قضى الحلاج عشر سنوات فى بغداد، يدعو الناس سراً لفكرة تفوق خيالهم وزمنهم لتجاوز الجسد والوصول إلى الله بالروح، وهو مذهب جامع لا يضاد عقيدة، لكنه يقبل كل العقائد بمبادئها لتتمازج مع عقيدته، وكانت تلك حصيلته مما جمع من آراء الفرس والهنود وأفكار الفلاسفة والكيميائيين والأطباء والسحرة، ولعل معظم خوارقه التى أبهرت الناس وجعلتهم يلتفون حوله مهتمين به، كانت تعاليم السحر التى تلقاها فى بلاد الهند.. ويحضرنى هنا ما جاء على لسانه حينما ذكر بأن الساحر يستطيع الاختفاء عن أعين الناس إذا ما دهن وجهه بمرهم، وهو مزيج من السمسم والشيرج وخط على جبينه أحرف ترسم صورة معينة، فتكون المحصلة أن الصديق يسير بجانب صديقه فلا يراه وقال فى ذلك: “يا طالما غبنا عن أشباح النظر ... بنقطة تحكى ضياءها القمر من سمسم و شيرج وأحرف ... وياسمين فى جبين قد سطر تمشوا ونمشى ونرى أشخاصكم ... وأنتم لا ترونا يا دبر”
وخلال تلك الفترة خسر مودة أساتذته الصوفية وأتباعهم لتعارض أفكاره مع دعوتهم.. وفى تلك الفترة تحديداً عرفنا الحلاج لأول مرة معارضاً سياسياً، وهو ما استوقفنى كثيراً لبعد ما ينادى به من روحانية، وما يأتى به من أفعال متعلقة بحب السيطرة والنفوذ إلى حد كبير، ففى سبيل نشر دعوته وكره الدولة متمثلة فى النظام العباسي، وكانت الأغلبية فيها للسنة فقام بالاتصال سراً بالعلويين وهى طائفة شيعية متشددة، وكان فى نيته أن يقوم بتأسيس دولة كاملة قائمة على أفكاره ومنهجه الروحي.. وتم الاتفاق بينه وبين “أبو عمارة الهاشمي” على القيام بثورة فى الوقت الذى يراه مناسبا.. وأخذ يكلم الناس عن مذهب الحلاج وكيف أنه ارتقى فى المقامات حتى صار سيداً، وهى أعلى المنازل فى الصوفية لدرجة أن صار له أتباع أطلقوا عليهم الحلاجيين كانوا يعتقدون أن روح سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام قد حلت فى الحلاج! وسرعان ما اتجه الحلاج للاتفاق مع “الشيعة الاثنا عشرية” تيمنا “إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا”، وذلك اللقب لفرقة الإسماعيلية الت ى اشتقت اسمها من السباعات التى وضعها الله تعالى فى الكون مثل أيام الأسبوع وغيرها.. ومازالت تلك الفرق وخصوصا الاثنا عشرية تأخذ مكانتها.
وفى ذلك الوقت كانت تلك الفرقة تريد إسقاط الدولة العباسية أيضا، ولكن خاب سعى الحلاج فى عقد اتفاق معهم.. وعندما نضج الحلاج ذاع صيته أكثر فأكثر أعرض عنه الاثنا عشرية لتخوفهم منه بقيادة الزعامة الدينية والمذهبية، فتحول للقرامطة وهكذا عاد إلى نشأته الأولى فتلك الحركة قد ظهرت أول ما عرفها الناس فى الكوفة وانتشروا، حتى أسسوا دولتهم ف ى تونس، وكانت الأوضاع السياسية والاقتصادية متدهورة تماماً فى بغداد وشعرت الدولة بتأثير ونوايا الحلاج للثورة عليها وإسقاطها وقوة تحالفاته وأتباعه. وظلت تطارده من مكان إلى آخر حتى قبضوا عليه بتهمة “ادعاء الألوهية”... ومن اللطيف حقاً فى سيرة الحلاج أن من قبض عليه “على بن عيسى الجراح الوزير” كان حكيماً ومحباً للصوفية، وعندما استجوب الحلاج تظاهر صوفينا الحلاج بالجهل والبلاهة، فأمر بأن يصلب فى الجانب الشرقى للمدينة مرة وأخرى فى الجانب الغربى، ليراه كل الناس لعدة أيام من الصباح الباكر حتى المغيب، ثم يؤخذ ليسجن وكان يهدف من ذلك أن يكون عبرة وفى ذات الوقت، ليبين للناس مدى تسامح الدولة مع كل الطوائف محاولة منه بشكل سياسى لين لكسب تعاطف كل الطوائف وحماية الدولة العباسية من السقوط، ويبدو أن حبس الحلاج سنيناً طويلة قد زاد من نفوذه وصيته بين الناس فى كل البلاد وكانت أخصب سنوات عمره من أفكار ومؤلفات، ولعل أبرز ما ألفه “الطواسين” وهى جمع “طس” فى القرآن الكريم وهى أيضاً توضيح ثنائية العلاقة ما بين الأضواء الإلهية الإشعاعية فى الخفاء أو الظهور وكان ذلك الكتاب مساراً جمالياً فى كل معانيه التى تركها فى ذهن كل متلقي، وفى ذلك الوقت كانت الدولة تنهار وتنقل الحلاج من سجن لآخر خوفاً من هجوم أتباعه على السجون وإنقاذه وفى إحدى المرات زاد السخط بين العامة وهجموا على السجون وفر كثير من المساجين إلا الحلاج الذى رفض، وكان يقول فى ذلك بأنه رضى بالمصير الذى اختاره الله له. وفى رواية أخرى قيل إنه هو من كسر قيود ثلاثمائة سجين وأطلقهم من السجن.
وكأن نفسه اطمأنت لهذا المصير وتبع كتابه الطواسين آخر “السياسة والخلفاء”وكان يقصد به “المقتدر” وكان خليفة الدولة العباسية فى ذلك الوقت، ثم كتاب “السياسة” وصار كل رجال الدولة بينهم وبينه جاذبية واستطاع أن يكسب حب وتعاطف وثقة الجميع، فصاروا يتبركون به.. ومن مقطع للحلاج يوضح فيه كيف عرف ربه. لا يعرف الحقَّ إلا من يَعرّفّهُ لا يعرفُ القِدَميَّ المُحدَثُ الفاني لا يُستَدلُّ على البارى بصنعته رأيتم حَدَثاً يُبنى عنِ أزْمانِ؟ كان الدليلُ له عنه إليه به من شاهدِ الحقِّ فى تنزيلِ فرقانِ كان الدليل له منه إليه به مِن شاهدِ الحقّ ِبل عِلماً بِتِبْيان هذا وجودى وتصريحى ومعتَقَدى هذا توحُّدُ توحيدى وإيمانى