كنا فى الجولة الأولى لانتخابات الرئاسة، أيامها قال لى صديقى السفير، إنه لا يستطيع أن يعطى صوته لعمرو موسى، لأنه يعرفه، وخاض قليلاً فى سيرته، وقال لى صديقى السكندرى، إنه لا يستطيع أن يؤيد أبا الفتوح، لأنه يعرفه، وخاض فى سيرته، واكتشفت أننى لن أستطيع أن أمنح صوتى لحمدين صباحى، لأننى أعرفه، وخضت مع نفسى، ودون استحياء، فى سيرته، وتهيأ لى بعدها أن الجهل يريح الضمير، والمعرفة توقظه، وعند التصويت، منحت صوتى لشخص أجهله، صحيح أننى تلكأت، ولم أضع الصوت فى خانة المرشح خالد على، على الرغم من أننى أجهله أيضاً، فإننى ندمت بعد ذلك بسبب اقتناعى اللازم بضرورة انسحاب جيلى من القيادة، فالثورة مكتوب على بابيها الأمامى والخلفى أسماء الشباب ومرسومة وجوههم بدماء الشهداء منهم، وخالد على واحد منهم، من الشباب الأحياء، عند هذا المفترق، توقفت كأننى على قارعة الطريق، سألت نفسى عن طبيعة القوى التى تحيطنى من جانبين، اليمين واليسار، وتركت منظور الرؤيا الذى أمامى مفتوحا، وأهملت الزقاق وراء ظهرى، رأيت عن يمينى إسلاميين بدرجات ومراتب، رأيت إخوانا وسلفيين وجهاديين ووهابيين وسوقة، كانت الجماعة الأكبر والأكثر تدريباً وتنظيما هى جماعة الإخوان، وكانت الأقرب إلى السياسة كعلم محض وممارسة محضة، لكننى رأيت على وجوههم غبار السجون التى عانوها، وفوق رءوسهم كتل الظلام الذى غادروه للتو، كأنها تصاحبهم ولا تتبدد، كأنها التصقت بهاماتهم، قلت لنفسى، هؤلاء مارسوا السياسة كعلم محض بعكوفهم على كتب السلف القريب، والذى يبرز بينه الشيخان حسن البنا وسيد قطب، ومارسوا السياسة كفعل محض، بعكوفهم على مصالحهم المباشرة التى تجعل كبيرهم على هيئة موظف صغير، على هيئة باش رئيس، وبسبب وجودهم وراء الأسوار، مارسوها، كتقيّة، كظاهر وباطن، كحيلةٍ تصل حد التآمر إذا لزم الأمر، وكان هذا ضروريا أيام محنتهم، لكنه تحول من طبع مكتسب إلى طبيعة غلابة، أفتى بها وأباحها فقهاؤهم، ولما بلغوا الحكم لم يستطعوا أن يغالبوا طبيعتهم الأخيرة، وخضعوا لها خضوع المضطر والمغلوب على أمره، وكذلك خضوع الراغب والمحمول على هدفه، فوضعتهم الأيام بين هلالين أسودين، وحاولت أن تغلقهما، لولا أن السياسة صيرورة وتحول دائمان، صعدوا إلى سدّة الحكم صعود منبر المسجد، وإن بغير خشوع، وإذا أجبرتهم الظروف نزلوا عنها نزول الهابط من أعلى، إن شاء الله، وكانوا آن صعودهم الحاصل ونزولهم المأمول براجماتيين خالصين، حتى إن براجماتيتهم التى تعارضت أحيانا مع صحيح الدين، تعارضت وغلبت هذا الصحيح، فلم يستطع الشباب أن يروا ماذا يحمل هؤلاء الساسة على أكتافهم، ولم أستطع مثلهم، وكدت أكتفى بذلك الذى رأيته عن يمينى، لولا هؤلاء الذين يسعون أقصى اليمين ببراءة خشنة، السلفيون والجهاديون والوهابيون، أقدامهم الغليظة تزرع الأرض فوضى، ولحاهم الكثيفة تحجب السماء عن الذين يحبونها، كنت أعرفهم، وأعرف أنهم لم يكونوا يوما أهل سياسة، لقد خرجوا علينا وكأننا غنيمة منهوبة للقادرين، وممنوحة للأكثر تقوى، وهم الأكثر تقوى، عند ذاك اكتفيت بالنظر إلى ما هو عن يمينى، واتجهت إلى يسارى، فرأيت نفرا آخرين، رأيت شتاتا من أدنى اليسار إلى أقصاه، بينهم ليبراليون كانوا الأقرب إلى الغرب العام والغرب الأمريكى، من البرادعى إلى عمرو حمزاوى، ولم نكن نظن أن مصالح كلا الغربين خصوصاً الغرب الثانى، الويسترن، ستؤدى إلى