شخصيات عديدة ممن ماتت في عصرنا الحديث لا يزال موتهم يمثل لغزا كبيرا، وفي مقدمتهم عبد الناصر والملك فاروق وعبد الحكيم عامر والرئيس الجزائري هوارى بومدين، وحديثا عمر سليمان، القبور وحدها فقط هي التي تعرف حقيقة موتهم، ولكن ماذا لو تم استخراج رفاتهم كما حدث مع الرئيس عرفات أخيرا، فهل يمكن للقبور بعد صمت طويل أن تبوح بأسرارها من خلال تحليل هذه الرفات بواسطة المتخصصين؟ وما الإجراءات اللازمة لاستخراج رفاتهم؟ وهل بتحليلها يتم قطع الشك باليقين؟ أم أن الحقيقة يمكن أن تموت معهم بمضي سنوات معينة؟ «الأهرام العربي» التقت د. فخري صالح، كبير الأطباء الشرعيين ورئيس مصلحة الطب الشرعي سابقا ووكيل أول وزارة العدل، صاحب التاريخ الطويل في هذا المجال، وهو أيضا من أنشأ الطب الشرعي في الأردن، كما أنشا قسم الطب الشرعي في النيابة العامة عام 2004 في البحرين. ومعه كان هذا الحوار: بداية هل هناك إجراءات معينة لابد من اتباعها قبل استخراج الرفات من القبور؟ بالطبع لابد من إجراءات وبدونها يصبح الاستخراج غير قانوني وباطلاً، فبعد إبلاغ النيابة بالشكوك حول الوفاة، تقرر النيابة أو الجهة القضائية بعد التحريات ما إذا كانت هناك جدوى من الاستخراج أم لا، فإذا تمت الموافقة، يتم تحديد موعد لاستخراج الجثة، وفي الموعد المحدد ينتقل رئيس النيابة ومعه أعضاء من النيابة ورئيس المباحث وضابط لتأمين وحماية المقابر وقت الاستخراج والطبيب الشرعي والمعاون الفنى له، بالإضافة إلى أقارب المتوفي أو أحد الأقارب للإدلاء ببيانات عنه، علاوة على التربي واللحاد لمعرفة كل شىء عن المتوفي، ووقت وفاته حتى لا يتم التعامل مع جثة أخرى، وبعد التعرف على جميع التفاصيل الخاصة بالجثة، يتم التعامل معها داخل القبر قبل رفعها وإرسالها للمشرحة. أسرار الموت ما التفاصيل التي تحتاجونها؟ يهمنا أن نتعرف على المنطقة التي دفن فيها، وهل هي طينية أو رملية أو بحرية، لأن حالة كل مكان وبيئته تجعلنا نتوقع الحالة التي ستكون عليها الجثة، التي تحدث لها تغييرات بعد الوفاة، فإما أن تتعفن وتتحلل أو تظل كما هي لمدة عشرات ومئات السنين. وهل يفيد التعرف على المرحلة التي عليها الجثة في الكشف عن أسرارها؟ المقارنة بين حال الجثة وما إذا كانت تتوافق مع المرحلة التي يجب أن تكون فيها، تؤكد لنا أنها هي الجثة المقصودة. هل يمكن أن تتلاشى الحقيقية مع مرور الزمن؟ كلما كان الكشف بعد وقت قليل من الوفاة، كلما كان الاحتمال كبيرا للوصول إلى أسرار موتها، في حين يقل هذا الاحتمال كلما مرت السنوات، لأنه كلما زاد الوقت، زادت معه التغييرات وتتعقد الأمور أمام الطبيب الشرعي. ما نوعية العينات التي يتم أخذها؟ يتم أخذ عينات من الجثة نفسها، ومن أسفلها ومن الأماكن القريبة منها والبعيدة عنها، وكذلك عينة من الجزء العلوي من الكفن والجزء السفلي منه، فربما تكون هناك مواد زراعية سامة قد تم رشها، وحتى نتأكد من أن السم موجود في الجثة فقط، دون الأماكن المحيطة بها، وإذا كانت الجثة كاملة نأخذ عينات من الأحشاء والمعدة والأمعاء والكبد والمخ والمثانة والكليتين والبول، وكذلك تقليم الأظافر والشعر وأجزاء من العظام في حالة تحلل اللحم لتحليل «دي إن إيه»، ثم يتم إرسال العينات للمعمل لمعرفة أنواع السموم وما إذا كانت هناك علامات مميزة مثل عملية سابقة أو أصيب بكسر في العظام، وإذا وجد لابد أن نتعرف هل هذا الكسر كان قبل الوفاة أم بعدها، فقد يحدث مثلا أن تقوم عائلة بضرب ميتها بالرصاص لكي تتهم عائلة أخرى بذلك، وهو ما يجعلنا نتعرف ما إذا كانت الإصابات حيوية أى أثناء الحياة، أو غير حيوية، كذلك إذا وجدت بها طلقات رصاص، هنا لابد أن نتأكد من أنه موجود منذ زمن في الجثة، وليس حديثا ويتم تحديد ذلك بدرجة تجنزرها وكمية الصدأ الذي عليها نتيجة تفاعلها مع مراحل تحلل الجثة، أما إذا كانت تلمع، فهذا مؤشر على أنها طلقة حديثة وضعت بعد الوفاة، وهناك حالات نأخذ فيها العظام ونقوم بتصويره بالأشعة لتصويرها شكل الكسر، لأن ذلك يظهر لنا شكل الأداة المستخدمة في القتل. وماذا عن السموم؟ إذا كانت هناك سموم أو مهدئات يتم تحديد نوعيتها لكي نصل إلى كيفية حدوث الوفاة، وهل حدثت نتيجة انتحار، أو بشكل عرضي كمن يتناول مبيد حشري دون قصد، أو جنائي. غموض أي أنواع الجرائم هي الأصعب في كشفها؟ بالطبع، القتل بالسم هو أصعبها وألعنها، لذلك من يلجأ للقتل به يحكم عليه بالإعدام، لأنه يتم عن عمد وتخطيط، في حين أن القتل بالعيار الناري بواسطة الاغتيال أمر مكشوف، تماما كما حدث مع أنديرا غاندي التي قتلها حارسها بالرصاص، واغتيال ابنها راجيف، لكن القتل بالسم دائما ما يصاحبه الغموض في الوفاة. لماذا دائما يكون الغموض هو المصاحب دائما لموت المشاهير؟ لأنه كلما كانت الشخصية مهمة جدا، تم البحث عن سموم يصعب اكتشافها، فعبد الناصر مثلا لا يزال موته لغزا، ولو كان مات بالفعل مقتولا، فأنا أرجح قتله بالكريمات السامة التي كان طبيبه الخاص وقتها يستخدمها في المساج الخاص به، وأميل لصدق هذه الرواية التي رويت في السبعينيات عندما تم القبض على خلية جاسوسية لإسرائيل في العجوزة، وكان من ضمنها طبيب العلاج الطبيعي د. على العطفى الخاص به، وقد حكم عليه بالسجن المؤبد، ومات فاقد البصر فى السجن بعد 14 عاما. ولكن هناك رواية أخرى عن موته بوضع السم له في فنجان القهوة، وقد حامت الشبهات حول السادات؟ أستبعد ذلك، لأن عبد الناصر كان مصابا بما يعرف بالسكر البرونزي والمعروف بتأثيره على الأوعية الدموية للجسم، لدرجة أنه كان لا يقوى على السير 50 مترا دفعة واحدة، فقد كان هذا المرض يجبره على التوقف للحظات، لذلك جاء التفكير بقتله من خلال مادة الزرنيخ التي كانت تحويها الكريمات التي تستخدم في عمل المساج له، حيث كان الجسم يمتصها عن طريق الجلد، فتحدث تأثيرها بشكل تدريجي لأنها كانت بنسب ضئيلة، ومع الإجهاد والسكر البرونزي الذي كان يعاني منه، تأثر قلبه، وهو ما عجل بالوفاة عندما بذل في مؤتمره الأخير جهدا كبيرا. هل يمكن الكشف عن حقيقة قتله هذه بتحليل رفاته حاليا ؟ بالطبع يمكن ذلك، ولو كان مات مقتولا فسنجد نسبة من السموم بالعظام أو الأظافر أو الشعر. ولكن هل يمكن معرفة ما إذا كان السم وصله عن طريق القهوة أو الكريمات؟ لا يمكن تحديد ذلك، لأن مع مرور ما يقرب من نصف قرن لن يتبقى من الرفات سوى العظام، في حين أن الكشف عن القتل بواسطة الكريم لا يمكن معرفته إلا بتحليل الجلد، والكشف عن تناوله من خلال مشروب لا يمكن معرفته إلا بتحليل عينات من المعدة والأمعاء، وهو ما ليس موجودا الآن. الشيء الوحيد وماذا تقول فيما تردد بأن هناك شبهة جنائية وراء موت عمر سليمان؟ وهذا ما أرجحه أيضا، لأن القصة التي صاحبت موته لا تنطبق مع الواقع الذي نعرفه منذ سنوات، حيث قيل إنه أصيب فجأة بالكلي والكبد ونحو 6 أمراض دفعة واحدة، فكيف ذلك والمريض بمرض واحد يظل يعانى منه سنوات، وهل يمكن اكتشاف كل هذه الأمراض دفعة واحدة وفي وقت واحد، لذلك تقول ظروف الواقعة أن الأرجح أنه مات مقتولا، خصوصا أنه عندما سافر للخارج قيل إنه ذاهب لا للعلاج، ولكن لإجراء فحوصات للاطمئنان ليس إلا، ثم هل يعقل أن تكون لديه كل هذه الأمراض ويتقدم لمنصب رئيس الجمهورية، بجانب أن المستشفي الذي يتعامل معه جهاز المخابرات يعد من أكبر المستشفيات، والأكثر تطورا ويستقدم أكبر الخبراء في العالم، فهل يعقل أنه لم يكتشف ذلك وهو الذي يجري فحوصاته فيه بشكل مستمر، كما أن ظروف التخلص منه هي الأنسب حاليا، لذلك أرجح أنه تم التخلص منه بطريقة ما، فقد يكون تم إعطاؤه بنجا زائدا أثناء الجراحة، مثلما حدث مع شاه إيران الذي مات أثناء العملية الجراحية بإعطائه بنجا أكثر من اللازم، وهذا الأمر لا يمكن اكتشافه عند تحليله فيما بعد، فالسموم والإصابات القاتلة هي الشيء الوحيد الذي يبقي ويمكن اكتشافه بعد الموت. وكيف ترى لغز موت عبد الحكيم عامر؟ لدي ثقة أنه مات مسموما، سواء بتناوله السم أو بقتله وإظهاره على أنه منتحر، فالظروف التي أحاطت بموته تقول إنه تناول مادة سمية، ولكن هل هو من تناولها أم دست له في عصير الجوافة؟ والصعوبة في موته تأتي من كونه مات بسم متطاير «إكونتين» وتم التعرف عليه من الشريط الذي وجد بجواره بعد موته وبتحليله وجدت هذه المادة السمية فيه. كيف تم التوصل إلى أن نابليون مات مسموما؟ لقد عرف سر موته من شعره، فالسموم عادة تستقر تحت الأظافر وفي الشعر، وتظل مئات وآلاف السنين، إذا بقى الشعر موجودا، لأنه طالما هو بعيد عن الماء، لا يمر بمرحلة العفن التي يمر بها باقي الجسم، وحتى لو تعرض للماء فهو لا يغير به إلا قليلا، ونفس الأمر يمكن قوله بالنسبة للأسنان والأظافر . ومن يدرينا أن تلك الجثة كانت لنابليون؟ تم التعرف عليها بتحليل نواة الخلية، فمن خلال البصمة الوراثية أصبح في الإمكان التعرف منها على شخصية صاحب الجثة، وهذه النواة يمكن الحصول عليها من الأنسجة الوراثية والشعر أو أي قطعة من العظام.