما ندماً حقيقياً، أو تمثيلية الرجاء منها الاستعطاف، وخصوصاً عند الحكام الذين أوقعتهم أفعالهم الإجرامية تحت أقدام شعوبهم، فدخلوا مرغمين قفص الاتهام والمحاكمات. وبرغم كثرة الشواهد قديماً وأشهرها واقعة تحكيم كتاب الله بين الإمام على كرم الله وجهه ومعاوية بن أبى سفيان، بل إن الحجاج بن يوسف الثقفى، كان يذكر لمن يعودونه فى مرضه أنه الذى وضع النقاط فوق حروف المصحف لتسهل قراءته، وكأن ذلك شفيع لديهم لكثرة ما قتل وما سفك من دماء المسلمين. ويقفز بنا التاريخ على أرض العراق أيضاً لنرى حرص الرئيس العراقى الأسبق صدام حسين، أثناء محاكمته وقد حرص فى كل جلسة على حمل المصحف الشريف بل والقراءة فيه والاستشهاد بكثير من الآيات. وإذا عبرنا إلى مصر الكنانة حيث القفص الحديدى فى أكاديمية الشرطة حيث يوضع مبارك وأولاده ووزير داخليته وستة من معاونيه، نجد المصحف الشريف يتصدر المشهد واحد فى يد جمال وآخر فى يد علاء، وثالث يحمله حبيب العادلى، وقد حمله من قبلهم العقيد الليبى معمر القذافى. والذى لا شك فيه أن ذلك لم يكن من قبيل توارد الخواطر والأفكار بينهم، فلم يكن أحد منهم يعلم أو جال بخاطره أن ما هو فيه سيكون مصيره. على كل حال المصحف كتاب له قدسية خاصة يكفى ذكره أن يشعرنا بالجلال ويحيطنا بهالة من النور، فما بالنا لو حملناه سنستقبل ونرسل الكثير من الرسائل التى تصل إلينا منه ويتلقاها المحيطون بنا من إيمان قوى وتمسك بشعائر الدين وأوامره ونواهيه، ناهيك عن تحقيق العدل والبعد عن الظلم، فهل هذه هى الرسائل التى يسعى الطغاة لتوصيلها لشعوبهم خلال محاكمتهم الأخيرة؟ أم أن الموضوع له أبعاد أخرى سياسية ودينية ليست بعيدة عنا نحن الشعوب البسيطة والتى حاولنا اكتشافها خلال هذا التحقيق؟ الدكتورة نجوى عبدالحميد، أستاذ علم الاجتماع بجامعة حلوان، تصف هذا السلوك بأنه نوع من التورية والسعى إلى التعتيم على ما فعلوه لأن المصحف فى حد ذاته رمز يعكس الكثير من الصفات وبالتالى فهم يسعون إلى وضع أنفسهم فى قالب من المثالية والضعف والاستكانة، وهم مصابون بازدواجية فى الشخصية يظهرون غير ما يبطنون، فأين كان المصحف عندما كانوا على الكراسى والسلطة بين أيديهم؟ تذكروه الآن!! ولا تستبعد أن يكون الهدف الأساسى من حمله الحصول على استعطاف الناس وكسب شعبية وربما التأثير فى هيئة القضاء، وذلك بدا واضحاً من حرص صدام حسين الرئيس العراقى الأسبق على دخول المحكمة وهو يحمل المصحف وتكرر الأمر مع جمال وعلاء مبارك، وبعض رموز النظام السابق، لكن هيهات أن يؤثر ذلك فى حكم الشعوب عليهم لأن من ذاق مرارة الظلم من الصعب عليه أن ينخدع. وتتفق معها الدكتورة منى الفرنوانى، أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاهرة، فى أن الحصول على استعطاف الناس هو هدفهم الأساسى فهم يضربون على أوتار سيكولوجيا المجتمع، ولكن دون جدوى لأن الشعوب أصبحت أكثر وعياً وخبرة ومن الصعب التأثير عليها ولتأخذ ما فعلوه بالقذافى مثلاً، فلم يرحمه وجود المصحف فى مقتنياته من الثأر منه. وتفسر ذلك بأنهم عندما كانوا فى مراكزهم لم يتقوا الله وأعمتهم السلطة ونسوا أن هناك كبيراً، فهى ليست توبة حقيقية بل تمثيلية تدل على سماجتهم لأن الضغط على العاطفة أصبح من الكروت المحروقة بين العرب لا سيما أن هناك الكثير من الأرواح التى أزهقت والعديد من البيوت خربت، فأين حق هؤلاء؟ فلا يكفى حملهم للمصحف أن يكفر لهم ما فعلوه، لأن نفوس شعوبهم لم تعد تتحمل المزيد. الرمز الدينى هذا ما رآه علماء الاجتماع، أما علماء النفس فلهم رؤية تبدو إلى حد ما قريبة من السابقين، فالدكتور عصام عبدالجواد، أستاذ الصحة النفسية بكلية التربية، جامعة القاهرة يرى أنه نوع من الرمز لأنهم يدركون تماماً بأن الشعوب العربية بطبيعتها متدينة وتميل إلى التمسك بالشعائر وتؤمن بمبدأ الأعمال بخواتيمها لذا يسعون إلى ترك انطباع جيد لديهم بعيداً عن كل ما تسببوا فيه من آلام لهم، ولكن يبدو أنهم فشلوا فى ذلك، وأعتقد والكلام لها أن هذا السعى سيعود عليهم بالسلب وسيكون حكم الشعوب أقسى مما توقعوه. مصالح شخصية ولا يبتعد الدكتور هاشم بحرى، أستاذ الطب النفسى، كثيراً عن هذه الرؤية فى أن القضية ليست «مصحفاً» بل هى سلوك، فالدين المعاملة، فمن خلال سلوك الإنسان أستطيع أن أحكم عليه، هل حمل المصحف أحدث تأثيراً فى طباعه وأفعاله؟ أم أنه «ادعاء» هدفه مادى بحت؟ وبين أن ما يحدث ما هو إلا تطبيق لنظرية نفسية من خلال استغلال الدين لتحقيق مصالح شخصية، فلو كانت توبة حقيقية، لابد فى البداية من أن يعترف الإنسان بذنوبه ويسعى إلى رد المظالم إلى أصحابها، وهم لم يفعلوا شيئاً من هذا بل يصرون على رأيهم بأنهم لم يرتكبوا خطأ حتى إنهم لم يفكروا أبداً فى رد ما سرقوه ربما يسعون من خلاله إلى التأثير فى هيئة القضاء ناهيك عن أهدافهم الأخرى. حكم القضاء هنا كان من الضرورى أن نستفسر عن مدى تأثير ذلك فى حكم هيئة القضاء، وهو ما نفاه الدكتور محمد جمال، أستاذ القانون بجامعة الزقازيق من أن القضاة لا يتأثرون بهذه الأمور لأنهم كثيراً ما تعرضوا لذلك، فالقاضى أمامه مستندات وحيثيات للحكم يتخذ من خلالها قراره ومن حقه أن يمنعهم من حمل المصحف إذا رأى أن ذلك سيؤثر عليه وهو أمر مستبعد تماماً، إلا أنه من الأمور التى تهم الوسائل الإعلامية وتركز عليها، لذا فالقضاة يفضلون أثناء الحكم فى القضايا الابتعاد عن متابعة كل ما يثار حولها إعلامياً حتى لا يحدث ذلك تأثيراً على حكمهم، ومع كثرة الفضائيات أصبحت هناك وجهات نظر مختلفة كل يحاول أن يكسب جمهوراً أكثر. وأعتقد والكلام يعود إليه أن التاريخ ملىء بهذه القصص لا سيما أن من يحكم عليهم بالإعدام نراهم أكثر الناس تقرباً إلى الله وكثيراً ما يحملون المصحف فى محاكمتهم ربما لأنه يشعرهم بالراحة أو لأنهم يشعرون بالذنب والتقصير ويسعون إلى كسب رضا الله وغفرانه. قصص التاريخ إذن فتاريخنا ملىء بقصص تبدو قريبة لما يحدث الآن على الساحة من التمسح بالدين، ربما هذا السلوك ورثوه من حكام سابقين فاسدين سطروا صفحاته ظلماً وعدواناً، هذا ما يؤكده الدكتور عاصم دسوقى، أستاذ التاريخ بأن هناك قصصاً كثيرة، فالملك فاروق كان يحب أن يظهر على أنه رجل متدين ويهتم بإحياء ليالى رمضان حتى أطلق عليه الناس لقب الملك الصالح، وهناك قصة التحكيم المشهورة بين على ومعاوية عندما رفع المقاتلون المصاحف فى المعركة للتحكيم، وكانت خدعة وتم اكتشافها، ولكن بعد فوات الأوان. وهذا لا يعنى والكلام يعود إليه أن هناك الكثير من الحكام الصالحين الذين حاولوا أن يعلوا شأن الدين فأعلى هو شأنهم، ربما تكون هذه عودة حقيقية منهم إلى الله وتوبة وهناك قصص عن حكام عاشوا حياة ضالة، لكنهم رجعوا إلى الله وتابوا عندما مروا بأزمة سواء كانت سياسية أم صحية وحتى اجتماعية، ولكن التوبة لها شروط معروفة لا يمكن الحياد عنها. توبة إلى الله فهل هى حقاً توبة حقيقية وخوف من الله؟ هذا ما سيوضحه لنا الدكتور عبدالفتاح الشيخ، رئيس جامعة الأزهر الأسبق، من أن حمل المصحف فى ثقافتنا الدينية شىء مقدس وهو دعوة للتوبة ربما هدفهم الأساسى توصيل رسائل تؤكد أنهم عندما ابتعدوا عن الله عاثوا فى الأرض فساداً ولكنهم تابوا ورجعوا إليه من خلال دستوره السماوى «القرآن». ويؤكد أننا لا نحاسب البشر من الناحية الدينية فالذى يحاسبهم هو الله، فإذا كانت توبتهم حقيقية فالله يتولاهم وإذا أراد أن يرحمهم رحمهم وغفر لهم، وإذا أراد أن يعذبهم فهو شأنه جل جلاله أما إذا كان هدفهم دنيوياً فهو أمر أيضاً يرجع إليه، ولكنهم يكونون بذلك خسروا دنياهم وآخرتهم لأنه لن يخرجهم من محبسهم ولن يرحمهم من العقاب، ومن قام بعمل عليه أن يتحمل عواقبه مهما كانت ثقيلة، فلن يغير حملهم للمصحف من مصيرهم الذى صنعوه بأيديهم. على كل حال لن نضار إذا كان حملهم للمصحف عودة إلى الله وتوبة، ولكن قبل كل شىء لابد أن يردوا المظالم إلى أصحابها، وإن كان هدفهم هو استعطاف شعوبهم لم يعد الأمر سهلاً لأن عصر السذاجة انتهى، فهناك حقائق من الصعب إنكارها أو نسيانها والتاريخ ملىء بالقصص الشبيهة عليهم أن يقرأوها ليتعلموا الدرس.