إزاحة هؤلاء الليبراليين، والتخلى عنهم فى سبيل تحقيق سايكس بيكو جديدة لا يمكن أن يساندها أى فريق من القوميين، والليبراليون المصريون قوميون بالقوة، ولكنهم مع ذلك ليسوا السند الأكيد للأمميين الجدد، الأمميون الدينيين، شتات اليسار بينه ناصريون يحلمون بعودة ذى الأنف الكبير، وعربته المكشوفة، مكشوفة قبل عربة حمدين، وشيوعيون بيروقراطيون لم يرغبوا بعد فى إزالة صور رفعت السعيد وصلاح عيسى عن صدورهم، وشيوعيون غير بيروقراطيين مازالوا يحلمون، وتروتسكيون قلة يقفون عند النقطة أقصى اليسار، وقوميون عرب يفترشون الأرض، أذكر أنه فى آواخر الثمانينيات، وعندما انهار الاتحاد السوفيتى وتقوضت النظم العربية التى زعمت بأنها ثورية، صدام حسين وياسر عرفات، وأصبح قطاع كبير من نخب اليساريين الاثنين، الشيوعى البيروقراطى والقومى البيروقراطى، خصوصاً الذين كانوا ينادون مموليهم الأسخياء: يا أبانا يا أبانا، بعد الانهيار أصبحوا يتامى بلا آباء، فذهبوا يبحثون عن أب بديل واكتشفوا أنه جلس فوق كرسيه ينتظرهم، إنه الديكتاتور، وكان فاروق حسنى وجابر عصفور يدعوانهما للصعود إلى السفينة الطافية، السفينة النشوانة، على أن يدفعوا الرسوم، سألوا: وما الرسوم؟ قيل لهم: أن تحاربوا التيارات الإسلامية نيابة عن الديكتاتور، ففعلوا، وأمعنوا، وتحول فعلهم لطول الوقت من طبع مكتسب إلى طبيعة غلابة، وعندما دهمتهم الثورة كانوا قد أصبحوا محض انتهازيين، فلما أجبرتهم أن يكونوا معارضة، لم يستطيعوا أن يغالبوا طبيعتهم الأخيرة، وخضعوا لها خضوع المضطر والمغلوب على أمره، وكذلك خضوع الراغب والمحمول على هدفه، عند ذاك تركت النظر إلى يمينى ويسارى، ورغبت عن النظر خلفى، لأننى أعلم أن الذين هناك، هم الذين هناك دائماً، إنهم عملاء كل نظام، شوكة فى الظهر لا تكف عن إيلامك، كانوا أذناب الديكتاتور، ويستعدون ليصيروا أذناب الشيخ بعد أن يستقر، عيونهم مفتوحة على الجهات الثلاث الأخرى، وألسنتهم التى نادت بالدولة المدنية الصرف و بإلحاح، أصبحت تنادى بالدولة المدنية الدينية، خشية أن تفوتهم الفرصة، واستعدادهم للتحالف مع الغالب لا ينتهى، لكن فطنتهم تدفعهم لانتظار جلاء الغبار الأخير عن الغالب الأخير، هم فى الحقيقة قوة لا يُستهان بها ولا يُستعان عليها، فأيديهم تعرف كيف تشعل الفرن وكيف تطفئه، وأوانيهم مليئة بالزيت الوسخ، زيت تشغيل الماكينات، ليس أمامى إلا منظور الرؤية المفتوح قبالتى، حيث شباب الثورة بعد أن ضحك عليهم سكان الجهات الثلاث، وقبلهم خدعهم الديكتاتور نفسه، عندما تخلى عن سلطاته بعد ثمانية عشر يوما فقط، أى قبل أن تستوى الثورة وينضج الشباب، ويتجدد وعيهم الثورى، وتتضح وتتحدد برامجهم وقادتهم، التخلى المبكر سمح للقوى الجاهزة والراغبة فى السلطة، أن تغادر الميدان بسرعة لتحصل قبل الآخرين على استحقاقاتها، الإسلاميون حصلوا على الكرسى، واليسار والليبراليون على ظل الكرسى، والمتحولون على براميل الزيت الوسخ، وبقى الشباب هكذا، أياديهم فارغة، وقلوبهم عمرانة، وآمالهم تتعلق بفراشة واحدة تطير ولا تكف عن الطيران، فراشة استمرار الثورة، التى إما أن تضيع تماما، وإما أن تتحقق وتعتدل بأن يكون قادتها هم أصحابها، أصحاب المستقبل، لا تنسوا أنهم الوحيدون الذين لم يصبهم (الديكتاتور بأمراض البراجماتية الرثة أو الانتهازية الرثة أيضاً), الوحيدون اللائقون بفكرة الثورة.